الطرف الرابع في كيفية قتال البغاة :
طريقها طريق دفع الصائل ،
والمقصود ردهم إلى الطاعة ، ودفع شرهم ، لا النفي والقتل ، فإذا أمكن الأسر ، لا يقتل ، وإذا أمكن الإثخان ، لا يذفف ، فإن التحم القتال ، واشتدت الحرب ، خرج الأمر عن الضبط ، قال الإمام : وقد يتخيل من هذا أنا لا نسير إليهم ، ولا نفاتحهم بالقتال ، وأنهم إذا ساروا إلينا لا نبدأ بقتالهم ، بل نصطف قبالتهم ، فإن قصدونا ، دفعناهم ، قال : وقد رأيت هذا لطائفة من الأصحاب وهو خطأ ، بل إذا آذنهم الإمام بالحرب ، ولم يرجعوا إلى الطاعة ، سار إليهم ، ومنعهم من القطر الذي استولوا عليه ، فإن انهزموا وكلمتهم واحدة ، اتبعناهم إلى أن يتوبوا ويطيعوا ، وليس قتال الفريقين كصيال الواحد ودفعه بكيفية قتالهم مسائل :
الأولى :
لا يغتالون ولا يبدءون بالقتال حتى ينذروا ، فيبعث الإمام إليهم أمينا فطنا ناصحا ، فإذا جاءهم سألهم ما ينقمون ؟ فإن ذكروا مظلمة ، وعللوا مخالفتهم بها ، أزالها ، وإن ذكروا شبة ، كشفها لهم ، وإن لم يذكروا شيئا ، أو أصروا بعد إزالة العلة ، نصحهم ووعظهم ، وأمرهم بالعود إلى الطاعة ، فإن أصروا ، دعاهم إلى المناظرة ، فإن لم يجيبوا ، أو أجابوا فغلبوا ، وأصروا مكابرين ، آذنهم بالقتال ، فإن استنظروا ، بحث الإمام عن حالهم واجتهد ، فإن ظهر له أنهم عازمون
[ ص: 58 ] على الطاعة ، وأنهم يستنظرون لكشف الشبهة ، أو التأمل والمشاورة ، أنظرهم ، وإن ظهر له أنهم يقصدون الاجتماع ، أو يستلحقون مددا لهم ، لم ينظرهم ، وإن سألوا ترك القتال أبدا ، لم يجبهم ، وحيث لا يجوز الإنظار ، فلو بذلوا مالا ، ورهنوا أولادهم والنساء ، لم يقبله ; لأنهم قد يقوون في المدة ، ويظهرون على أهل العدل ويستردون ما بذلوه ، وإذا كان بأهل العدل ضعف ، أخر القتال ، ونص في " الأم " أنه لو كان عندهم أسارى من أهل العدل فسألوا - والحرب قائمة - أن يمسك ليطلقوهم ، وأعطوا بذلك رهائن ، قبلنا ، فإن أطلقوا الأسارى ، أطلقنا الرهائن ، وإن قتلوهم ، لم يجز قتل الرهائن ، بل لا بد من إطلاقهم بعد انقضاء الحرب .
الثانية :
من أدبر منهم وانهزم ، لم يتبع ، وكذا من ألقى سلاحه وترك القتال ، لم يقاتل ، وانهزام الجند بأن يتبدد ، وتبطل شوكتهم واتفاقهم ، فلو ولوا ظهورهم وهم مجتمعون تحت راية زعيمهم ، لم ينكف عنهم ، بل يطلبهم حتى يرجعوا إلى الطاعة ، ولو بطلت قوة واحد واعتضاده بالجمع لتخلفه عنهم مختارا ، أو غير مختار ، لا يقتل ولا يتبع ، ومن ولى متحرفا لقتال ، أتبع وقوتل ، وإن ولى متحيزا إلى فئة ، فإن كانت قريبة ، أتبع ، وإلا فلا على الأصح ، وربما أطلق وجهان من غير فرق بين قريبة وبعيدة ، وأجري الوجهان فيما لو بطلت شوكة الجند في الحال ولم يؤمن اجتماعهم في المآل ، وموضع الاتفاق أن يؤمن اجتماعهم .
الثالثة :
لا يقتل مثخنهم ولا أسيرهم ، وجوز
أبو حنيفة قتلهما صبرا ، فلو قتل عادل أسيرهم ، ففي وجوب القصاص عليه وجهان لشبهة خلاف
أبي حنيفة .
قلت : أصحهما : لا قصاص . والله أعلم .
[ ص: 59 ] ولا يطلق الأسير قبل انقضاء الحرب إلا أن يبايع الإمام ، ويرجع إلى الطاعة باختياره ، ولو انقضت الحرب وجموعهم باقية ، لم يطلق إلا أن يبايع ، وإن بذلوا الطاعة ، أو تفرقت جموعهم ، أطلق ، فإن توقع عودهم ، ففي الإطلاق الوجهان السابقان ، وينبغي أن يعرض على أسراهم بيعة الإمام ، هذا في أسير هو أهل للقتال ، فأما إذا
أسر نساءهم وأطفالهم ، فيحبسون إلى انقضاء القتال ثم يطلقون ، هذا هو الأصح ، وفي وجه
لأبي إسحاق : إن رأى الإمام في إطلاقهم قوة أهل البغي ، وأن حبسهم يردهم إلى الطاعة ، ويدعوهم إلى مراجعة الحق ، حبسهم حتى يطيعوا ، وفي وجه له حبسهم مطلقا كسرا لقلوب البغاة ، وعلى هذا وقت تخليتهم وقت تخلية الرجال ، وأما العبيد والمراهقون ، فأطلق جماعة أنهم كالنساء وإن كانوا يقاتلون ، وقال الإمام
والمتولي : إن كان يجيء منهم قتال ، فهم كالرجال في الحبس والإطلاق ، وهذا حسن ، ولا شك أن العبيد والمراهقين والنساء إذا قاتلوا فهم كالرجال في أنهم يقتلون مقبلين ، ويتركون مدبرين ، ويجوز أسر كل هؤلاء المذكورين ابتداء .
فرع
إذا ظفرنا بخيلهم وأسلحتهم ، لم نردها حتى ينقضي القتال ، ونأمن غائلتهم بعودهم إلى الطاعة ، أو تفرقهم ، ولا يجوز استعمالها في القتال ، فلو وقعت ضرورة ولم يجد أحدنا ما يدفع عن نفسه إلا سلاحهم ، أو ما يركبه وقد وقعت هزيمة إلا خيولهم ، جاز الاستعمال والركوب ، كما يجوز أكل مال الغير للضرورة ، وما ليس من آلات الحرب من أموالهم يرد إليهم عند انقضاء الحرب .
الرابعة :
لا يقاتلهم بما يعم ويعظم أثره ، كالمنجنيق والنار ، وإرسال السيول الجارفة ، لكن لو قاتلونا بهذه الأوجه ، واحتجنا إلى
[ ص: 60 ] المقابلة بمثلها دفعا ، أو أحاطوا بنا ، واضطررنا إلى الرمي بالنار ونحوها ، فعلناه للضرورة ، وإن تحصنوا ببلدة أو قلعة ، ولم يتأت الاستيلاء عليها إلا بهذه الأسباب ، فإن كان فيها رعايا لا بغي فيهم ، لم يجز قتالهم بهذه الأسباب ، وإن لم يكن فيها إلا البغاة المقاتلون ، فكذلك في الأصح ; لأن ترك بلدة في أيدي طائفة من المسلمين قد يمكن الاحتيال في محاصرتهم والتضييق عليهم أقرب إلى الإصلاح من اصطلام أمم .
الخامسة :
لا يجوز أن يستعان عليهم بكفار ; لأنه لا يجوز تسليط كافر على مسلم ، ولهذا لا يجوز لمستحق قصاص أن يوكل كافرا باستيفائه ، ولا للإمام أن يتخذ جلادا كافرا لإقامة الحدود على المسلمين ، ولا يجوز أن يستعان بمن يرى قتلهم مدبرين إما لعداوة وإما لاعتقاده ، كالحنفي ، إلا أن يحتاج إلى الاستعانة بهم ، فيجوز بشرطين ، أحدهما : أن تكون فيهم جرأة وحسن إقدام ، والثاني : أن يتمكن من منعهم لو ابتغوا أهل البغي بعد هزيمتهم ، ولا بد من اجتماع الشرطين لجواز الاستعانة ، كذا حكاه
ابن الصباغ nindex.php?page=showalam&ids=14396والروياني وغيرهما عن اتفاق الأصحاب ولفظ
البغوي يقتضي جوازها بأحدهما .
السادسة : لو
استعان البغاة علينا بأهل الحرب ، وعقدوا لهم ذمة وأمانا ليقاتلوا معهم ، لم ينفذ أمانهم علينا ، فلنا أن نغنم أموالهم ، ونسترقهم ، ونقتلهم إذا وقعوا في الأسر ، ونقتلهم مدبرين ، ونذفف على جريحهم ، وقال
القاضي حسين : لا يتبع مدبرهم ، ولا يذفف على جريحهم ، والصحيح الأول ،
وهل ينعقد الأمان في حق البغاة ؟ وجهان ، أصحهما :
[ ص: 61 ] نعم ، فإن قلنا : لا ، فقال
البغوي : لأهل البغي أن يكروا عليهم بالقتل والاسترقاق ، والذي ذكره الإمام على هذا ، أنه أمان فاسد ، وليس لأهل البغي اغتيالهم ، بل يبلغونهم المأمن ، فلو قالوا : ظننا أنه يجوز لنا أن نعين بعض المسلمين على بعض أو ظننا أنهم المحقون ، أو ظننا أنهم استعانوا بنا في قتال الكفار ، فوجهان ، أحدهما : لا اعتبار بظنهم الفاسد ، ولنا قتلهم واسترقاقهم ، وأصحهما : أنا نبلغهم المأمن ، ونقاتلهم مقاتلة البغاة ، فلا يتعرض لهم مدبرين ،
وما أتلفه أهل الحرب على أهل العدل غير مضمون عليهم ، وما يتلفون على أهل البغي مضمون إن نفذنا أمانهم لهم ، وإلا فلا ، ولو استعان البغاة بأهل الذمة في قتالنا ، نظر ، إن علموا أنه لا يجوز لهم قتالنا ولم يكرهوا ، انتقض عهدهم ، وحكمهم حكم أهل الحرب ، فيقتلون مقبلين ومدبرين ، ولو أتلفوا بعد القتال شيئا ، لم يضمنوه ، وقيل : في انتقاض عهدهم قولان ، وإن قالوا : كنا مكرهين ، لم ينتقض على المذهب ، ويقاتلون مقاتلة البغاة ، وإن قالوا : ظننا أنه يجوز لنا إعانة بعض المسلمين على بعض ، أو أنهم يستعينون بنا على كفار ، أو أنهم المحقون ، لم ينتقض على المذهب ، وقيل : قولان ، وإن لم يذكروا عذرا ، انتقض على المذهب ، وقيل : قولان ، ثم قيل : القولان إذا لم نشترط عليهم ترك القتال في عقد الذمة ، فإن شرط ، انتقض قطعا ، وقيل : قولان مطلقا ، وحيث قلنا : ينتقض ، فهل يبلغون المأمن أم يجوز قتلهم واسترقاقهم ؟ فيه خلاف مذكور في الجزية ، فإن قلنا : يبلغون المأمن ، فهل لنا قتلهم منهزمين ؟ وجهان ، وجه الجواز أنه من بقية العقوبة على القتال ، ثم الذي ذكره
البغوي وغيره ، أنه كما ينتقض عهدهم في حق أهل العدل ينتقض في حق أهل البغي ، وفي " البيان " أنه ينبغي أن يكون في انتقاضه في حق البغاة الخلاف في المسألة السابقة ، وإن قلنا : لا ينتقض ، فهم كالبغاة في أنه لا يتبع مدبرهم
[ ص: 62 ] ولا يذفف على جريحهم ، ولو
أتلفوا شيئا على أهل العدل ، لزمهم الضمان بخلاف البغاة ، فإنهم لا يضمنون في قول ; لأنا أسقطنا الضمان عنهم استمالة لقلوبهم إلى الطاعة لئلا ينفرهم الضمان ، وأهل الذمة في قبضة الإمام ، ولو أتلفوا نفسا ، قال الإمام : إن أوجبنا القصاص على البغاة ، فأهل الذمة وإلا فوجهان ، أحدهما : يجب ، كالضمان ، والثاني : لا ، للشبهة المقترنة بأحوالهم ، وإذا قلنا : لا ينتقض الأمان فجاءنا ذمي تائبا ، ففي ضمان ما أتلف طريقان ، أحدهما : نعم ، والثاني : على قولين ، كالبغاة .
فرع
قاتل أهل الذمة أهل البغي ، لا ينتقض عهدهم على الصحيح ; لأنهم حاربوا من يلزم الإمام محاربتهم .
فرع
استعان البغاة بمن لهم أمان إلى مدة ، انتقض أمانهم ، فإن قالوا : كنا مكرهين ، وأقاموا بينة على الإكراه فهم على العهد ، وإلا انتقض أيضا .
فصل
اقتتل طائفتان باغيتان ، فإن قدر الإمام على قهرهما ، وهزمهما ، لم يعن إحداهما على الأخرى إلا إذا أطاعت ، فيعينها على الأخرى ، وإن لم يقدر على قهرهما ، ضم إلى نفسه أقربهما إلى الحق ، واستعان بهم على الأخرى ، وإن استويا اجتهد فيهما ، ولا يقصد بضم المضمومة إليه معاونتها ، بل يقصد دفع الأخرى ، فإن اندفع شر الأخرى ، لم يقاتل المضمومة إلا بعد أن يدعوها إلى الطاعة ; لأنها بالاستعانة صارت في أمانه ، ولو أمن عادل باغيا ، نفذ أمانه وإن كان عبدا أو امرأة .
[ ص: 63 ] فرع
حكم دار البغي حكم دار الإسلام ، وإذا جرى فيها ما يوجب الحد ، أقامه الإمام .
فرع
يتحرز العادل عن قتال قريبه الباغي ما أمكنه .
فرع
قال
المتولي : يلزم الواحد من أهل العدل مصابرة اثنين من البغاة ، فلا يولي عنهما إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة .
فرع
نص في " المبسوط " أنه إذا
غزا أهل العدل والبغاة مشركين ، واجتمعوا في دار الشرك ، فهم في الغنيمة سواء ، والقاتل منهم يستحق السلب ، وأما الخمس ، فيفرقه الإمام ، وأنه لو وادع أهل البغي مشركين ، لم يقصدهم أحد من المسلمين ، ولو غزا أهل البغي قوما من المشركين قد وادعهم الإمام ، فسبوا منهم ، فإذا ظهر الإمام عليهم ، رد السبي على المشركين ، وأنه لو أمن أهل العدل رجلا من البغاة ، فقتله رجل جاهل بأمانه ، وقال : علمته باغيا ، وظننت أنه جاءنا لينال غرتنا ، حلف وألزم الدية ، وإن قتله عامدا اقتص منه ، وأنه لو قتل عادل عادلا في القتال وقال : ظننته باغيا ، حلف وضمن الدية ، وأنه لو سبى الكفار من أهل البغي ، وقدرنا على استنقاذهم ، وجب الاستنقاذ ، وبالله التوفيق .