الباب الثاني في
القسامة :
هي الأيمان في الدماء ، وصورتها : أن يوجد قتيل بموضع لا يعرف من قتله ، ولا بينة ، ويدعي وليه قتله على شخص أو جماعة ، وتوجد قرينة تشعر بصدقه ، ويقال له : اللوث ، فيحلف على ما يدعيه ، ويحكم له بما سنذكره إن شاء الله تعالى . وفي الباب أربعة أطراف :
الأول : في
محل القسامة ، وهو قتل الحر في محل اللوث ، فهذه ثلاثة قيود ، الأول :
القتل ، فلا قسامة في إتلاف المال ، ولا فيما دون النفس من الجروح والأطراف ، بل القول فيها قول المدعى عليه بيمينه وإن كان هناك لوث ; لأن النص ورد في النفس ، وهي أعظم من الأطراف ، ولهذا اختصت بالكفارة ، فلا تلحق بها الأطراف ، وحكى
الروياني وجها في الأطراف ، وغلط قائله ، فعلى الصحيح لو جرح مسلم ، فارتد ، ثم مات بالسراية ، فلا قسامة ، فلو عاد إلى الإسلام ، جرت القسامة ، سواء أوجبنا كمال الدية أم لا ; لأن الواجب هنا بدل النفس ، وكذا الحكم فيما لو جرح ذمي ، فنقض عهده ، ثم مات ، أو جدد العهد ثم مات .
[ ص: 10 ] القيد الثاني : كون القتيل حرا ، فلو قتل العبد ، وهناك لوث ، فادعى السيد على عبد ، أو حر أنه قتله ، فهل يقسم السيد ؟ فيه طريقان ، أشهرهما : على القولين في أن بدل العبد هل تحمله العاقلة ؟ إن قلنا : لا ، فقد ألحقناه بالبهيمة ، فلا قسامة ، وإن قلنا : نعم وهو الأظهر ، أقسم السيد وهو المنصوص ، والثاني : يقسم قطعا ; لأن القسامة تحفظ الدماء ، وهذه الحاجة تشمل العبد ، كالقصاص والكفارة ، والمدبر والمكاتب وأم الولد في هذا كالقن ، فإذا أقسم السيد ، فإن كانت الدعوى على حر ، أخذ الدية من ماله في الحال إن ادعى عمدا محضا ، وإن ادعى خطأ أو شبه عمد ، أخذها من عاقلته في ثلاث سنين ، وإن كانت الدعوى على عبد ، فإن ادعى العمد ، ففي القصاص القولان في ثبوته بالقسامة ، فإن منعناه وهو الأظهر ، أو ادعى خطأ ، أو شبه عمد تعلقت القيمة برقبته .
الثالث :
كونه في محل اللوث ، فإن لم يكن لوث ، لم يبدأ بيمين المدعي ، واللوث قرينة تثير الظن وتوقع في القلب صدق المدعي وله طرق :
منها : أن يوجد قتيل في قبيلة أو حصن ، أو قرية صغيرة ، أو محلة منفصلة عن البلد الكبير ، وبين القتيل وبين أهلها عداوة ظاهرة فهو لوث في حقهم ، فإذا ادعى وليه القتل عليهم ، أو على بعضهم كان له أن يقسم ، ويشترط أن لا يساكنهم غيرهم ، وقيل : يشترط أن لا يخالطهم غيرهم ، حتى لو كانت القرية بقارعة طريق يطرقها التجار والمجتازون وغيرهم ، فلا لوث ، والصحيح أن هذا ليس بشرط .
ومنها : لو تفرق جماعة عن قتيل في دار دخلها عليهم ضيفا ، أو دخل معهم لحاجة ، أو في مسجد أو بستان أو طريق أو صحراء ، فهو
[ ص: 11 ] لوث ، وكذا لو ازدحم قوم على بئر ، أو باب
الكعبة ، أو في الطواف ، أو في مضيق ، ثم تفرقوا عن قتيل ، ولا يشترط في هذا أن تكون بينه وبينهم عداوة .
ومنها : لو تقابل صفان فتقاتلا ، وانكشفا عن قتيل من أحدهما ، فإن اختلطوا ، أو وصل سلاح أحدهما إلى الآخرين رميا أو طعنا أو ضربا ، فهو لوث في حق الصف الآخر ، وإن لم يصل سلاح ، فهو لوث في حق أهل صفه .
ومنها : إذا
وجد قتيل في صحراء ، وعنده رجل معه سلاح متلطخ بدم ، أو على ثوبه أثر دم فهو لوث ، وإن كان بقربه سبع ، أو رجل آخر مول ظهره ، أو وجد أثر قدم ، أو ترشيش دم في غير الجهة التي فيها صاحب السلاح ، فليس بلوث في حقه ، ولو رأينا من بعد رجلا يحرك يده كما يفعل من يضرب بسيف أو سكين ثم وجدنا في الموضع قتيلا ، فهو لوث في حق ذلك الرجل .
ومنها : لو
شهد عدل بأن زيدا قتل فلانا ، فلوث على المذهب ، سواء تقدمت شهادته على الدعوى أو تأخرت ، ولو شهد جماعة تقبل روايتهم ، كعبيد ونسوة ، فإن جاءوا متفرقين ، فلوث ، وكذا لو جاءوا دفعة على الأصح ، وفي " التهذيب " أن شهادة عبدين ، أو امرأتين كشهادة الجمع ، وفي الوجيز أن القياس أن قول واحد منهم لوث ، وفيمن لا تقبل روايتهم ، كصبيان أو فسقة أو ذميين أوجه ، أصحها : قولهم لوث ، والثاني : لا ، والثالث : لوث من غير الكفار ، ولو قال المجروح : جرحني فلان ، أو قتلني ، أو دمي عنده ، فليس بلوث ; لأنه مدع ، ولو تفرق عنه جماعة لا يتصور اجتماعهم على القتل ، لم تسمع الدعوى عليهم ، ولا قسامة كما سبق ، ولو ازدحم قوم لا يتصور اجتماعهم
[ ص: 12 ] على القتل في مضيق ، وتفرقوا عن قتيل ، فادعى الولي القتل على عدد منهم يتصور اجتماعهم ، فينبغي أن تقبل ويمكن من القسامة ، كما لو ثبت اللوث في جماعة محصورين فادعى الولي القتل على بعضهم .
فرع
قال
البغوي : لو
وقع في ألسنة العام والخاص أن زيدا قتل فلانا ، فهو لوث في حقه ، وسواء في القسامة ادعى كافر على مسلم ، أو مسلم على كافر ، قال الإمام : لو عاين القاضي ما هو لوث ، فله اعتماده ولا يخرج على الخلاف في قضائه بعلمه ; لأنه يقضي بالأيمان ، قال
المتولي : إذا وجد قتيل قريب من قرية ، وليس هناك عمارة أخرى ، ولا من يقيم بالصحراء ، ثبت اللوث في حقهم ، يعني إذا وجدت العداوة ، وكنا نحكم باللوث لو وجد فيها ، قال : ولو وجد بين قريتين ، أو قبيلتين ، ولم يعرف بينه وبين إحداهما عداوة لم يجعل قربه من إحداهما لوثا .