الطرف الثاني في محل ضمان إتلاف الإمام
فما تعدى به من التصرفات ، وقصر فيه ، أو أخطأ لا يتعلق بالحكم ، بأن
رمى صيدا ، فقتل إنسانا ، حكمه فيه حكم سائر الناس ، فيجب
[ ص: 183 ] في ماله ، أو على عاقلته ، وأما
الضمان الواجب بخطئه في الأحكام وإقامة الحدود ، فهل هو على عاقلته ، أم في بيت المال ؟ قولان ، أظهرهما : على عاقلته وقد سبقا في باب العاقلة ، فإن قلنا : على العاقلة ، فالكفارة في ماله ، وإن قلنا : على بيت المال ، فهل الكفارة في بيت المال أم في ماله ؟ وجهان ، فلو
ضرب الإمام في الخمر ثمانين ، ومات المجلود ، ففي محل الضمان القولان ولو
جلد حاملا حدا ، فألقت جنينا ميتا ، ففي محل الغرة القولان ، إن جهل حملها ، فإن علمه ، فقيل : بالقولين ، والمذهب أنها على عاقلته ؛ لأنه عدل عن الصواب عمدا ، ولو انفصل حيا ومات وجب كل الدية ومحلها على ما ذكرنا ، ولو ماتت الحامل ، فقد أطلق في " المختصر " أنه لا يضمنها ، قال الشيخ
أبو حامد وغيره : إن ماتت من الجلد وحده ، بأن ماتت قبل الإجهاض ، فلا ضمان وهو موضع النص ، وذكر
ابن الصباغ أن فيه والحالة هذه الخلاف فيما لو حده في حر مفرط ، فمات ، وإن ماتت من الإجهاض وحده ، بأن أجهضت ، ثم ماتت ، وأحيل الموت على الإجهاض ، وجب كمال ديتها ، وإن قيل : ماتت بالحد والإجهاض جميعا ، وجب نصف ديتها .
فرع
سنذكر في الشهادات - إن شاء الله تعالى - أن القاضي إذا حكم بشهادة اثنين ، ثم بانا عبدين أو ذميين ، نقض الحكم ، وإن بانا فاسقين ، نقضه على الأظهر ، فلو
أقام الحد بشهادة اثنين ، ثم بانا ذميين أو عبدين أو امرأتين أو مراهقين أو فاسقين ، ومات المحدود ، فقد بان بطلان الحكم ، فينظر إن قصر في البحث عن حالهما ، فالضمان عليه لا يتعلق ببيت المال ولا بالعاقلة أيضا إن تعمد ، قال الإمام : وإنما يتردد في وجوب القصاص ، والراجح الوجوب ؛ لأن الهجوم على القتل ممنوع
[ ص: 184 ] منه بالإجماع ، ويحتمل أن لا يجب بإسناده القتل إلى صورة البينة ، وإن لم يقصر في البحث ، بل بذل وسعه ، جرى القولان في أن الضمان على عاقلته أم في بيت المال ثم إذا ضمنت العاقلة أو بيت المال ، فهل يثبت الرجوع على الشاهدين ؟ فيه أوجه ، أحدها : نعم ؛ لأنهما غرا القاضي ، وأصحهما : لا ؛ لأنهما يزعمان أنهما صادقان ، ولم يوجد منهما تعد ، وقد ينسب القاضي إلى تقصير في البحث . والثالث : يثبت الرجوع للعاقلة دون بيت المال ، فإن أثبتنا الرجوع ، طولب الذميان في الحال ، وفي العبدين يتعلق بذمتهما على الأصح ، وقيل : بالرقبة ، وأما المراهقان ، فإن قلنا : يتعلق برقبة العبدين نزلنا ما وجد منهما منزلة الإتلاف ، وإلا فقول الصبي لا يصلح للالتزام ، فلا رجوع ، وإن بانا فاسقين ، فإن قلنا : لا ينقض الحكم ، فلا أثر له ، وإن قلنا : ينقض ، ففي الرجوع عليهما أوجه ، أحدها : نعم كالعبدين ، والثاني : لا ؛ لأن العبد مأمور بإظهار حاله بخلاف الفاسق ، وأصحها : إن كان مجاهرا بالفسق ، ثبت الرجوع ؛ لأن عليه أن يمتنع من الشهادة ، ولأن قبول شهادته مع مجاهرته يشعر بتعزيره ، وإن كان مكاتما ، فلا .
فرع
قتل الجلاد وضربه بأمر الإمام كمباشرة الإمام إذا لم يعلم ظلمه وخطأه ، ويتعلق الضمان والقصاص بالإمام دون الجلاد ؛ لأنه آلته ، ولو ضمناه لم يتول الجلد أحد ، وإن علم أن الإمام ظالم أو مخطئ ، ولم يكرهه الإمام عليه فالقصاص والضمان على الجلاد دون الإمام ، لأنه إذا علم الحال لزمه الامتناع ويجيء على قولنا : أمر الإمام إكراه ، أن يكون هذا كما لو أكرهه ، وإن أكرهه ، فالضمان عليهما ، وإن اقتضى الحال القصاص ، وجب على الإمام ، وفي الجلاد قولان ، ولو
أمره بضربه [ ص: 185 ] وقال : أنا ظالم في ضربه ، فضربه الجلاد ومات ، قال
البغوي : إن قلنا : أمر السلطان ليس بإكراه ، فالضمان على الجلاد ، وإن قلنا : إكراه ، فإن قلنا : لا ضمان على المكره ، فالضمان على الإمام ، ولو قال : افعل إن شئت ، فليس بإكراه قطعا ، ولو قال : اضرب ما شئت ، أو ما أحببت ، لم تكن له الزيادة على الحد ، فإن زاد ، ضمن ، ولو
أمره بقتل في محل الاجتهاد ، كقتل مسلم بذمي ، وحر بعبد ، والإمام والجلاد يعتقدان أنه غير جائز ، فقتله ، قال
البغوي القود عليهما إن جعلنا أمر السلطان إكراها ، وأوجبنا القود على المكره والمكره جميعا ، ولو اعتقد الجلاد منعه ، والإمام جوازه ، أو ظن أن الإمام اختار ذلك المذهب ، ففي وجوب القصاص والضمان على الجلاد وجهان ، أصحهما عند الأصحاب : الوجوب ، وبه قطع
ابن الصباغ والبغوي وغيرهما ؛ لأن واجبه الامتناع ، فإن أكره فحكمه معروف ، والثاني : لا اعتبار باعتقاد الإمام ولو كان الإمام لا يعتقد جواز قتل حر بعبد ، فأمره به تاركا للبحث ، وكان الجلاد يعتقد جوازه ، فقتله عملا باعتقاده ، فقد بني على الوجهين قتله ، فإن اعتبرنا اعتقاد الإمام ، وجب القصاص ، وإن اعتبرنا اعتقاد الجلاد ، فلا ، قال الإمام : وهذا ضعيف هنا ؛ لأن الجلاد مختار عالم بحال والإمام لم يفوض إليه النظر والاجتهاد بل القتل فقط ، فالجلاد كالمستقل .
فصل
لا ضمان على
الحجام إذا حجم أو فصد بإذن من يعتبر إذنه ، فأفضى إلى تلف ، وكذا لو قطع سلعة بالأذن للمعنى الذي ذكرناه في الجلاد بخلاف من قطع يدا صحيحة بإذن صاحبها ، فمات منه ، حيث توجب الدية على قول ؛ لأن الإذن هناك لا يبيح القتل ، وهنا الفعل جائز
[ ص: 186 ] لغرض صحيح ، وأما إذا قطع بالأذن ، ووقف القطع فلم يسر ، فلا ضمان بلا خلاف . وبالله التوفيق .