النوع الثالث :
إبطال المنافع وهي لا تباشر بالتفويت ، وإنما تفوت تبعا لمحلها ، وقد ترد الجناية على غير محلها ، وتفوت هي بالسراية لارتباط بينها وبين محل الجناية ، فلو أوضح رأسه ، فذهب ضوء عينيه ، فالنص أنه يجب القصاص في الضوء كما يجب في الموضحة ، ونص فيما إذا قطع أصبعه فسرى إلى الكف ، أو إلى أصبع أخرى بتآكل أو شلل ، أنه لا يجب القصاص في محل السراية .
فقيل : فيهما قولان ، والمذهب تقرير النصين ، والفرق أن الضوء ونحوه من اللطائف لا تباشر بالجناية ، وإنما تقصد بالجناية على محلها ، أو محل آخره ، وإذا أوجبنا القصاص في الضوء بالسراية ، فالذي صححه الإمام نقلا ومعنى أن السمع كالبصر .
وحكى فيما إذا
أبطل بطش عضو بالسراية تردد الأصحاب ، منهم من ألحقه بالضوء ، وبه قال صاحب " التقريب " ومنهم من رأى البطش عسر الإزالة ، كالأجسام ، وإليه ميل الشيخ
أبي محمد ، وفي العقل أيضا تردد لبعده عن التناول بالسراية ، قال : ولا يبعد إلحاق الكلام بالبصر ، ورتبها فجعل البصر والسمع في درجة ، ويليهما الكلام ، ويليه البطش ، ويليه العقل .
وذكر صاحب " المهذب " أنه لو
جنى على رأسه ، فذهب عقله ، أو على أنفه ، فذهب شمه ، أو على أذنه ، فذهب سمعه ، فلا قصاص في العقل والشم والسمع ، والأقرب منع القصاص في العقل ، ووجوبه في الشم والبطش والذوق ، لأن لها محال مضبوطة .
ولأهل الخبرة طرق في إبطالها ، وإذا ذهب الضوء بالموضحة ، واقتصصنا في الموضحة ، فلم يذهب ضوء الجاني ، أذهب بأخف ما يمكن ، كتقريب حديدة محماة من عينيه ، أو طرح كافور فيها ونحوهما ، وإن ذهب ضوء الجاني ، حصل القصاص
[ ص: 187 ] وفيه شيء يأتي إن شاء الله تعالى .
ولو
هشم رأسه ، فذهب ضوؤه ، عولج بما يزيل الضوء ولا يقابل الهشم بالهشم ، ولو لطمه ، فذهب ضوؤه واللطمة بحيث تذهب الضوء غالبا ، فالمنقول عن نصه في " الأم " أنه يلطم مثل لطمته ، فإن ذهب الضوء فعلى ما ذكرنا في الموضحة ، وإلا أزيل بالمعالجة ، وإن ابيضت الحدقة ، أو شخصت ، فعل به ما يفضي إليه إن أمكن ، ونسب صاحب " المهذب " هذا المنقول عن النص إلى بعض الأصحاب ، ثم قال : ويحتمل أن لا يقتص في اللطمة كما لا يقتص بالهاشمة ، لأنه لا قصاص في اللطمة لو انفردت ، وهذا حسن ، وجعله صاحب " التهذيب " وجها ، وقال : هو الأصح .
فرع .
إذا قلنا :
لا يجب القصاص في الأجسام بالسراية ، فقطع أصبعه ، فسرى القطع إلى الكف وسقطت ، فلا يجب القصاص إلا في تلك الأصبع ، وإذا اقتص في الأصبع ، فسرى إلى الكف فالنص أن السراية لا تقع قصاصا ، بل يجب على الجاني دية باقي اليد .
ونص فيما إذا
أوضحه فذهب ضوؤه وشعر رأسه ، فاقتص في الموضحة ، فذهب ضوء الجاني وشعر رأسه أيضا ، أنه يكون مستوفيا حقه ، ولو لم يذهب ضوء الجاني ، ونبت شعره ، فعليه دية البصر وحكومة الشعر .
وفي هذا النص إيقاع الشعر مقابلا للشعر وهو من الأجسام ، فاقتضى وقوع السراية في الأجسام قصاصا ، فقيل : قولان في أن السراية في الضوء والكف هل تقع قصاصا ؟ وقيل : في الكف قولان ، ويقع الضوء قطعا ، والمذهب أن السراية لا تقع قصاصا في الكف ولا في الشعر .
ولو عفا المجني عليه عن قصاص الأصبع ، فله دية اليد ، وإن اقتص ، فلم يسر القطع إلى غير تلك الأصبع ، أو سرى وقلنا : لا يقع قصاصا ، فله أربعة أخماس دية الكف للأصابع الأربع ، ولا تجب لمنابتها من الكف حكومة ، بل
[ ص: 188 ] تدخل في ديتها ، وفي دخول حكومة خمس الكف في قصاص الأصبع ، وجهان سيعودان إن شاء الله تعالى .
وما يجب من الدية يجب مغلظا في مال الجاني ، لأنه وجب بجناية عمد موجبة للقود ، وقيل : على العاقلة ، والصحيح الأول ، وله المطالبة به عقب قطع الأصبع .
وفي صورة الموضحة المذهبة للبصر ، لو أوضحه ، فلم يذهب ضوؤه في الحال ، لا يطالب بالدية ، بل ينتظر ، فلعله يسري إلى البصر فيحصل الاقتصاص ، وكذا في النفس ، لو قطع أصبعه فسرى إلى نفسه ، فقطع الولي أصبع الجاني ، ينتظر السراية ولا يطالب بالدية في الحال .
فرع .
له تعلق بالسراية . لو
قتل مستحق القصاص الجاني خطأ ، أو ضربه بسوط خفيف ، فهل يصير مستوفيا ؟ فيه خلاف ، ومثله : لو وثب الصبي ، أو المجنون على قاتل مورثه فقتله ، هل يصير مستوفيا ؟ وجهان ، أصحهما : لا .
فعلى هذا ينتقل حقه إلى الدية ، وتجب الدية بقتل الجاني ، وهل تكون عليه أم على عاقلته ؟ يبنى على الخلاف في أن عمدهما عمد أم خطأ ، ويجري فيما إذا ثبت قصاص لصبي أو مجنون ، فوثب على القاطع فقطع طرفه ، هل يكون مستوفيا لحقه ؟ ثم موضع الخلاف إذا لم يكن من الجاني تمكين ، فأما إذا أخرج يده إلى الصبي أو المجنون فقطعه ، فلا يكون مستوفيا لحقه بلا خلاف ، ويكون قطعه هدرا .