[ ص: 50 ] الباب الثاني في قتال البغاة
وفيه أطراف :
الأول في صفتهم .
الباغي في اصطلاح العلماء : هو المخالف لإمام العدل ، الخارج عن طاعته بامتناعه من أداء واجب عليه أو غيره بشرطه الذي سنذكره إن شاء الله تعالى ، قال العلماء : ويجب قتال البغاة ، ولا يكفرون بالبغي ، وإذا رجع الباغي إلى الطاعة قبلت توبته ، وترك قتاله ، وأجمعت الصحابة رضي الله عنهم على
قتال البغاة ، ثم أطلق الأصحاب القول بأن البغي ليس باسم ذم ، وبأن الباغين ليسوا بفسقة ، كما أنهم ليسوا بكفرة ، لكنهم مخطئون فيما يفعلون ويذهبون إليه من التأويل ، ومنهم من يسميهم عصاة ، ولا يسميهم فسقة ويقول : ليس كل معصية بفسق ، والتشديدات الواردة في الخروج عن طاعة الإمام وفي مخالفته كحديث "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10350780من حمل علينا السلاح فليس منا " وحديث "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10350781من فارق الجماعة فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه " وحديث "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10350782من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فميتته جاهلية " كلها محمولة على من خرج عن الطاعة وخالف الإمام بلا عذر ولا تأويل .
فصل
الذين يخالفون الإمام بالخروج عليه وترك الانقياد ، والامتناع من أداء الحقوق ينقسمون إلى بغاة وغيرهم ، ولكل واحد من الصنفين أحكام خاصة ، فنصف البغاة بما يتميزون به ، ونذكر في ضمنهم غيرهم من المخالفين .
أما البغاة ، فتعتبر فيهم خصلتان ، إحداهما : أن يكون
لهم تأويل يعتقدون بسببه جواز الخروج على الإمام ، أو منع الحق المتوجه عليهم ، فلو خرج قوم عن الطاعة ، ومنعوا الحق بلا تأويل ، سواء كان
[ ص: 51 ] حدا أو قصاصا أو مالا لله تعالى أو للآدميين ، عنادا أو مكابرة ، ولم يتعلقوا بتأويل ، فليس لهم أحكام البغاة ، وكذا المرتدون ، ثم التأويل للبغاة إن كان بطلانه مظنونا ، فهو معتبر ، وإن كان بطلانه مقطوعا به ، فوجهان ، أوفقهما لإطلاق الأكثرين : أنه لا يعتبر ، كتأويل المرتدين وشبهتهم ، والثاني : يعتبر ، ويكفي تغليطهم فيه ، وقد يغلط الإنسان في القطعيات .
فرع
الخوارج صنف من المبتدعة يعتقدون أن من فعل كبيرة كفر وخلد في النار ، ويطعنون لذلك في الأئمة ، ولا يحضرون معهم الجمعات والجماعات ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي وجماهير الأصحاب رضي الله عنهم : لو أظهر قوم رأي
الخوارج ، وتجنبوا الجماعات ، وكفروا الإمام ومن معه ، فإن لم يقاتلوا وكانوا في قبضة الإمام ، لم يقتلوا ولم يقاتلوا ، ثم إن صرحوا بسب الإمام أو غيره من أهل العدل ، عزروا ، وإن عرضوا ، ففي تعزيرهم وجهان .
قلت : أصحهما : لا يعزرون ، قاله الجرجاني ، وقطع به صاحب " التنبيه " . والله أعلم .
ولو بعث الإمام إليهم واليا فقتلوه ، فعليهم القصاص ، وهل يتحتم قتل قاتله ، كقاطع الطريق ; لأنه شهر السلاح أم لا لأنه لم يقصد إخافة الطريق ؟ وجهان .
قلت : أصحهما : لا يتحتم . والله أعلم .
وأطلق
البغوي أنهم إن قاتلوا ، فهم فسقة وأصحاب بهت ، فحكمهم حكم قطاع الطريق ، فهذا ترتيب المذهب والمنصوص وما قاله الجمهور ،
[ ص: 52 ] وحكى الإمام في
تكفير الخوارج وجهين ، قال : فإن لم نكفرهم ، فلهم حكم المرتدين ، وقيل : حكم البغاة ، فإن قلنا : كالمرتدين ، لم تنفذ أحكامهم .
الخصلة الثانية : أن يكون لهم شوكة وعدد بحيث يحتاج الإمام في ردهم إلى الطاعة إلى كلفة ، ببذل مال ، أو إعداد رجال ، ونصب قتال ، فإن كانوا أفرادا يسهل ضبطهم ، فليسوا بغاة ، وشرط جماعة من الأصحاب في الشوكة أن
ينفردوا ببلدة ، أو قرية ، أو موضع من الصحراء ، وربما قيل : يشترط كونهم في طرف من أطراف ولاية الإمام بحيث لا يحيط بهم أجناده ، والأصح الذي قاله المحققون : أنه لا يعتبر ذلك ، وإنما يعتبر استعصاؤهم وخروجهم عن قبضة الإمام حتى لو تمكنوا من المقاومة وهم محفوفون بجند الإسلام ، حصلت الشوكة ، وتتعلق بالشوكة صور ذكرها الإمام :
إحداها : حكى في قوم قليلي العدد تقووا بحصن وجهين ، ورأى أن الأولى أن يفصل ، فيقال : إن كان الحصن على حافة الطريق ، وكانوا يستولون بسببه على ناحية وراء الحصن ، فالشوكة حاصلة وحكم البغاة ثابت ، لئلا تتعطل أقضية أهل تلك الناحية ، وإلا فليسوا بغاة ، ولا نبالي بما وقع من التعطل في العدد القليل .
الثانية : قال : لو تحرب من الشجعان عدد يسير يقوون بفضل قوتهم على مصارمة الجموع الكثيرة ، حصلت الشوكة بلا خلاف .
الثالثة : قال : يجب القطع بأن
الشوكة لا تحصل إذا لم يكن لهم متبوع مطاع ، إذ لا قوة لمن لا يجمع كلمتهم مطاع ، وهل يشترط أن يكون فيهم إمام منصوب لهم أو منتصب ؟ وجهان ، ويقال : قولان ، أصحهما عند الأكثرين : لا يشترط ، وبه قال العراقيون والإمام ، وفي
[ ص: 53 ] " المنهاج " للشيخ أبي محمد : أنه يشترط فيهم أن يمتنعوا من حكم الإمام ، وأن يظهروا لأنفسهم حكما ، ويشبه أن يقال : هذا طريق مخالفة الإمام ، ولا بد فيهم منها ، ثم تعتبر الخصلتان فليس فيه مخالفة ما سقناه . وبالله التوفيق .