صفحة جزء
فصل في انتهاء السفر الذي يقطع الترخص

ويحصل بأمور : الأول : العود إلى الوطن ، والضبط فيه : أن يعود إلى الموضع الذي شرطنا مفارقته في إنشاء السفر منه . وفي معنى الوطن : الوصول إلى الموضع الذي يسافر إليه إذا عزم على الإقامة فيه القدر المانع من الترخص ، فلو لم ينو الإقامة به ذلك القدر لم ينته سفره بالوصول إليه على الأظهر . ولو حصل في طريقه في قرية أو بلدة له بها أهل وعشيرة ، فهل ينتهي سفره بدخولها ؟ قولان . أظهرهما : لا . ولو مر في طريق سفره بوطنه ، بأن خرج من مكة إلى مسافة القصر ، ونوى أنه إذا رجع إلى مكة خرج إلى موضع آخر من غير إقامة ، فالمذهب الذي قطع به الجمهور : أنه يصير مقيما بدخولها . وقال الصيدلاني وغيره : فيه القولان كبلد أهله . فعلى أحدهما : العود إلى الوطن لا يوجب انتهاء السفر ، إلا إذا كان عازما على الإقامة .

الأمر الثاني : نية الإقامة . فإذا نوى في طريقه الإقامة مطلقا انقطع سفره فلا يقصر . فلو أنشأ السير بعد ذلك فهو سفر جديد فلا يقصر إلا إذا توجه إلى مرحلتين . هذا إذا نوى الإقامة في موضع يصلح لها من بلدة [ ص: 384 ] أو قرية أو واد يمكن البدوي النزول فيه للإقامة . فأما المفازة ونحوها ، ففي انقطاع السفر بنية الإقامة فيها قولان . أظهرهما عند الجمهور : انقطاعه . ولو نوى إقامة ثلاثة أيام فأقل ، لم يصر مقيما قطعا وإن نوى أكثر من ثلاثة ، قال الشافعي وجمهور الأصحاب : إن نوى إقامة أربعة أيام ، صار مقيما . وذلك يقتضي أن نية دون الأربعة لا تقطع السفر وإن زاد على ثلاثة ، وقد صرح به كثيرون ، واختلفوا في أن الأربعة كيف تحسب ؟ على وجهين في ( التهذيب ) وغيره ، أحدهما : يحسب منها يوما الدخول والخروج كما يحسب يوم الحدث ويوم نزع الخف من مدة المسح . وأصحهما : لا يحسبان ، فعلى الأول لو دخل يوم السبت وقت الزوال بنية الخروج يوم الأربعاء وقت الزوال صار مقيما . وعلى الثاني : لا يصير ( مقيما ) ، وإن دخل ضحوة السبت وخرج عشية الأربعاء . وقال إمام الحرمين والغزالي : متى نوى إقامة زائدة على ثلاثة أيام صار مقيما . وهذا الذي قالاه موافق لما قاله الجمهور ، لأنه لا يمكن زيادة على الثلاثة غير يومي الدخول والخروج بحيث لا يبلغ الأربعة ، ثم الأيام المحتملة معدودة مع لياليها . وإذا نوى ما لا يحتمل صار مقيما في الحال . ولو دخل ليلا لم يحسب بقية الليلة ويحسب الغد . وجميع ما ذكرناه في غير المحارب ، أما المحارب إذا نوى إقامة قدر يصير غيره به مقيما ، ففيه قولان . أظهرهما : أنه كغيره . والثاني : يقصر أبدا .

قلت : ولو نوى العبد إقامة أربعة أيام أو الزوجة أو الجيش ولم ينو السيد ولا الزوج ولا الأمير ، ففي لزوم الإتمام في حقهم وجهان . الأقوى : أن لهم القصر لأنهم لا يستقلون ، فنيتهم كالعدم . والله أعلم .

الأمر الثالث : صورة الإقامة ، فإذا عرض له شغل في بلدة أو قرية فأقام له ، فله حالان . أحدهما : أن يرجو فراغ شغله ساعة فساعة ، وهو على نية الارتحال عند فراغه . والثاني : يعلم أن شغله لا ينقضي في ثلاثة أيام ، غير [ ص: 385 ] يومي الدخول والخروج ، كالتفقه والتجارة الكثيرة ونحوهما ، فالأول : له القصر إلى أربعة أيام على ما سبق تفصيله . وفيما بعد ذلك طريقان . الصحيح منهما : فيه ثلاثة أقوال . أحدها : يجوز القصر أبدا سواء فيه المقيم على القتال أو الخوف من القتال والمقيم لتجارة وغيرهما . والثاني : لا يجوز القصر أصلا . والثالث وهو الأظهر : يجوز ثمانية عشر يوما فقط ، وقيل : سبعة عشر ، وقيل : تسعة عشر ، وقيل : عشرين . والطريق الثاني : أن هذه الأقوال في ( المحارب ) ويقطع بالمنع في غيره . وأما الحال الثاني : فإن كان محاربا وقلنا في الحال الأول : لا يقصر ، فهنا أولى . وإلا فقولان . أحدهما : يترخص أبدا . والثاني : ثمانية عشر . وإن كان غير محارب ، كالمتفقه والتاجر فالمذهب أنه لا يترخص أصلا . وقيل : هو كالمحارب ، وهو غلط .

فرع

وأما كون السفر طويلا فلا بد منه . والطويل : ثمانية وأربعون ميلا بالهاشمي ، وهي ستة عشر فرسخا ، وهي أربعة برد ، وهي مسيرة يومين معتدلين . فالميل : أربعة آلاف خطوة ، والخطوة : ثلاثة أقدام . وهل هذا الضبط تحديد ، أم تقريب ؟ وجهان . الأصح : تحديد . وحكي قول شاذ : أن القصر يجوز في السفر القصير ، بشرط الخوف . والمعروف الأول . واستحب الشافعي - رحمه الله - أن لا يقصر إلا في ثلاثة أيام ، للخروج من خلاف أبي حنيفة في ضبطه به . والمسافة في البحر مثل المسافة في البر وإن قطعها في لحظة . فإن شك فيها اجتهد .

قلت : ولو حبستهم الريح فيه ، قال الدارمي : هو كالإقامة في البر بغير نية الإقامة . والله أعلم .

[ ص: 386 ] واعلم أن مسافة الرجوع لا تحسب ، فلو قصد موضعا على مرحلة بنية أن لا يقيم فيه فليس له القصر لا ذاهبا ولا راجعا ، وإن كان يناله مشقة مرحلتين متواليتين ، لأنه لا يسمى سفرا طويلا . وحكى الحناطي وجها : أنه يقصر إذا كان الذهاب والرجوع مرحلتين ، وهو شاذ منكر . ويشترط عزمه في الابتداء على قطع مسافة القصر ، فلو خرج لطلب آبق أو غريم وينصرف متى لقيه ولا يعرف موضعه لم يترخص وإن طال سفره كما قلنا في الهائم : فإذا وجده وعزم على الرجوع إلى بلده وبينهما مسافة القصر ، يرخص إذا ارتحل عن ذلك الموضع . فلو كان في ابتداء السفر يعلم موضعه ، وأنه لا يلقاه قبل مرحلتين ترخص ، فلو نوى مسافة القصر ثم نوى أنه إن وجد الغريم رجع نظر : إن نوى ذلك قبل مفارقة عمران البلد لم يترخص ، وبعد مفارقة العمران ، فوجهان . أصحهما : يترخص ما لم يجده فإذا وجده صار مقيما . وكذا لو نوى قصد موضع في مسافة القصر ثم نوى الإقامة في بلد وسط الطريق ، فإن كان من مخرجه إلى المقصد الثاني مسافة القصر يترخص ، وإن كان أقل ترخص أيضا على الأصح ما لم يدخله .

قلت : هذا إذا نوى الإقامة أربعة أيام ، فإن نوى دونها فهو سفر واحد فله القصر في جميع طريقه ، وفي البلد الذي في الوسط . والله أعلم .

فرع

إذا سافر العبد بسير المولى ، والمرأة بسير الزوج ، والجندي بسير الأمير ولا يعرفون مقصدهم لم يجز لهم الترخص . فلو نووا مسافة القصر فلا عبرة بنية العبد والمرأة ، وتعتبر نية الجندي ، لأنه ليس تحت يد الأمير وقهره ، فإن عرفوا مقصدهم فنووا فلهم القصر .

[ ص: 387 ] قلت : وإذا أسر الكفار رجلا فساروا به ولم يعلم أين يذهبون به لم يقصر . وإن سار معهم يومين قصر بعد ذلك . نص عليه الشافعي - رحمه الله - . فلو علم البلد الذي يذهبون به إليه ، فإن كان نيته أنه إن تمكن من الهرب هرب لم يقصر قبل مرحلتين . وإن نوى قصد ذلك البلد أو غيره - ولا معصية في قصده - قصر في الحال إن كان بينهما مرحلتان . والله أعلم . فرع

لو كان لمقصده طريقان يبلغ أحدهما مسافة القصر دون الآخر فسلك الأبعد ، نظر ؛ إن كان لغرض كالأمن أو السهولة أو زيارة أو عيادة ترخص . وكذا لو قصد التنزه على المذهب . وتردد الشيخ أبو محمد في اعتباره . وإن لم يكن غرض سوى الترخص فطريقان . أصحهما : على قولين . أظهرهما : لا يترخص . والطريق الثاني : لا يترخص قطعا . ولو بلغ بكل واحد المسافة فسلك الأبعد لغير غرض ترخص في جميعه قطعا .

فرع

إذا خرج إلى بلد والمسافة طويلة ، ثم بدا له في أثناء السفر أن يرجع انقطع سفره فلا يجوز القصر ما دام في ذلك الموضع . فإذا فارقه فهو سفر جديد . فإنما يقصر إذا توجه منه إلى مرحلتين ، سواء رجع إلى وطنه أو استمر إلى مقصده الأول أو غيرهما . ولو خرج إلى بلد لا يقصر إليه الصلاة ثم نوى [ ص: 388 ] مجاوزته إلى ما يقصر إليه الصلاة ، فابتداء سفره من حين غير النية ، فإنما يترخص إذا كان من ذلك الموضع إلى المقصد الثاني مرحلتان . ولو خرج إلى سفر طويل بنية الإقامة في كل مرحلة أربعة أيام لم يترخص .

التالي السابق


الخدمات العلمية