السبب السادس :
الانتفاع . فالتعدي باستعمال الوديعة والانتفاع بها ، كلبس الثوب ، وركوب الدابة ، خيانة مضمنة . فإن كان هناك عذر ، بأن لبس لدفع الدود كما سبق ، أو ركب الدابة حيث يجوز إخراجها للسقي وكانت لا تنقاد إلا بالركوب ، فلا ضمان . وإن انقادت من غير ركوب فركب ، ضمن . ولو أخذ الدراهم ليصرفها إلى حاجته ، أو الثوب ليلبسه ، أو أخرج الدابة ليركبها ، ثم لم يستعمل ، ضمن ؛ لأن الإخراج على هذا القصد خيانة .
ولو نوى الأخذ لنفسه فلم يأخذ ، لم يضمن على الصحيح وقول الأكثرين ، وضمنه
ابن سريج . ويجري الخلاف ، فيما لو
نوى أن لا يرد الوديعة بعد طلب المالك . وقيل : يضمن هنا قطعا ؛ لأنه يصير ممسكا لنفسه ، قاله
القاضي أبو حامد والماوردي . ويجري الوجهان فيما إذا كان الثوب في صندوق غير مقفل فرفع رأسه ليأخذ الثوب ويلبسه ، ثم بدا له . ولو كان الصندوق مقفلا والكيس مختوما ، ففتح القفل وفض الختم ولم يأخذ ما فيه ، فوجهان : أحدهما : لا يضمن ما فيه ، وإنما يضمن الختم الذي تصرف فيه . وأصحهما : يضمن ما فيه ؛ لأنه هتك الحرز . وعلى هذا ، ففي ضمان الكيس والصندوق وجهان ؛ لأنه لم يقصد الخيانة في الظرف .
[ ص: 335 ] ولو خرق الكيس [ نظر ، إن كان الخرق ] تحت موضع الختم ، فهو كفض الختم . وإن كان فوقه ، لم يضمن إلا نقصان الخرق . ولو
أودعه شيئا مدفونا فنبشه ، فهو كفض الختم . ولا يلتحق بالفض وفتح القفل حل الخيط الذي يشد به رأس الكيس ، أو رزمة الثياب ؛ لأن القصد منه المنع من الانتشار ، لا أن يكون مكتوما عنه . وعن الحاوي وجهان فيما إذا كانت عنده دراهم فوزنها - أودعها - أو ثياب فذرعها ليعرف طولها ، أنه هل يضمن ؟ ويشبه أن يجيء هذا الخلاف في حل الشد .
قلت : ليس هو مثله . والله أعلم .
فرع
إذا
صارت الوديعة مضمونة على المودع بانتفاع أو إخراج من الحرز أو غيرهما من وجوه التقصير ، ثم ترك الخيانة ورد الوديعة إلى مكانها ، لم يبرأ ولم تعد أمانته . فلو ردها إلى المالك ثم أودعه ثانيا ، فلا شك في عود أمانته . فلو لم يردها ، بل أحدث له المالك استئمانا فقال : أذنت لك في حفظها ، أو أودعتكها ، أو استأمنتك ، أو أبرأتك من الضمان ، فوجهان . ويجوز أن يقال : قولان . أصحهما : يصير أمينا ويبرأ . ولو قال في الابتداء : أودعتك ، فإن خنت ثم تركت الخيانة ، عدت أمينا لي ، فخان ثم ترك الخيانة ، قال
المتولي : لا يعود أمينا بلا خلاف لأنه إسقاط ما لم يجب ، وتعليق للوديعة .
فرع
قال : خذ هذه وديعة يوما ، وغير وديعة يوما ، فهو وديعة أبدا . ولو
قال : [ ص: 336 ] وديعة يوما ، وعارية يوما ، فهو وديعة في اليوم الأول ، وعارية في اليوم الثاني ، ثم لا تعود وديعة أبدا ، حكاه
الروياني في كتابه البحر عن اتفاق الأصحاب .
فصل
إذا
خلط الوديعة بمال نفسه ، وفقد التمييز ، ضمن ، وإن خلطها بمال آخر للمالك ، ضمن أيضا على الأصح ؛ لأنه خيانة . ولو
أودعه دراهم فأنفق منها درهما ، ثم رد مثله إلى موضعه ، لا يبرأ من ضمانه ، ولا يملكه المالك إلا بالدفع إليه ، ثم إن كان المردود غير متميز عن الباقي ، صار الجميع مضمونا ، لخلطه الوديعة بمال نفسه . فإن تميز ، فالباقي غير مضمون ، وإن لم ينفق الدرهم المأخوذ ، ورده بعينه ، لم يبرأ من ضمان ذلك الدرهم ، ولا يصير الباقي مضمونا عليه إن تميز ذلك الدرهم عن غيره ، وإلا فوجهان . ويقال : قولان . أحدهما : يصير الباقي مضمونا لخلطه المضمون بغيره . وأصحهما : لا ؛ لأن هذا الخلط كان حاصلا قبل الأخذ . فعلى هذا ، لو كانت الجملة عشرة فتلفت ، لم يلزمه إلا درهم ، ولو تلفت خمسة ، لزمه نصف درهم . هذا كله إذا لم يكن على الدراهم ختم ولا قفل ، أو كان وقلنا : مجرد الفتح والفض لا يقتضي الضمان . أما إذا قلنا : يقتضيه وهو الأصح ، فبالفض والفتح يضمن الجميع .
فرع
إذا
أتلف بعض الوديعة ، ولم يكن له اتصال بالباقي ، كأحد الثوبين ، لم يضمن إلا المتلف . وإن كان له اتصال ، كتحريق الثوب ، وقطع طرف العبد والبهيمة ، نظر إن كان عاملا ، فهو جان على الكل ، فيضمن الجميع . وإن كان مخطئا ، ضمن المتلف ، ولا يضمن الباقي على الأصح .