فصل
سبق أنه
لا تقطع يمين بيسار ولا عكسه ، ولو وجب القصاص في يمين واتفقا على قطع يسار بدلها ، لم يكن بدلا ، كما لو قتل غير القاتل برضاه بدلا ، لا يقع بدلا ، ولكن لا قصاص في اليسار لشبهة البذل وتجب ديتها ، ومن علم منهما فساد هذه المصالحة ، أثم بقطع اليسار ، وهل يسقط قصاص اليمين بما جرى ؟ وجهان .
أصحهما : نعم ، ولو
قال مستحق قصاص اليمين للجاني : أخرج يمينك ، فأخرج يساره ، فقطعها المستحق ، فللمخرج أحوال ، أحدهما : أن يعلم أن اليسار لا تجزئ عن اليمين ، وأنه يخرج اليسار ويقصد بإخراجها الإباحة للمقتص ، فلا قصاص في اليسار ولا دية ، نص عليه الشافعي ، واتفق عليه الأصحاب .
وقالوا : قد بذلها صاحبها مجانا ، وإن لم يتلفظ بإباحة قالوا : والفعل بعد السؤال كالإذن في المسئول ، حتى لو قال لأجنبي : أخرج يدك لأقطعها ، أو قال : ملكني قطعها ، فأخرجها ، كان ذلك إباحة .
ولو
قال : ناولني متاعك لألقيه في البحر ، فناوله كان كما لو نطق بالإذن فيه ، فلا يجب ضمانه إذا ألقاه في البحر ، ولو قدم طعاما إلى من استدعاه ، كان كما لو قال له : كل ، وحكى ابن القطان وجها أنه يجب ضمان اليسار إذا لم يتلفظ المخرج بالإذن في القطع ، وحمل نص الشافعي على ما إذا أذن لفظا ، والصحيح الأول ، وبه قطع الأصحاب .
وسواء علم القاطع أنها اليسار ، وأنها لا تجزئ أم لا ، لكن إذا علم ، عزر ، وعن ابن سلمة احتمال في وجوب القصاص إذا كان عالما ، ولو
[ ص: 235 ] قصد شخص قطع يد رجل ظلما ، فلم يدفعه المقصود وسكت حتى قطع ، فهل يكون سكوته إهدارا ؟ وجهان .
الصحيح : لا ، لأنه لم يوجد منه لفظ ولا فعل ، فصار كسكوته عن إتلاف ماله ، والثاني : نعم ، لأنه سكوت محرم ، فدل على الرضى ، ولو سرى قطع اليسار إلى نفس المخرج ، ففي وجوب الدية الخلاف السابق فيما إذا قال : اقتلني ، فقتله ، وبني وجوب الكفارة على المقطوع يساره على الخلاف في أن قاتل نفسه هل تلزمه الكفارة ؟ .
هذا حكم قطع اليسار في هذه الحالة ، وأما قصاص اليمين ، فيبقى كما كان ، لكن إذا
سرى قطع اليسار إلى النفس ، فات القصاص ، فيعدل إلى دية اليد ، فلو قال القاطع : قطعت اليسار على ظن أنها تجزئ عن اليمين فوجهان .
أحدهما : لا يسقط قصاصه في اليمين ، لأنه لم يسقطه ولا اعتاض عنه ، وأصحهما وبه قطع
البغوي واختاره الشيخ
أبو حامد والقاضي حسين : يسقط ، لأنه رضي بسقوطه اكتفاء باليسار ، فعلى هذا يعدل إلى دية اليمين ، لأن اليسار وقعت هدرا .
وطرد الوجهان فيما لو جاء الجاني بالدية وطلب من مستحق القطع متضرعا إليه أن يأخذها ويترك القصاص ، فأخذها ، فهل يجعل الأخذ عفوا ، ولو قال القاطع : علمت أن اليسار لا تجزئ عن اليمين شرعا ، لكن جعلتها عوضا عنها ، اطرد الخلاف ، وجعل الإمام هذه الصورة أولى بالسقوط .
الحال الثاني : أن يقول : قصدت بإخراج اليسار إيقاعها عن اليمين لظني أنها تقوم مقامها ، فنسأل المقتص لم قطع ؟ وله في جوابه ألفاظ أحدها أن يقول : ظننت أنه أباحها بالإخراج ، فلا قصاص عليه في اليسار ، وفيه احتمال للإمام ، ويبقى قصاص اليمين كما كان قطعا .
الثاني : أن يقول : علمت أنها اليسار ، وأنها لا تجزئ ولا تجعل بدلا ، ففي وجوب القصاص وجهان .
أصحهما : لا يجب ، لكن تجب الدية ، وعلى الوجهين يبقى قصاص اليمين .
الثالث : أن يقول :
[ ص: 236 ] قطعتها عوضا عن اليمين ، وظننتها تجزئ كما ظنه المخرج ، فالصحيح أنه لا قصاص في اليسار ، وأنه يسقط قصاص اليمين ، ولكل واحد منهما دية ما قطعه الآخر .
الرابع : أن يقول : ظننت المخرجة اليمين ، فلا قصاص في اليسار على المذهب ، وفي " التهذيب " فيه وجهان ، كما لو قتل رجلا وقال : ظننته قاتل أبي فلم يكن .
فإن لم نوجب القصاص ، وجبت الدية على الأصح ، لأنه لم يبذلها مجانا ويبقى قصاص اليمين على المذهب ، ويجيء فيه الخلاف السابق .
الحال الثالث : أن يقول المخرج : دهشت فأخرجت اليسار ، وظني أني أخرج اليمين ، فيسأل المقتص عن قصده في قطعه اليسار ، وله في جوابه صيغ .
إحداها : أن يقول : ظننت أن المخرج قصد الإباحة ، فقياس مثله في الحال الثاني أن لا يجب القصاص في اليسار ، والذي ذكره
البغوي أنه يجب القصاص كمن قتل رجلا وقال : ظننت أنه أذن لي في القتل ، وهذا يوافق الاحتمال المذكور هناك وهو المتوجه في الموضعين .
الثانية : أن يقول : علمت أنها اليسار وأنها لا تجزئ ، فيجب القصاص على الأصح ، لأنه لم يوجد من المخرج بذل .
الثالثة : أن يقول : ظننت اليسار تجزئ ، قال الأصحاب : لا قصاص فيه ، وفيه احتمال للإمام .
الرابعة : أن يقول : ظننتها اليمين ، فلا قصاص على المذهب ، وفي جميع هذه الصيغ يبقى قصاص اليمين إلا إذا قال : ظننت أن اليسار تجزئ ، فإن الأصح سقوطه ، وإذا سقط القصاص من الطرفين ، فلكل واحد منهما الدية على الآخر .
ولو قال القاطع : دهشت فلم أدر ما قطعت ، قال الإمام : لا يقبل منه ويلزمه القصاص في اليسار ، لأن الدهشة لا تليق بحال القاطع ، وفي كتب الأصحاب لا سيما العراقيين ، أن المخرج لو قال : لم أسمع من المقتص : أخرج يمينك ، وإنما وقع في سمعي : أخرج يسارك ، فأخرجتها ، فالحكم فيه كقوله : دهشت ، فأخرجت وأنا أظنها اليمين .
[ ص: 237 ] لكن مقتضى ما سبق أن الفعل المطابق للسؤال كالإذن لفظا أن يلحق ذلك بصورة الإباحة .
فرع .
جميع ما ذكرناه في القصاص ، فأما إذا
وجب قطع يمينه في السرقة ، فقال الجلاد للسارق : أخرج يمينك ، فأخرج يساره ، فقطعها ، فقولان .
أحدهما ويقال : إنه قديم ، ويقال : مخرج : إن الحكم كما ذكرنا في القصاص .
والثاني وهو المشهور : أنه يقع قطع اليسار عن الحد ، فيسقط قطع اليمين ، لأن المقصود التنكيل وقد حصل ، ولأن الحد مبني على التخفيف ، واستدرك القاضي حسين ، فحمل ما أطلقه الأصحاب على الحالين الأخيرين من الأحوال الثلاثة .
وقال في الحال الأول وهو الإخراج بقصد الإباحة : ينبغي أن لا يسقط قطع اليمين ، كما لو قطع السارق يسار نفسه ، أو قطعها غيره بعد وجوب قطع اليمين .
فرع .
لو
كان المقتص منه مجنونا ، فهو كما لو أخرج اليسار مدهوشا ، ولا يتحقق منه البدل ، ولو كان المقتص منه عاقلا ، والمستحق مجنونا ، فقطع يمين المقتص منه مكرها له ، فهل يكون مستوفيا لحقه ؟ فيه خلاف سبق .
فإن قلنا : لا يصير مستوفيا وهو الصحيح ، انتقل حقه إلى الدية ، ويجب للجاني دية يده ، فإن جعلنا عمده عمدا ، فالدية في ماله ، والصورة من صور التقاص .
وإن جعلناه خطأ ، فدية اليسار على عاقلته ولا تقاص ، ولو
قال لمن عليه القصاص : أخرج يمينك ، فأخرجها ، فقطعها المجنون ، قال الأصحاب : لا يصح استيفاؤه ، وينتقل حقه إلى الدية ، ولا ضمان عليه ، لأنه أتلفها ببذله وتسليطه ، وإن أخرج يساره ، فقطعها ، فهي مهدرة ويبقى حقه في قصاص اليمين .
[ ص: 238 ] فرع .
حيث أوجبنا دية اليسار في الصور السابقة ، فهي في ماله ، لأنه قطع متعمدا ، وعن نصه في " الأم " أنها تجب على العاقلة .
فرع .
حيث قلنا : يبقى القصاص في اليمين ، لا يستوفى حتى يندمل قطع اليسار لما في توالي القطعين من خطر الهلاك ، نص عليه ، ولو قطع طرفي رجل معا ، اقتص فيهما معا ، ولا يلزمه التفريق ، نص عليه .
فقيل : فيهما قولان ، والمذهب تقرير النصين ، والفرق أن خطر الموالاة في الصورة الأولى يحصل من قطع مستحق وغير مستحق .
فرع .
قال المخرج : قصدت بالإخراج إيقاعها عن اليمين ، وقال القاطع : أخرجتها بقصد الإباحة ، فالمصدق المخرج لأنه أعرف بقصده .
فرع .
ثبت له القصاص في أنملة ، فقطع من الجاني أنملتين ، سئل ، فإن اعترف بالتعمد ، قطعت منه الأنملة الثانية .
وإن قال : أخطأت وتوهمت أني أقطع أنملة واحدة ، صدق بيمينه ، ووجب أرش الأنملة الزائدة ، وهل هي في ماله أم على عاقلته ؟ قولان ، أو وجهان .
أصحهما : في ماله .