[ ص: 106 ] كتاب حد القذف
القذف من الكبائر ، ويتعلق به الحد بالنص والإجماع .
ويشترط لوجوب الحد على القاذف كونه مكلفا مختارا ، فلا حد على صبي ومجنون ومكره ، ويعزر الصبي والمجنون الذي له نوع تمييز ، وسواء في هذا المسلم والذمي والمعاهد ، فإن كان القاذف حرا ، فحده ثمانون جلدة ، وإن كان رقيقا ، أو مكاتبا ، أو مدبرا ، أو أم ولد ، أو بعضه حر فأربعون جلدة ، ويشترط كون المقذوف محصنا ، وقد سبق في كتاب اللعان بيان ما يحصل به إحصانه ، ولا يحد الأب والجد بقذف الولد وولد الولد ، وقال
ابن المنذر : يحد .
قلت : الأم والجدات كالأب . والله أعلم .
ومن ورث من أمه حد قذف على أبيه ، سقط ، ومن قذف شخصا بزنيتين ، فالمذهب أن عليه حدا واحدا وقد سبق إيضاحه في اللعان ، ولو
قال لرجل : يا زانية ، أو لامرأة : يا زاني ، فقد سبق في اللعان أنه قذف ، وكذا لو خاطب خنثى بأحد اللفظتين ، ولو قال له : زنى فرجك وذكرك ، فقذف صريح .
ولو قال : زنى فرجك ، أو قال : زنى ذكرك ، قال صاحب " البيان " الذي يقتضيه المذهب أن فيه وجهين ، أحدهما : قذف صريح ، والثاني : كناية ، كما لو أضاف الزنا إلى يد رجل أو امرأة ، وصرائح القذف وكناياته سبقت في اللعان .
فصل
قال الأصحاب : حد القذف وإن كان حق آدمي ، ففيه مشابهة حدود الله تعالى في مسائل :
[ ص: 107 ] إحداها : لو
قال له : اقذفني ، فقذفه ، ففي وجوب الحد وجهان الأصح : لا ، وقول الأكثرين : لا يجب .
الثانية : لو
استوفى المقذوف حد القذف ، لم يقع الموقع ، كحد الزنا لو استوفاه أحد الرعية ، وفي وجه ضعيف : يقع الموقع كما لو استقل المقتص بقتل الجاني .
الثالثة : ينشطر بالرق كما سبق ، وحقوق الآدمي لا تختلف ، قالوا : لكن المغلب فيه حق الآدمي لمسائل منها : أنه لا يستوفى إلا بطلبه بالاتفاق ، ويسقط بعفوه ، ويورث عنه ، ولو عفا عن الحد على مال ، ففي صحته وجهان .
قلت : الصحيح أنه لا يستحق المال . والله أعلم .
فرع
من
التعريض في القذف أن يقول : ما أنا بابن إسكاف ولا خباز ، ولو قال : يا قواد ، فليس صريحا في قذف زوجة المخاطب ، لكنه كناية ، ولو قال : يا مؤاجر ، فليس بصريح في قذف المخاطب على الصحيح الذي قاله الجمهور ، وقال
ابن إبراهيم المروذي عن شيخه
التيمي : هو صريح في قذفه بالتمكين من نفسه ، لاعتياد الناس القذف به ، وقيل : هو صريح من العامي فقط ، ولو رماه بحجر ، فقال : من رماني فأمه زانية ، فإن كان يعرف الرامي فقاذف ، وإلا فلا .
فصل
الرمي بالزنا لا في معرض الشهادة يوجب حد القذف ، فأما في
[ ص: 108 ] معرض الشهادة ، فينظر إن تم العدد وثبتوا ، أقيم حد الزنا على المرمي ، ولا شيء عليهم ، وإن لم يتم العدد ، بأن شهد اثنان أو ثلاثة ، فهل يلزمهم حد القذف ؟ قولان ، أظهرهما : نعم ، وهو نصه قديما وجديدا ; لأن
عمر رضي الله عنه جلد الثلاثة الذين شهدوا ، ولئلا تتخذ صورة الشهادة ذريعة إلى الوقيعة في أعراض الناس .
ولو شهد على زنا امرأة زوجها مع ثلاثة ، فالزوج قاذف ; لأن شهادته عليها بالزنا لا تقبل ، وفي الثلاثة القولان ، ولو شهد أربع نسوة أو ذميون أو عبيد ، أو فيهم امرأة أو عبد أو ذمي ، فالمذهب أنهم قذفة فيحدون ; لأنهم ليسوا من أهل الشهادة ، فلم يقصدوا إلا العار ، وقيل : فيهم القولان ، وصور الإمام المسألة فيما إذا كانوا في ظاهر الحال بصفة الشهود ، ثم بانوا عبيدا أو كفارا ، ومراده أن القاضي إذا علم حالهم لا يصغي إليهم فيكون قولهم قذفا محضا لا في معرض شهادة .
ولو
شهد أربعة فساق ، أو فيهم فاسق ، نظر إن كان فسقهم مقطوعا به ، كالزنا والشرب ، فقيل : فيهم القولان ، وقيل : لا يحدون قطعا وهو الأصح عند
القاضي أبي حامد ; لأن نقص العدد متيقن ، وفسقهم إنما يعرف بالظن ، والحد يسقط بالشبهة ، وإن كان فسقهم مجتهدا فيه ، كشرب النبيذ ، لم يحدوا قطعا ، وفي معنى الفسق المجتهد فيه ، ما إذا كان فيهم عدو للمشهود عليه ; لأن رد الشهادة بالعداوة مجتهد فيه ، ولو حددنا العبيد الذين شهدوا ، فعتقوا وأعادوا الشهادة ، قبلت ، ولو لم يتم العدد ، فحددنا من شهد ، ثم عاد من يتم به العدد فشهدوا ، لم تقبل شهادتهم ، كالفاسق ترد شهادته ثم يتوب ويعيدها ، لا تقبل ، وهذا الخلاف المذكور هو فيمن شهد في مجلس القاضي ، أما من شهد في غير مجلسه ، فقاذف بلا خلاف ، وإن كان بلفظ الشهادة .
[ ص: 109 ] فرع
لو شهد أربعة بالشروط المعتبرة ، ثم رجعوا ، لزمهم حد القذف ; لأنهم ألحقوا به العار سواء تعمدوا أو أخطئوا ; لأنهم فرطوا في ترك التثبت ، وقيل : في حدهم القولان ; لأنهم شهود ، والمذهب الأول ، ولو رجع بعضهم ، فعلى الراجح الحد على المذهب ، وقيل : بالقولين ، وأما من أصر على الشهادة ، فلا حد عليه ، وقيل : بالقولين ، والمذهب الأول ، وسواء الرجوع بعد حكم القاضي بالشهادة وقبله ، ولو شهد أكثر من أربعة ، فرجع بعضهم ، إن بقي أربعة فلا حد على الراجعين ، وإلا فعلى الراجعين الحد .
فرع
شهد واحد على إقراره بالزنا ، ولم يتم العدد ، فطريقان ، أحدهما : في وجوب حد القذف عليه القولان ، والمذهب : القطع بأن لا حد ; لأنه لا حد على من قال لغيره : أقررت بأنك زنيت ، وإن ذكره في معرض القذف والتعيير .
فرع
تقاذف شخصان ، لا يتقاصان ; لأن التقاص إنما يكون عند اتفاق الجنس والصفة ، وقد سبق معظم مسائل الكتاب في كتاب اللعان . وبالله التوفيق .