الباب الثالث في
ضمان ما تتلفه البهائم
إذا أتلفت البهيمة ، فإما أن لا يكون معها أحد من مالك وغيره ، وإما أن يكون .
الحال الأول : أن لا يكون أحد ، وأتلفت زرعا أو غيره ، نظر إن أتلفته بالنهار ، فلا ضمان على صاحبها ، وإن أتلفته بالليل ، لزم صاحبها الضمان ، للحديث الصحيح في ذلك ، ولأن العادة أن أصحاب الزروع والبساتين يحفظونها نهارا ، ولا بد من إرسال المواشي للرعي ، ثم العادة أنها لا تترك
[ ص: 196 ] منتشرة ليلا ، فإذا تركها ليلا ، فقد قصر ، فضمن ، ولو جرت العادة في ناحية بالعكس ، فكانوا يرسلون المواشي ليلا للرعي ، ويحفظونها نهارا ، وكانوا يحفظون الزرع ليلا ، فوجهان ، أصحهما : ينعكس الحكم ، فيضمن ما أتلفته بالنهار دون الليل اتباعا لمعنى الخبر والعادة . والثاني : لا تأثير للعادة ويتعلق به فروع .
الأول : المزارع في الصحراء والبساتين التي لا جدار لها ، حكمها ما ذكرنا ، أما إذا
كان الزرع في محوط ، وكان للبساتين باب يغلق ، فتركه مفتوحا فوجهان ، أحدهما : الحكم كذلك لإطلاق الحديث ولأن العادة حفظ البهائم وربطها ليلا ، فإرسالها تقصير ، وأصحهما : لا ضمان وإن أتلفت بالليل ؛ لأن التقصير من صاحب الزرع بفتح الباب .
الثاني : إنما يعتاد إرسال المواشي إذا كان هناك مراع بعيدة عن المزارع ، وحينئذ إن فرض انتشارها إلى أطراف المزارع ، لم يعد تقصيرا ، فأما إذا
كانت المراعي متوسطة للمزارع ، أو كانت البهائم ترعى في حريم السواقي ، فلا يعتاد إرسالها بلا راع ، فإن أرسلها ، فمقصر ضامن لما أفسدته وإن كان نهارا ، هذا هو المذهب ، وبه قطع الجمهور .
الثالث : لو
ربط بهيمته ، وأغلق بابه ، واحتاط على العادة ، ففتح الباب لص ، أو انهدم الجدار ، فخرجت ليلا ، فلا ضمان ، إذ لا تقصير ، ولو قصر صاحب البهيمة ، وحضر صاحب الزرع ، فإن قدر على تنفيرها ، فليفعل ، فإن تهاون فهو المقصر المضيع لزرعه ، فلا ضمان على الصحيح . وينبغي أن لا يبالغ التنفير والإبعاد ، بل يقتصر على قدر الحاجة ، فإن زاد ، فضاعت ، قال
إبراهيم المروذي : لزمه الضمان وتصير داخلة في ضمانه بالتبعيد فوق قدر الحاجة ، ولو
أخرجها من زرعه وأدخلها في زرع غيره ، فأفسدته ، لزمه الضمان . فإن كانت محفوفة بمزارع الناس ، ولم
[ ص: 197 ] يمكن إخراجها إلا بإدخالها مزرعة غيره ، لم يجز أن يقي مال نفسه بمال غيره ، بل يصبر ويغرم صاحبها .
الرابع : إذا
أرسل دابة في البلد ، فأتلفت شيئا ، ضمن على الأصح ، وجميع ما ذكرنا فيما إذا تعلق إرسال الدابة وضبطها باختياره ، فإن انفلتت ، لم يضمن ما أتلفته بحال ، ولو
ربط دابته في موات ، أو ملك نفسه ، وغاب عنها ، لم يضمن ما تتلفه ، وإن ربطها في الطريق على باب داره ، أو في موضع آخر ، لزمه الضمان ، سواء كان الطريق ضيقا أو واسعا ؛ لأن الارتفاق في الطريق إنما يجوز بشرط سلامة العاقبة ، كإشراع الجناح ، وقيل : إن كان واسعا ، فلا ضمان ، والصحيح المنصوص هو الأول ، ولم يتعرضوا للفرق بين ربطه بإذن الإمام ودون إذنه .
فرع
إذا
أرسل الحمام ، أو غيرها من الطير ، فكسرت شيئا ، أو التقطت حبا ، فلا ضمان ؛ لأن العادة إرسالها ، ذكره
ابن الصباغ .
الحال الثاني : إذا
كان مع البهيمة شخص ، ضمن ما أتلفته من نفس ومال ، سواء أتلفت ليلا أو نهارا ، وسواء كان سائقها أو راكبها أو قائدها ، وسواء أتلفت بيدها أو رجلها أو عضها أو ذنبها ؛ لأنها تحت يده وعليه تعهدها وحفظها ، وسواء كان الذي مع البهيمة مالكها أو أجيره ، أو مستأجرا أو مستعيرا أو غاصبا ، لشمول اليد ، وسواء البهيمة الواحدة والعدد ، كالإبل المقطورة ، وحكى
nindex.php?page=showalam&ids=13459ابن كج وجها أنه إن كانت الماشية مما تساق ، كالغنم ، فساقها ، لم يضمن ، وإن كانت مما يقاد ،
[ ص: 198 ] فساقها ، ضمن ، والصحيح أنه يضمن في الحالين وبه قطع الجماهير ، ولو كان معها قائد وسائق ، فالضمان عليهما نصفين ، وفي الراكب مع السائق أو القائد وجهان ، أحدهما : عليهما نصفين ، والثاني : يخص الراكب بالضمان لقوة يده وتصرفه ، ولو اجتمع راكب وسائق وقائد ، فهل يختص الراكب بالضمان أم يجب عليهم أثلاثا ؟ وجهان ، ولو
كان يسير دابة ، فنخسها إنسان ، فرمحت وأتلفت شيئا ، فالضمان على الناخس على الصحيح ، وقيل : عليهما ، ولو
انفلتت الدابة من يد صاحبها وأتلفت شيئا ، فلا ضمان عليه من يده ، فلو أمسك على اللجام ، وركبت رأسها فهل يضمن ما تتلفه ؟ قولان ، وعن صاحب " التلخيص " طرد الخلاف ، وإن لم يكن معها الراكب ، كما إذا غلبت السفينتان الملاحين ، قال الإمام : والدابة النزقة التي لا تنضبط بالكبح ، والترديد في معاطف اللجام ، لا تركب في الأسواق ، ومن ركبها ، فهو مقصر ضامن لما تتلفه ، وإذا
راثت الدابة ، أو بالت في سيرها في الطريق ، فزلق به إنسان ، وتلفت نفس أو مال ، أو فسد شيء من رشاش الوحل بممشاها وقت الوحول والأنداء ، أو مما يثور من الغبار ، وقد يضر ذلك بثياب البزازين والفواكه ، فلا ضمان في كل ذلك ؛ لأن الطريق لا يخلو عنه ، والمنع من الطرق لا سبيل إليه ، لكن ينبغي أن يحترز مما لا يعتاد ، كالركض المفرط في الوحل ، والإجراء في مجتمع الوحول ، فإن خالف ، ضمن ما يحدث منه ، وكذا لو ساق الإبل في الأسواق غير مقطورة ؛ لأنه لا يمكن ضبطها حينئذ ، وإذا بالت الدابة ، أو راثت في الطريق وقد وقفها فيه ، فأفضى المرور في موضع البول إلى تلف ، فعلى الخلاف السابق فيما لو أتلفت الدابة الموقوفة هناك شيئا ، والمذهب : أنه لا ضمان وقيل : يفرق بين طريق واسع وضيق ، وعن
ابن الوكيل وجه : أنه يجوز أن تقف الدابة في الطريق مطلقا ، كما يجوز أن يجريها ، فإذا بالت أو
[ ص: 199 ] راثت في وقوفها ، وتلف به إنسان ، فلا ضمان ، ولو كان يركض دابته ، فأصاب شيء من موضع السنابك عين إنسان ، وأبطل ضوءها ، فإن كان الموضع موضع ركض ، فلا ضمان ، وإلا فيضمن ، ولو كان يسوق دابة عليها حطب ، أو حمله على ظهره ، أو على عجلة ، فاحتك ببناء وأسقطه ، لزمه ضمانه ، وإن دخل السوق به ، وتلف منه مال أو نفس ، ففي " التهذيب " وغيره أنه إن كان ذلك وقت الزحام ، ضمن ، وإن لم يكن زحام ، وتمزق ثوبه بخشبة تعلقت به مثلا ، فإن كان صاحب الثوب مستقبلا للدابة ، فلا ضمان ؛ لأن التقصير منه إلا أن يكون أعمى ، فعلى صاحب الدابة إعلامه ، وإن كان يمشي قدام الدابة ، لزم صاحبها الضمان إذا لم يعلمه ؛ لأنه مقصر في العادة ، وإن كان من صاحب الثوب جذبه أيضا بأن تعلقت الخشبة بثوبه فجذبه وجذبتها الدابة ، فعلى صاحبها نصف الضمان ، ولو كان يمشي ، فوقع مقدم مداسه على مؤخر مداس غيره وتمزق ، لزمه نصف الضمان ؛ لأنه تمزق بفعله وفعل صاحبه ، هكذا ذكره
إبراهيم المروذي ، وينبغي أن يقال : إن تمزق مؤخر مداس السابق ، فالضمان على اللاحق ، وإن تمزق مقدم مداس اللاحق ، فلا ضمان على السابق ، وجميع ما ذكرنا في وجوب الضمان على صاحب الدابة هو فيما إذا لم يوجد من صاحب المال تقصير ، فإن وجد بأن عرضه للدابة ، أو وضعه في الطريق ، فلا ضمان على صاحب الدابة .
فرع
إذا كانت له
هرة تأخذ الطيور ، وتقلب القدور ، فأتلفت شيئا فهل على صاحبها ضمان ؟ وجهان ، أصحهما : نعم ، سواء أتلفت ليلا أو نهارا ؛ لأن مثل هذه الهرة ينبغي أن تربط ويكف شرها ، وكذا الحكم في كل حيوان تولع بالتعدي . والثاني : لا ضمان ، سواء أتلفت ليلا
[ ص: 200 ] أو نهارا ؛ لأن العادة لا تربط ، أما إذا لم يعهد منها ذلك فوجهان ، أصحهما : لا ضمان ؛ لأن العادة حفظ الطعام عنها لا ربطها . والثاني : يفرق بين الليل والنهار كما سبق في البهيمة ، وأطلق الإمام في ضمان ما تتلفه الهرة أربعة أوجه ، أحدها : يضمن ، والثاني : لا ، والثالث : يضمن ليلا لا نهارا ، كالبهيمة ، والرابع : عكسه ؛ لأن الأشياء تحفظ عنها ليلا ، وإذا أخذت الهرة حمامة وهي حية ، جاز فتل أذنها وضرب فمها لترسلها ، وإذا قصدت الحمام ، فأهلكت في الدفع ، فلا ضمان ، فلو صارت ضارية مفسدة فهل يجوز قتلها في حال سكونها ؟ وجهان ، أصحهما وبه قال
القفال : لا يجوز ؛ لأن ضراوتها عارضة والتحرز عنها سهل ، وقال القاضي
حسين : تلتحق بالفواسق الخمس ، فيجوز قتلها ، ولا يختص بحال ظهور الشر ، قال الإمام : وقد انتظم لي كلام الأصحاب أن الفواسق مقتولات لا يعصمها الاقتناء ، ولا يجري الملك عليها ، ولا أثر لليد والاختصاص فيها .
فرع
لو
كان في داره كلب عقور ، أو دابة رموح ، فدخلها إنسان ، فرمحته ، أو عضه الكلب ، فلا ضمان إن دخل بغير إذن صاحب الدار ، أو بإذنه وأعلمه بحال الكلب والدابة ، وإن لم يعلمه فقولان ، كما لو وضع بين يديه طعاما مسموما ، ومنهم من خص الخلاف بمن كان أعمى ، أو في ظلمة ، وقطع بنفي الضمان إذا كان بصيرا يرى .
فرع
لو
ابتلعت البهيمة في مرورها جوهرة ، ضمنها صاحبها إن كان معها ، أو وجد منه تقصير ، بأن طرح لؤلؤة غيره بين يدي دجاجة ، وإلا فوجهان ، أحدهما : يفرق بين الليل والنهار ، كالزرع ، والثاني : يضمن
[ ص: 201 ] ليلا ونهارا ، وإذا أوجبنا الضمان ، فطلب صاحب الجوهرة ذبحها ورد الجوهرة ، فقد سبق بيانه في الغصب .