فصل في
الصفات المستحبة في الإمام
الأسباب التي يترجح بها الإمام ستة : الفقه ، والقراءة ، والورع ، والسن ، والنسب ، والهجرة . فأما الفقه والقراءة ، فظاهران .
وأما الورع ، فليس المراد منه مجرد العدالة ، بل ما يزيد عليه من حسن السيرة والعفة .
وأما السن ، فالمعتبر سن مضى في الإسلام ، فلا يقدم شيخ أسلم اليوم ، على شاب نشأ في الإسلام ، ولا على شاب أسلم أمس . والصحيح : أنه لا تعتبر الشيخوخة ، بل النظر إلى تفاوت السن ، وأشار بعضهم إلى اعتبارها .
وأما النسب ، فنسب
قريش معتبر بلا خلاف . وفي غيرهم وجهان . أصحهما : يعتبر كل نسب يعتبر في الكفاءة ، كالعلماء ، والصلحاء . فعلى هذا الهاشمي والمطلبي يقدمان على سائر
قريش ، وسائر
قريش يقدمون على سائر العرب ، وسائر العرب يقدمون على العجم . والثاني : لا يعتبر ما عدا
قريشا .
وأما الهجرة ، فيقدم من هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على من لم يهاجر . ومن تقدمت هجرته على من تأخرت . وكذلك الهجرة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من دار الحرب إلى دار الإسلام - معتبرة ، وأولاد من هاجر أو تقدمت هجرته ، مقدمون على أولاد غيرهم .
[ ص: 355 ] ويتفرع على هذه المقدمة مسائل . فإذا
اجتمع عدل وفاسق ، فالعدل أولى بالإمامة وإن اختص الفاسق بزيادة الفقه والقراءة وسائر الخصال ، بل تكره
الصلاة خلف الفاسق وتكره أيضا خلف
المبتدع الذي لا يكفر ببدعته . وأما الذي يكفر ببدعته ، فلا يجوز الاقتداء به . وحكمه ما تقدم في غيره من الكفار . وعد صاحب ( الإفصاح ) من يقول بخلق القرآن ، أو ينفي شيئا من صفات الله تعالى - كافرا . وكذا جعل
nindex.php?page=showalam&ids=14847الشيخ أبو حامد ، ومتابعوه ،
والمعتزلة ممن يكفر .
والخوارج لا يكفرون . ويحكى القول بتكفير من يقول بخلق القرآن عن
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي . وأطلق
القفال وكثيرون من الأصحاب ، القول بجواز الاقتداء بأهل البدع ، وأنهم لا يكفرون . قال صاحب ( العدة ) : وهو ظاهر مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي .
قلت : هذا الذي قاله
القفال ، وصاحب ( العدة ) هو الصحيح أو الصواب . فقد قال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي رحمه الله : أقبل شهادة أهل الأهواء ، إلا
الخطابية ، لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم . ولم يزل السلف والخلف على
الصلاة خلف المعتزلة ، وغيرهم ، ومناكحتهم ، وموارثتهم ، وإجراء أحكام المسلمين عليهم . وقد تأول
الإمام الحافظ الفقيه أبو بكر البيهقي ، وغيره من أصحابنا المحققين ، ما جاء عن
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي وغيره من العلماء ، من تكفير القائل بخلق القرآن على كفران النعم ، لا كفر الخروج من الملة ، وحملهم على هذا التأويل ما ذكرته من إجراء أحكام المسلمين عليهم . والله أعلم .
وفي الأورع مع الأفقه والأقرأ وجهان . قال الجمهور : هما مقدمان عليه . وقال
الشيخ أبو محمد ، وصاحب ( التتمة ) و ( التهذيب ) : يقدم عليهما ، والأول أصح . ولو اجتمع من لا يقرأ إلا ما يكفي الصلاة ولكنه صاحب فقه كثير ،
[ ص: 356 ] وآخر يحسن القرآن كله وهو قليل الفقه ، فالصحيح المنصوص الذي قطع به الجماهير : أن الأفقه أولى ، والثاني : هما سواء . فأما من جمع الفقه والقراءة ، فهو مقدم على المنفرد بأحدهما قطعا . والفقه والقراءة يقدم كل واحد منهما على النسب والسن والهجرة . وعن بعض الأصحاب قول مخرج : أن السن يقدم على الفقه ، وهو شاذ . وإذا استويا في الفقه والقراءة ، ففيه طرق . قال
nindex.php?page=showalam&ids=14847الشيخ أبو حامد ، وجماعة : لا خلاف في تقديم السن والنسب على الهجرة . فلو تعارض سن ونسب ، كشاب قرشي ، وشيخ غير قرشي ، فالجديد : تقديم الشيخ ، والقديم : الشاب . ورجح جماعة هذا القديم ، وعكس صاحبا ( التتمة ) و ( التهذيب ) فقالا : الهجرة مقدمة على النسب والسن . وفيهما القولان . وقال آخرون ، منهم صاحب ( المهذب ) : الجديد : يقدم السن ، ثم النسب ، ثم الهجرة ، والقديم : يقدم النسب ، ثم الهجرة ، ثم السن . أما إذا تساويا في جميع الصفات المذكورات ، فيقدم بنظافة الثوب والبدن عن الأوساخ ، وبطيب الصنعة ، وحسن الصوت ، وما أشبهها من الفضائل . وحكى الأصحاب عن بعض متقدمي العلماء ، أنهم قالوا : يقدم أحسنهم . واختلفوا في معناه . فقيل : أحسنهم وجها ، وقيل : أحسنهم ذكرا بين الناس . قال في ( التتمة ) : تقدم نظافة الثوب ، ثم حسن الصوت ، ثم حسن الصورة .
فرع
الوالي في محل ولايته ، أولى من غيره ، وإن اختص ذلك الغير بالخصال الذي سبقت . ويقدم الوالي على إمام المسجد ومالك الدار ونحوهما ، إذا أذن
[ ص: 357 ] المالك في إقامة الجماعة في ملكه . فلو أذن الوالي في تقدم غيره فلا بأس . ثم يراعى في الولاة تفاوت الدرجة ، فالإمام الأعظم ، أولى من غيره ، ثم الأعلى فالأعلى من الولاة والحكام . ولنا قول شاذ : أن المالك أولى من الوالي . والمشهور ، تقديم الوالي . ولو اجتمع قوم في موضع مملوك ليس فيهم وال ، فساكن الموضع بحق أولى بالتقديم والتقدم من الأجانب ، فإن لم يكن أهلا للتقدم ، فهو أولى بالتقديم ، سواء كان الساكن عبدا أسكنه سيده ، أو حرا مالكا ، أو مستعيرا ، أو مستأجرا . ولو كانت الدار مشتركة بين شخصين وهما حاضران ، أو أحدهما ، والمستعير من الآخر ، فلا يتقدم غيرهما إلا بإذنهما ، ولا أحدهما إلا بإذن الآخر . فإن لم يحضر إلا أحدهما ، فهو الأحق . ولو
اجتمع مالك الدار والمستأجر ، فالأصح : أن المستأجر أولى ، والثاني : المالك . ولو
اجتمع المعير والمستعير ، فالأصح : أن المعير أولى ، والثاني : المستعير . ولو حضر السيد وعبده الساكن ، فالسيد أولى قطعا ، سواء المأذون له في التجارة وغيره . ولو
حضر السيد والمكاتب في دار المكاتب ، فالمكاتب أولى . ولو
حضر قوم في مسجد له إمام راتب ، فهو أولى من غيره . فإن لم يحضر إمامه ، استحب أن يبعث إليه ليحضر . فإن خيف فوات أول الوقت ، استحب أن يتقدم غيره .
قلت : تقدم غيره مستحب إن لم يخف فتنة ، فإن خيفت صلوا فرادى . ويستحب لهم أن يعيدوا معه إن حضر بعد ذلك . والله أعلم .