الطرف الثاني : في أحكام القذف .
فإن كان المقذوف محصنا ، فعلى القاذف الحد ، وإلا فالتعزير .
وشروط الإحصان : العقل ، والبلوغ ، والحرية ، والإسلام ، والعفة عن الزنا . فلو
قذف مجنونا أو صبيا أو عبدا أو كافرا ، لم يحد لكن يعزر للإيذاء .
وتبطل العفة بكل وطء يوجب الحد ، ومنه ما إذا وطئ جارية زوجته ، أو جارية أحد أبويه ، أو نكح محرما له ، أو وطئ المرتهن المرهونة عالما بالتحريم ، وكذا لو أولج في دبر ، ثم نقل
البغوي ، أنه تبطل حصانة الفاعل دون المفعول به ، لأن الإحصان لا يحصل بالتمكين في الدبر ، فكذا لا تبطل به الحصانة ، ورأى هو أن تبطل حصانتهما جميعا ، لوجوب الحد عليهما .
قلت : إبطال حصانتهما ، هو الراجح ، وأي عفة وحرمة لمن مكن من دبره مختارا عالما بالتحريم ؟ والله أعلم .
وأما الوطء الذي لا حد فيه ، فللأصحاب في ترتيب صوره وضبطه طرق أشهرها : أنه ينظر ، أجرى ذلك في ملك نكاح ، أو يمين ، أم في غير ملك ؟ .
القسم الأول : المملوك ، وهو ضربان . أحدهما : محرم حرمة مؤبدة ، كمن
[ ص: 322 ] وطئ مملوكته التي هي أخته ، أو عمته برضاع أو نسب عالما بالتحريم . فإن قلنا : يوجب الحد ، بطلت حصانته ، وإلا فتبطل أيضا على الأصح ، لدلالته على عدم عفته ، بل هذا أفحش من الزنا بأجنبية ، ولو وطئ زوجته في دبرها ، بطلت حصانته على الأصح .
الضرب الثاني : ما يحرم غير مؤبد ، وهو نوعان . أحدهما : ما له حظ من الدوام ، كوطء زوجته المعتدة عن شبهة وغيره وأمته المعتدة أو المزوجة ، أو المرتدة ، أو المجوسية ، وأمته في مدة الاستبراء ، فلا تبطل حصانتها على الأصح ، لقيام الملك وعدم تأبد الحرمة ، وعدم دلالته الظاهرة على قلة المبالاة بالزنا .
النوع الثاني : ما حرم لعارض سريع الزوال ، كوطء زوجته وأمته في الحيض ، أو النفاس ، أو الإحرام ، أو الاعتكاف ، أو المظاهر منها قبل التكفير ، فلا تبطل الحصانة على المذهب . وقيل : على الوجهين .
القسم الثاني :
الوطء الجاري في غير ملك ، كوطء الشبهة ، وجارية الابن . وفي النكاح الفاسد ، كالنكاح بلا ولي ولا شهود . وفي الإحرام ونكاح المتعة والشغار ووطء المكاتبة والرجعية في العدة ، ففي بطلان حصانته وجهان . قال الشيخ
أبو حامد : أصحهما لا تبطل ، واختار
أبو إسحاق البطلان . قال
الروياني : هو أقرب .
وأما وطء المشتركة ، فقال
الداركي : هو على الوجهين ، وأشار صاحب الشامل وجماعة إلى القطع بأنه كوطء الزوجة في الحيض ، هذا أحد الطرق .
والطريق الثاني : أن في
سقوط الحصانة بوطء المملوكة المحرمة برضاع أو نسب وجهين . وفي المشتركة وجارية الابن وجهان ، وأولى ببقاء الحصانة . وفي المنكوحة بلا ولي وجهان ، وأولى بالبقاء للاختلاف في إباحته ، وفي الوطء
[ ص: 323 ] بالشبهة وجهان ، وأولى بالبقاء ، لأنه ليس بحرام ، ووجه إسقاطها ، إشعاره بترك التحفظ . وفي الوطء الجاري في الجنون والصبي على صورة الزنا وجهان ، وأولى بالبقاء لعدم التكليف ، وهو الأصح .
والطريق الثالث : لا تبطل
الحصانة بالوطء في ملك أو مع عذر كالشبهة ، وتبطل بما خلا عن المعنيين ، كوطء جارية الابن وأحد الشريكين .
والرابع :
تبطل الحصانة بكل وطء حرام ، كالحائض ، دون ما لا يحرم ، كالوطء بشبهة ، فإنه لا يوصف بالحرمة .
والخامس :
كل وطء تعلق به حد مع العلم بحاله يسقط الحصانة ، وما لا حد فيه مع العلم لا يسقطها ، كوطء جارية الابن والمشتركة .
قلت : قد جمع إمام الحرمين هذا الخلاف المنتشر مختصرا فقال : ينتظم منه ستة أوجه :
أحدها : لا تسقط الحصانة إلا ما يوجب الحد .
والثاني : يسقطها هذا ، ووطء ذوات المحارم بالملك ، وهذا هو الأصح عند
الرافعي في " المحرر " ، وهو المختار .
والثالث : يسقطها هذا ، ووطء الأب والشريك .
والرابع : هذا ، والوطء في نكاح فاسد .
والخامس : هذا ، ووطء الشبهة من مكلف .
والسادس : هذا ، ووطء الصبي والمجنون ، ويجيء فيه سابع ، وهو هذا ، والوطء المحرم في الحيض وغيره ، ولا فرق في النكاح الفاسد بين العالم بتحريمه والجاهل ، قاله
البغوي ، وينبغي أن يكون الجاهل كالواطئ بشبهة . والله أعلم .
[ ص: 324 ] فرع
قال
البغوي :
الكافر إذا كان قريب عهد بالإسلام ، فغصب امرأة ووطئها ظانا حلها ، لا تبطل حصانته ، ويشبه أن يجيء فيه الخلاف في وطء الشبهة .
قلت : لا بد من مجيء الخلاف . والله أعلم .
فرع
مقدمات الزنا كالقبلة واللمس وغيرهما لا تؤثر في الحصانة بحال ، وللشيخ
أبي محمد فيها احتمال .
قلت : ومما يتعلق بهذا ، لو اشترى جارية فوطئها فخرجت مستحقة ، ففي بطلان حصانته وجهان في " الإبانة " و " المهذب " ، وهو من أقسام الشبهة ، فيكون الراجح بقاء الحصانة . ولو نكح مجوسي أمة ووطئها ثم أسلم ، قال
البغوي : لا تبطل حصانته ، وقال
الفوراني : تبطل ، والأول أفقه ، لأنه لا يعتقد تحريمه . ولو أكره على الوطء ، ففي بطلان حصانته وجهان حكاهما
الفوراني ، والمختار أنها لا تبطل ، لأنه لا يعد تاركا للاحتياط . والله أعلم .
فرع
قذف عفيفا في الظاهر ، فزنا المقذوف قبل أن يحد القاذف ، سقط الحد عن القاذف على المشهور ، وفيه قول قديم ، وهو مذهب
المزني ، ولو ارتد المقذوف قبل الحد ، لم يسقط على الصحيح ، فعلى المشهور ، لو قذف زوجته ثم زنت ، سقط الحد عنه واللعان ، فإن كان هناك ولد وأراد نفيه ، فله اللعان ، ولو سرق المقذوف أو قتل قبل استيفائه الحد ، لم يسقط على المذهب ، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=12858ابن القطان حكاية وجهين فيه .
[ ص: 325 ] فرع
من زنا مرة وهو عبد أو كافر ، أو عدل عفيف ، أو غيرهم من المكلفين ، ثم أعتق العبد ، وأسلم الكافر ، وتاب الآخر ، وحسنت أحوالهم ، لم تعد حصانتهم ، ولم يحد قاذفهم ، سواء قذفهم بذلك الزنا أو بزنا بعده ، وفيما بعده احتمال . ولو جرت صورة الزنا من صبي أو مجنون ، لم تسقط حصانته ، فمن قذفه بعد الكمال ، حد ، لأن فعلهما ليس زنا لعدم التكليف .
فرع
قذف زوجته أو غيرها وعجز عن إقامة البينة على زنا المقذوف ، فهل له تحليفه أنه لم يزن ؟ فيه قولان ، ويقال : وجهان . الموافق لجواب الأكثرين : له تحليفه ، قالوا : ولا تسمع الدعوى بالزنا والتحليف على نفيه إلا في هذه المسألة .
قلت : العجز عن البينة ليس بشرط ، بل متى طلب يمينه ، جاء الخلاف ، قال
البغوي : ولو قذف ميتا ، وطلب وارثه الحد ، وطلب القاذف يمينه : أنه لا يعلم مورثه زنا ، نص
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي رحمه الله أنه يحلفه ، قال : وفيه الخلاف المذكور . والله أعلم .
فرع
هل على الحاكم البحث عن إحصان المقذوف ليقيم الحد على القاذف ، كما عليه البحث عن عدالة الشهود ليحكم بشهادتهم ؟ وجهان . قال
أبو إسحاق : نعم ، وأصحهما عند الأصحاب : لا ، لأن القاذف عاص فغلظ عليه بإقامة الحد بظاهر الإحصان ، والمشهود عليه لم يوجد منه ما يقتضي التغليظ .