[ ص: 103 ] فصل
قال لزوجتيه : إحداكما طالق ، فإن قصد واحدة بعينها ، فهي المطلقة ، فعليه بيانها . وإن أرسل اللفظ ولم يقصد معينة ، طلقت إحداهما مبهما ويعينها الزوج ، وهذان القسمان يشتركان في أحكام ، ويفترقان في أحكام ، ثم تارة يفصل حكمهما في الحياة ، وتارة بعد الموت .
الحالة الأولى : حالة الحياة ، وفيها مسائل :
الأولى : يلزم الزوج بالتبيين إذا نوى واحدة بعينها ، وبالتعيين إذا لم ينو ، ويمنع من قربانهما حتى يبين ، أو يعين ، وذلك بالحيلولة بينه وبينهما ، ويلزمه التبيين والتعيين على الفور ، فإن أخر ، عصى ، فإن امتنع ، حبس وعزر ، ولا يقنع بقوله : نسيت المعينة ، وإذا بين في الصورة الأولى ، فللأخرى أن تدعي عليه أنك نويتني وتحلفه ، فإن نكل حلفت وطلقتا ، وإذا عين في الصورة الثانية ، فلا دعوى لها ، لأنه اختيار ينشئه ، هذا كله في الطلاق البائن ، فلو أبهم طلقة رجعية بينهما ، فهل يلزمه أن يبين أو يعين في الحال ؟ وجهان حكاهما الإمام ، أحدهما : نعم ، لحصول التحريم ، وأصحهما : لا ، لأن الرجعية زوجة .
المسألة الثانية : يلزمه نفقتهما إلى البيان والتعيين ، وإذا بين أو عين ، لا يسترد المصروف إلى المطلقة ، لأنها محبوسة عنده حبس الزوجة .
الثالثة : وقوع الطلاق فيما إذا نوى معينة يحصل بقوله : إحداكما طالق ، ويحتسب عدة من بين الطلاق فيها من حين اللفظ على المذهب المنصوص . وحكي قول مخرج : أنها من وقت البيان ، قال الإمام : وهذا غير سديد .
أما
إذا لم ينو معينة ، ثم عين ، فهل يقع الطلاق من حين قال : إحداكما [ ص: 104 ] طالق ، أم من حين التعيين ؟ وجهان ، رجحت طائفة الثاني ، منهم الشيخ
أبو علي ، ورجح الشيخ
أبو حامد والقاضي
أبو الطيب nindex.php?page=showalam&ids=14396والروياني وآخرون الأول . قالوا : ولولا وقوع الطلاق ، لما منع منهما ، وهذا أقرب .
قلت : هذا الذي قاله
أبو حامد وموافقوه ، هو الصواب . والله أعلم .
فإن قلنا : يقع الطلاق بالتعيين ، فمنه العدة ، وإن قلنا : باللفظ ، فهل العدة منه ، أم من التعيين ؟ فيه الخلاف السابق ، فيما إذا نوى معينة . والأكثرون على أن الراجح ، احتساب العدة من التعيين كيف قدر البناء ، هذا كله في حياة الزوجين ، وسنذكر إن شاء الله أنهما إذا ماتتا أو إحداهما تبقى المطالبة بالتعيين لبيان حكم الميراث ، وحينئذ فإن أوقعنا الطلاق باللفظ ، فذاك ، وإن أوقعناه بالتعيين ، فلا سبيل إلى إيقاع طلاق بعد الموت ، ولا بد من إسناده للضرورة ، وإلى ما يسند ؟ وجهان ، أصحهما عند الإمام : إلى وقت اللفظ فيرتفع الخلاف ، وأرجحهما عند
nindex.php?page=showalam&ids=14847الغزالي : إلى قبيل الموت .
المسألة الرابعة : لو وطئ إحداهما ، نظر ، إن كان نوى معينة ، فهي المطلقة ، ولا يكون الوطء بيانا ، بل تبقى المطالبة بالبيان ، فإن بين الطلاق في الموطوءة ، فعليه الحد إن كان الطلاق بائنا ، ويلزمه المهر لجهلها كونها المطلقة ، وإن بين في غير الموطوءة ، قبل ، فإن ادعت الموطوءة أنه أرادها ، حلف ، فإن نكل وحلفت ، طلقتا وعليه المهر ، ولا حد للشبهة .
وإن لم يكن نوى معينة ، فهل يكون الوطء تعيينا ؟ وجهان ، ويقال : قولان ، أحدهما : نعم ، وبه قال
المزني وأبو إسحاق nindex.php?page=showalam&ids=15146وأبو الحسن الماسرجسي ، ورجحه
nindex.php?page=showalam&ids=13459ابن كج ، والثاني : لا ، وبه قال
nindex.php?page=showalam&ids=12535ابن أبي هريرة ، ورجحه صاحبا " الشامل " و " التتمة " .
[ ص: 105 ] قلت : هذا الثاني ، هو الأصح عند
الرافعي في " المحرر " ، وهو المختار . قال في " الشامل " : وهو ظاهر نص
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي رحمه الله ، فإنه قال : إذا قال : إحداكما طالق ، منع منهما ، ومن يقول : الوطء تعيين ، لا يمنعه وطء أيهما شاء . والله أعلم .
فإن جعلنا الوطء تعيينا للطلاق ، ففي كون سائر الاستمتاعات تعيينا وجهان بناء على الخلاف في تحريم الربيبة بذلك ، وإذا جعلنا الوطء تعيينا للطلاق في الأخرى ، فلا مهر للموطوءة ولا مطالبة ، وإلا فتطالب بالتعيين ، فإن عين الطلاق في الموطوءة ، فلها المهر إن قلنا : يقع الطلاق باللفظ ، وإن قلنا بالتعيين ، فحكى
الفوراني أنه لا مهر ، وذكر فيه احتمالا ، وذكر
ابن الصباغ وغيره تفريعا على أن الوطء تعيين : أن الزوج لا يمنع من وطء أيهما شاء ، وإنما يمنع منهما إذا لم يجعل الوطء تعيينا ، ولما أطلق الجمهور المنع منهما جميعا ، أشعر ذلك بأن الأصح عندهم ، أنه ليس بتعيين .
الخامسة : في ألفاظ البيان والتعيين ، فإن نوى معينة ، حصل البيان بأن يقول مشيرا إلى واحدة : المطلقة هذه ، ولو قال : الزوجة هذه ، بأن الطلاق في الأخرى ، وكذا لو قال : لم أطلق هذه .
ولو قال : أردت هذه بل هذه ، أو قال : هذه وهذه ، أو هذه هذه ، وأشار إليهما ، أو هذه مع هذه ، طلقتا ، قال الإمام : وهذا فيما يتعلق بظاهر الحكم ، فأما في الباطن ، فالمطلقة هي المنوية فقط ، حتى لو قال : إحداكما طالق ونواهما ، فالوجه عندنا أنهما لا تطلقان ، ولا يجيء فيه الخلاف في قوله : أنت طالق واحدة ، ونوى ثلاثا ، لأن حمل إحدى المرأتين عليهما لا وجه له ، وهناك يتطرق إلى الكلام تأويل .
ولو قال : أردت هذه ثم هذه ، أو هذه فهذه ، قال القاضي
حسين وصاحباه
[ ص: 106 ] المتولي والبغوي : تطلق الأولى دون الثانية لاقتضاء الحرفين الترتيب . وحكى الإمام هذا عن القاضي ، واعترض بأنه اعترف بطلاق الثانية أيضا ، فليكن كقوله : هذه وهذه ، والحق هو الاعتراض .
قلت : قول القاضي أظهر . والله أعلم .
ولو قال : أردت هذه بعد هذه ، فقياس الأول أن تطلق المشار إليها بائنا وحدها . ولو قال : هذه قبل هذه ، أو بعدها هذه ، فقياس الأول أن تطلق المشار إليها أولا وحدها ، وقياس الاعتراض ، الحكم بطلاقهما في الصورة ، ولو قال : أردت هذه أو هذه ، استمر الإبهام والمطالبة بالبيان .
ولو
كان تحته أربع ، فقال : إحداكن طالق ، ونوى واحدة بعينها ، ثم قال : أردت هذه بل هذه بل هذه ، طلقن جميعا ، وكذا لو عطف
[ بالواو فلو عطف ] بالفاء أو بثم ، عاد قول القاضي والاعتراض .
ولو
قال وهن ثلاث : أردت أو طلقت هذه ، بل هذه أو هذه ، طلقت الأولى وإحدى الأخريين ، ويؤمر بالبيان . وإن قال : هذه أو هذه ، بل هذه ، طلقت الأخيرة وإحدى الأوليين ، ويؤمر بالبيان . ولو قال : هذه وهذه أو هذه ، نظر إن فصل الثالثة عن الأوليين بوقفة أو بنغمة ، أو أداء ، فالطلاق مردد بين الأوليين وبين الثالثة وحدها ، وعليه البيان ، فإن بين في الثالثة ، طلقت وحدها ، وإن بين في الأوليين أو إحداهما ، طلقتا ، لأنه جمع بينهما بالواو العاطفة ، فلا يفترقان .
وإن فصل الثانية عن الأولى ، تردد الطلاق بين الأولى وإحدى الأخريين ،
[ ص: 107 ] فإن بين في الأولى ، طلقت وحدها . وإن بين في الأخريين أو إحداهما ، طلقتا جميعا ، وإن سرد الكلام ولم يفصل ، احتمل كون الثالثة مفصولة عنهما ، واحتمل كونها مضمومة إلى الثانية مفصولة عن الأولى ، فيسأل ويعمل بما أظهر إرادته . ولو قال : هذه أو هذه وهذه ، فإن فصل الثالثة عن الأوليين ، تردد الطلاق بين إحدى الأوليين ، والأخرى مطلقة وحدها . وإن فصل الأخريين عن الأولى ، فالتردد بين الأولى وحدها ، وبين الأخريين معا ، وإن سرد الكلام ولم يفصل ، فهما محتملان ولو
قال وهن أربع وقد طلق واحدة : أردت هذه أو هذه
[ لا ] ، بل هذه وهذه ، طلقت الأخريان وإحدى الأوليين . ولو قال : هذه وهذه ، بل هذه أو هذه ، طلقت الأوليان وإحدى الأخريين . ولو قال : هذه وهذه وهذه أو هذه ، فإن فصل الأخيرة عن الثلاث ، تردد الطلاق بين الثلاث والرابعة . وإن فصل الثالثة عما قبلها ، طلقت الأوليان وإحدى الأخريين ، وإن فصل الثانية عن الأولى ، فينبغي أن يقال : تطلق الأولى ، ويتردد الطلاق بين الثانية والثالثة معا ، وبين الرابعة وحدها ، فعليه البيان . وإن سرد الكلام ، قال
البغوي : تطلق الثلاث أو الرابعة ، ويؤمر بالبيان . فإن بين في الثلاث أو بعضهن ، طلقن جميعا ، وإن بين في الرابعة ، طلقت وحدها . والوجه أن يقال : صورة السرد تحتمل احتمالات الثلاث ، فيراجع ويعمل بمقتضى قوله كما سبق . ولو قال : هذه وهذه ، أو هذه وهذه ، فقد يفصل الأولى عن الثلاث الأخيرة ، ويضم بعضهن إلى بعض ، فتطلق الأولى ويتردد بين الثانية وحدها ، وبين الأخريين معا . وقد يفرض الفصل بين الأوليين والأخريين ، والضم فيهما ، فتطلق الأوليان والأخريان . وقد يفرض فصل الرابعة عما قبلها فتطلق الرابعة ، ويتردد الطلاق بين الثالثة وحدها وبين الأوليين معا . ومتى
قال : هذه المطلقة ، ثم قال : لا أدري أهي [ ص: 108 ] هذه أم غيرها ؟ فتلك طالق بكل حال وتوقف الباقيات ، فإن قال بعد ذلك : تحققت أن المطلقة الأولى ، قبل منه ، ولم تطلق غيرها . وإن عين أخرى ، حكم بطلاقها ، ولم يقبل رجوعه عن الأولى . والوقفة التي جعلناها فاصلة بين اللفظين مع إعمال اللفظين ، هي الوقفة اليسيرة ، فأما إذا طالت ، فقطعت نظم الكلام بأن قال : أردت هذه ثم قال بعد طول المدة : أو هذه وهذه ، فهذا الكلام الثاني لغو إذ لا يستقل بالإفادة ، هذا كله إذا نوى عند اللفظ المبهم واحدة معينة . أما إذا لم ينو فطولب بالتعيين ،
فقال مشيرا إلى واحدة : هذه المطلقة ، تعينت ولغا ذكر غيرها ، سواء عطف غيرها بالفاء وثم ، أو بالواو أو ب " بل " ، لأن التعيين هنا ليس إخبارا عن سابق ، بل هو إنشاء اختيار ، وليس له إلا اختيار واحدة ، وسواء قلنا : يقع الطلاق بالتعيين أو باللفظ .
المسألة السادسة : لو
ادعت التي علق طلاقها بكون الطائر غرابا أنها مطلقة ، لزمه أن يحلف جزما على نفي الطلاق ، كما لو ادعى نسيان المطلقة . ولو ادعت أنه كان غرابا وأنها طلقت ، لزمه أن يحلف على الجزم أنه لم يكن غرابا ، ولا يكتفى بقوله : لا أعلم أنه كان غرابا أو نسيت الحال ، كذا ذكره الإمام ، وفرق بينه وبين ما إذا علق طلاقها بدخول الدار ونحوه وأنكر حصوله ، فإنه يحلف على نفي العلم بالدخول ، لأن الحلف هناك على نفي فعل الغير . وأما نفي الغرابية ، فهو نفي صفة في الغير ، ونفي الصفة كثبوتها في إمكان الاطلاع عليها . قال
nindex.php?page=showalam&ids=14847الغزالي في " البسيط " : في القلب من هذا الفرق شيء ، فليتأمل ، ويشبه أن يقال : إنما يلزمه الحلف على نفي الغرابية إذا تعرض لها في الجواب .
أما إذا اقتصر على قوله : لست بمطلقة ، فينبغي أن يكتفى منه بذلك كنظائره .