فصل
إذا أشرفت السفينة على الغرق ؛ جاز إلقاء بعض أمتعتها في البحر ، ويجب الإلقاء رجاء نجاة الراكبين إذا خيف الهلاك ، ويجب إلقاء ما لا روح فيه لتخليص ذي الروح ، ولا يجوز إلقاء الدواب إذا أمكن دفع الغرق بغير الحيوان . وإذا مست الحاجة إلى إلقاء الدواب ، ألقيت لإبقاء الآدميين ، والعبيد كالأحرار ، وإذا قصر من عليه الإلقاء حتى غرقت السفينة ؛ فعليه الإثم ولا ضمان كما لو لم يطعم صاحب الطعام المضطر حتى مات ، يعصي ولا يضمنه . ولا يجوز
إلقاء المال في البحر من غير خوف ؛ لأنه إضاعة للمال . وإذا ألقى متاع نفسه أو متاع
[ ص: 339 ] غيره بإذنه رجاء السلامة ؛ فلا ضمان على أحد ، ولو ألقى متاع غيره بغير إذنه ؛ وجب الضمان . وقيل : إذا ألقى من لا خوف عليه متاع نفسه لإنقاذ غيره ؛ ففي رجوعه عليه وجهان ، كمن أطعم المضطر قهرا . والمذهب الأول .
ولو
قال لغيره : ألق متاعك في البحر وعلي ضمانه أو على أني ضامن ، أو على أني أضمن قيمته ؛ فألقاه فعلى الملتمس ضمانه .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11956أبو ثور وبعض الأصحاب : لا يجب ضمانه ؛ لأنه ضمان ما لم يجب ؛ والصحيح الأول ، وبه قطع الجمهور ؛ لأنه التماس إتلاف بعوض له فيه غرض صحيح ؛ فصار كقوله : أعتق عبدك على كذا ؛ فأعتق .
قال الأصحاب : وليس هذا على حقيقة الضمان وإن سمي ضمانا ؛ ولكنه بذل مال للتخليص عن الهلاك ؛ فهو كما لو قال : أطلق هذا الأسير ولك علي كذا ؛ فأطلقه ، يجب الضمان .
وبنى
القاضي حسين عليه أنه لو قال لمن له القصاص : اعف ولك كذا ، أو قال لرجل : أطعم هذا الجائع ولك علي كذا فأجاب : يستحق المسمى ؛ أما إذا اقتصر على قوله : ألق متاعك في البحر ، ولم يقل : وعلي ضمانه ، فألقاه ؛ فقيل في وجوب الضمان خلاف ؛ كقوله : أد ديني . وقطع الجمهور بأنه لا ضمان ؛ لأن قضاء الدين ينفعه قطعا وهذا قد لا ينفعه .
قال
البغوي : وتعتبر قيمة الملقى قبل هيجان الأمواج ؛ فإنه لا قيمة للمال في تلك الحال ؛ فلا تجعل قيمة المال في البحر وهو على خطر الهلاك كقيمة البر .
ثم إنما يجب الضمان على الملتمس بشرطين ؛ أحدهما : أن يكون الالتماس عند خوف الغرق ؛ فأما في غير حال الخوف فلا يقتضي الالتماس ضمانا ؛ سواء قال : على أني ضامن ، أو لم يقل ؛ كما لو قال : اهدم دارك ففعل .
الشرط الثاني : أن لا تختص فائدة الإلقاء بصاحب المتاع ، واعلم أن فائدة التخليص بإلقاء المتاع تتصور في صور :
[ ص: 340 ] إحداها : أن يختص بصاحب المتاع ؛ فإذا كان في السفينة المشرفة راكب ومتاعه ، فقال له رجل من الشط ، أو من زورق بقربها :
ألق متاعك في البحر وعلي ضمانه فألقى ؛ لا يجب الضمان ، ولا يحل له أخذ الضمان ؛ لأنه فعل ما هو واجب عليه لغرض نفسه ؛ فلا يستحق عوضا ؛ كما لو قال للمضطر : كل طعامك وأنا ضامنه لك فأكله ، لا شيء على الملتمس .
الثانية : أن يختص بالملتمس ، بأن أشرفت سفينة على الغرق وفيها متاع رجل وهو خارج عنها ؛ فقال للخارج : ألق متاعك في البحر وعلي ضمانه فألقى ؛ وجب الضمان كما ذكرنا سواء حصلت السلامة أم لا ؛ حتى لو هلك الملتمس وجب الضمان في تركته .
الثالثة : أن يختص بغيرهما ؛ بأن كان الملتمس وصاحب المتاع خارجين عن السفينة وفيها جماعة مشرفون على الغرق ؛ وجب الضمان على الملتمس أيضا ؛ لأنه غرض صحيح .
الرابعة : أن تعود المصلحة إلى ملقي المتاع وغيره دون الملتمس ، فوجهان : أصحهما : يجب ضمان جميع المتاع ، والثاني : بقسط الملقى على مالكه وسائر من فيها ، فيسقط قسط المالك ويجب الباقي . فإن كان معه واحد ، وجب نصف الضمان ؛ وإن كان معه تسعة ، وجب تسعة أعشاره .
الخامسة : أن يكون في الإلقاء تخليص الملتمس وغيره ؛ بأن التمس بعض ركاب السفينة من بعض ، فيجب الضمان على الملتمس ؛ قال الإمام : ويجيء الوجهان في أنه هل تسقط حصة المالك ؟
[ ص: 341 ] فرع
إذا
قال : ألق متاعك في البحر وأنا وركاب السفينة ضامنون ، كل واحد منا على الكمال ، أو على أني ضامن وكل واحد منهم ضامن ؛ فعليه ضمان الجميع ، ولو قال : أنا وهم ضامنون كل واحد منا بالحصة ؛ لزمه ما يخصه . وكذا لو قال : أنا وهم ضامنون ، واقتصر عليه ، ولو قال : وأنا ضامن وركاب السفينة ، أو على أن أضمنه أنا والركاب ، أو قال : وأنا ضامن وهم ضامنون ، لزمه ضمان الجميع على الأصح .
وقيل : على القسط ، ثم قوله : هم ضامنون ، إما للجميع ، وإما للحصة ، إن أراد به الإخبار عن ضمان سبق منهم ، واعترفوا به لزمهم ، وإن أنكروا ؛ فهم المصدقون ، وإن قال : أردت إنشاء الضمان عنهم ؛ فقيل : إن رضوا به ، ثبت المال عليهم ، والصحيح أنه لا يثبت ؛ لأن العقود لا توقف .
وإن قال : وأنا وهم ضمناء وضمنت عنهم بإذنهم ؛ طولب هو بالجميع بقوله . وإذا أنكروا الإذن ؛ فهم المصدقون حتى لا يرجع عليهم .
ولو قال : أنا وهم ضمناء وأصححه من مالهم ؛ فقد نقل الأئمة لا سيما العراقيون : أنه يطالب بالجميع أيضا . وكذا لو قال : أنا أحصله من مالهم كما لو قال : اخلعها على ألف أصححها لك من مالها ، أو أضمنها لك من مالها ؛ يلزمه الألف .
ولو قال : ألق متاعك في البحر على أني وهم ضمناء ؛ فأذن له في الإلقاء فألقاه ؛ فهل تلزمه الحصة أم الجميع ؛ لأنه باشر الإتلاف ؟ وجهان .
فرع
قال : ألق متاعك وعلي نصف الضمان ، وعلى فلان الثلث ، وعلى فلان السدس ؛ لزمه النصف .
فرع
قال لرجل : ألق متاع زيد وعلي ضمانه إن طالبك ؛ فالضمان على الملقي دون الآمر .
[ ص: 342 ] فرع
قال الإمام : المتاع الملقى لا يخرج عن ملك مالكه حتى لو لفظه البحر على الساحل ، وظفرنا به ؛ فهو لمالكه ، ويسترد الضامن المبذول . وهل للمالك أن يمسك ما أخذه ، ويرد بدله ؟ فيه خلاف كالخلاف في العين المقرضة إذا كانت باقية ؛ فهل للمقترض إمساكها ورد بدلها ؟