الطرف الثالث في
كيفية المماثلة :
وهي مشترطة في استيفاء القصاص ، فإذا قتله قتلا موحيا بمحدد ، كسيف وغيره ، أو بمثقل ، أو خنقه ، أو غرقه في ماء ، أو ألقاه في نار ، أو جوعه حتى مات ، أو رماه من شاهق ، فللولي أن يقتله بمثل ما قتل به .
ويستثنى عن هذه القاعدة ثلاث صور .
إحداها : إذا
قتله بسحر ، اقتص منه بالسيف ، لأن عمل السحر حرام ولا ينضبط .
الثانية : إذا
قتله باللواط ، وهو مما يقتل غالبا ، بأن لاط بصغير ، فالصحيح أنه يقتل بالسيف كمسألة السحر .
والثاني : تدس في دبره خشبة قريبة من آلته ويقتل بها ، قاله
أبو إسحاق والإصطخري ، قال
المتولي : هذا إن توقع موته بالخشبة ، وإلا فالسيف .
والثالث : لا يجب به القصاص ، لأنه لا يقصد به الإهلاك ، فيكون القتل به خطأ ، أو شبه عمد ، وهو غريب ضعيف .
الثالثة : إذا
أوجره خمرا حتى مات ، فثلاثة أوجه .
الصحيح : أنه يقتل بالسيف ، والثاني : يوجر مائعا ، كخل أو ماء أو شيء مر ، والثالث : لا قصاص ، لأنه لا يقصد به القتل وهو غريب ضعيف .
ولو سقاه بولا ، فكالخمر ، وقيل : يسقى بولا ، لأنه يباح عند الضرورة بخلاف الخمر ، ولو أوجره ماء نجسا ، أوجر ماء طاهرا .
فرع .
كما تراعى المماثلة في طريق القتل ،
تراعى في الكيفية والمقدار ، ففي التجويع يحبس مثل تلك المدة ويمنع الطعام ، وفي الإلقاء في الماء والنار يلقى في ماء ونار مثلهما ، ويترك تلك المدة ، وتشد قوائمه عند الإلقاء
[ ص: 230 ] في الماء إن كان يحسن السباحة ، وفي التخنيق يخنق بمثل ما خنق مثل تلك المدة ، وفي الإلقاء من الشاهق يلقى من مثله وتراعى صلابة الموضع ، وفي الضرب بالمثقل يراعى الحجم وعدد الضربات .
وإذا
تعذر الوقوف على قدر الحجر ، أو قدر النار ، أو عدد الضربات فعن
القفال أنه يقتل بالسيف ، وعن بعضهم يؤخذ باليقين .
قلت : هذا الثاني أصح . والله أعلم .
فرع .
متى
عدل المستحق من غير السيف إلى السيف ، مكن منه ، لأنه أوحى وأسهل ، قال
البغوي : وهو الأولى ، وأشار الإمام إلى وجه أنه لا يعدل من الخنق إلى السيف ، والمذهب : الأول .
فرع .
إذا
جوع الجاني مدة تجويعه ، أو ألقي في النار مثل مدته ، أو
ضرب بالسوط والحجر كضربه ، فلم يمت ، فقولان .
أحدهما : يزاد في ذلك الجنس حتى يموت ، والثاني : يقتل بالسيف ، وفرق جماعة فقالوا : يفعل الأهون منهما ، وهذا أقرب ، والأول : أظهر عند
البغوي .
وقيل : يعدل في السوط والحجر إلى السيف ، قال الإمام : ولو
قتل نحيفا بضربات تقتل مثله غالبا ، وعلمنا أو ظننا ظنا مؤكدا أن الجاني لا يموت بتلك الضربات لقوة جثته ، فالوجه القطع بأنه لا يضرب ، ثم قال : وفيه احتمال .
[ ص: 231 ] فرع .
هذا الذي ذكرناه في الاقتصاص بالقتل الموحي ، فأما غير الموحي من القتل ، كالجروح وقطع الأطراف إذا سرت إلى النفس ، فله حالان .
أحدهما : أن تكون الجراحة بحيث يقتص فيها لو وقفت ، كالموضحة وقطع الكف ، فللمستحق أن يحز رقبته ، وله أن يوضحه أو يقطع كفه ، ثم إن شاء حز رقبته في الحال ، وليس للجاني أن يقول : أمهلوني مدة بقاء المجني عليه بعد جنايتي ، لأن القصاص ثابت في الحال .
وعن ابن القطان أن له ذلك ، والصحيح الأول ، وإن شاء أمهله إلى السراية كما سبق ، وليس للجاني أن يقول : أريحوني بالقتل أو العفو ، بل الخيرة للمستحق ، وإذا اقتص في موضحة الجناية ، أو قطع العضو المقطوع مثله ، لم يكن له أن يوضح موضعا آخر ، ولا أن يقطع عضوا آخر بلا خلاف ، بل ليس له إلا حز الرقبة .
الحال الثاني : أن
تكون الجراحة بحيث لا يقتص فيها لو وقفت ، كالجائفة وقطع اليد من نصف الساعد ، فهل يجوز استيفاء القصاص بهذا الطريق تحقيقا للمماثلة ، أم يجب العدول إلى حز الرقبة ؟ قولان .
أظهرهما عند الأكثرين : الأول ، فعلى هذا لو أجافه كجائفته ، فلم يمت ، فهل يزاد في الجوائف ، وجهان .
أصحهما : لا ، قال
البغوي : وإذا قلنا : يجوز
الاقتصاص بطريق الجائفة ، فقال : أجيفه ، ثم أعفو عنه إن لم يمت ، لم يمكن منه ، إنما يمكن إذا قال : أجيفه ثم أحز رقبته ، وكذا لو قال : أرميه من الشاهق ثم أعفو ، قال : ولو أجافه ثم عفا عنه ، عزر على ما فعل ، ولم يجبر على قتله ، فإن مات ، بان بطلان العفو .
والقولان في أنه هل يستوفى القصاص بالجائفة ونحوها ؟ يجريان فيما قطع يدا شلاء ، ويد القاطع صحيحة ، أو ساعدا ممن لا كف له ، والقاطع سليم ، هل يستوفى القصاص بقطع اليد والساعد ؟ .
[ ص: 232 ] فرع .
المماثلة مرعية في قصاص الطرف ، كما هي مرعية في قصاص النفس بشرط إمكان رعايتها ، فلو أبان طرفا من أطرافه بمثقل ، لم يقتص إلا بالسيف .
ولو
أوضح رأسه بالسيف ، لم يوضح بالسيف ، بل يوضح بحديدة خفيفة ، فإن كان الطريق موثوقا به مضبوطا ، قوبل بمثله ، كفقء العين بالأصبع .
فرع .
قطعه رجل من الكوع ، ثم قطع آخر ساعده من المرفق قبل اندمال القطع الأول ، فمات بالسراية ، فالقصاص عليهما ، وطريق استيفائه من الأول أن تقطع يده من الكوع ، فإن لم يمت ، حزت رقبته .
وأما الثاني ، فإن كان له ساعد بلا كف ، اقتص منه بقطع مرفقه ، ثم يقتل ، وإن كانت يده سليمة ، فهل تقطع من المرفق ثم تحز رقبته ، أم يقتصر على الحز ؟ قولان ويقال : وجهان .
أظهرهما : الأول ، وهو نصه في " المختصر " لترد الحديدة على موردها في الجناية ، ولا عبرة بزيادة الكف الهالكة بهلاك النفس ، ولو أراد الولي العفو عن الأول بعد أن أقطعه من الكوع ، قال الأصحاب : لا يجوز أن يعفو على مال ، لأن الواجب عليه نصف الدية ، فإنه أحد القاتلين ، وقد استوفى النصف باليد التي قطعها ، وإن أراد أن يعفو عن الثاني على مال ، فله نصف الدية إلا قدر أرش الساعد ، فإنه لم يستوف منه إلا الساعد .
فرع .
إذا
اقتص من قاطع اليد ، ثم مات المجني عليه بالسراية ، فللولي أن يحز رقبته ، وله أن يعفو ويأخذ نصف الدية ، واليد المستوفاة مقابلة
[ ص: 233 ] بالنصف ، فإن مات الجاني ، أو قتل ظلما ، أو في قصاص آخر ، تعين أخذ نصف الدية من تركته ، ولو قطع يدي رجل ، فقطعت يداه قصاصا ، ثم مات المجني عليه بالسراية ، فللولي حز رقبة الجاني ، فلو عفا ، فلا مال له ، لأنه استوفى ما يقابل الدية ، وهذه صورة يستحق فيها القصاص ولا تستحق الدية بالعفو عليها ، ولو اقتص من قاطع اليد ، فمات بالسراية ، فلا شيء على المقتص .
ولو
ماتا جميعا بالسراية بعد الاقتصاص في اليد ، نظر ، إن مات المجني عليه أولا ، أو ماتا معا ، فوجهان .
الصحيح الذي عليه الجمهور : أنه لا شيء على الجاني .
والثاني : أن في تركته نصف الدية ، نقله
nindex.php?page=showalam&ids=13459ابن كج عن عامة الأصحاب ، وإن مات الجاني أولا ، فهل يجب في تركته نصف الدية ، أم لا شيء ؟ وجهان .
أصحهما : الأول ، فلو كان ذلك في الموضحة ، وجب تسعة أعشار الدية ونصف عشرها ، وقد أخذ بقصاص الموضحة نصف العشر .
فرع .
قطعه ، فحز المقطوع رقبة الجاني ، فإن مات المقطوع بالسراية ، صار قصاصا ، وإن اندمل ، قتل قصاصا ، وفي تركة الجاني نصف الدية لقطعه اليد ، هكذا ذكره
البغوي .
فرع .
قطع يد رجل وقتل آخر ثم مات المقطوع بالسراية فقد قتل شخصين ، نقل صاحب " الشامل " عن الأصحاب أنه يقتل بالمقتول دون المقطوع ، لأن قصاص المقطوع وجب بالسراية وهي متأخرة عن وجوبه للمقتول ، لكن لولي المقطوع أن يقطع يده ، فإذا قتله الآخر ، أخذ نصف الدية من تركته ، وتوقف في تخصيص الاقتصاص في النفس
[ ص: 234 ] بالمقتول ، ولو أنه بعد ما قطع واحدا ، وقتل آخر قطعت يده قصاصا ، ومات بالسراية ، فلولي المقتول الدية في تركته ، وإن قطع قصاصا ثم قتل قصاصا ، ثم مات المقطوع الأول ، فلوليه نصف الدية في تركة الجاني .