[ ص: 278 ] الباب الثالث في
ترك القتال والقتل بالأمان
قد تقتضي المصلحة الأمان لاستمالته إلى الإسلام ، أو إراحة الجيش ، أو ترتيب أمرهم ، أو للحاجة إلى دخول الكفار ، أو لمكيدة وغيرها ، وينقسم إلى عام وهو ما تعلق بأهل إقليم أو بلد ، وهو عقد الهدنة ، ويختص بالإمام وولاته ، وسيأتي في بابه - إن شاء الله تعالى - وإلى خاص وهو ما تعلق بآحاد ، ويصح من الولاة والآحاد ، والباب معقود لهذا وفيه مسائل : إحداها : إنما يجوز لآحاد المسلمين أمان كافر ، أو كفار محصورين ، كعشرة ومائة ، ولا يجوز أمان ناحية وبلدة ، وفي البيان أنه يجوز أن يؤمن واحد أهل قلعة ، ولا شك أن القرية الصغيرة في معناها ، وعن
الماسرجسي أنه لا يجوز
أمان واحد لأهل قرية وإن قل عدد من فيها ، والأول أصح ، وضابطه أن لا ينسد به باب الجهاد في تلك الناحية ، فإذا تأتى الجهاد بغير تعرض لمن أمن ، نفذ الأمان ، لأن الجهاد شعار الدين والدعوة القهرية ، وهو من أعظم مكاسب المسلمين ، ولا يجوز أن يظهر بأمان الآحاد انسداده أو نقصان يحس ، قال الإمام : ولو أمن مائة ألف من الكفار ، فكل واحد لم يؤمن إلا واحدا ، لكن إذا ظهر انسداد أو نقصان ، فأمان الجميع مردود ، ولك أن تقول : إن أمنوهم معا فرد الجميع ظاهر ، وإن أمنوهم متعاقبين ، فينبغي أن يصح أمان الأول فالأول إلى ظهور الخلل ، على أن
الروياني ذكر أنه لو أمن كل واحد واحدا ، جاز ، وإن كثروا حتى زادوا على عدد أهل البلدة .
[ ص: 279 ] المختار أنه يصح أمان المتعاقبين إلى أن يظهر الخلل ، وهو مراد الإمام ، والله أعلم . وسواء كان الكافر المؤمن في دار الحرب ، أو في حال القتال أو الهزيمة ، أو عند مضيق ، بل يصح الأمان ما دام الكافر ممتنعا ، فأما بعد الأسر ، فلا يجوز للآحاد أمانه ولا المن عليه ، ولو قال واحد من المسلمين : كنت أمنته قبل هذا ، لم يقبل بخلاف ما لو أقر بأمان من يجوز أمانه في الحال ، فإنه يصح ، ولو قال جماعة : كنا أمناه ، لم يقبل أيضا لأنهم يشهدون على فعلهم ، ولو قال واحد : كنت أمنته ، وشهد به اثنان ، قبلت شهادتهما .
فرع
في جواز عقد المرأة استقلالا وجهان .
الثانية : يصح الأمان من كل مسلم مكلف مختار ، فيصح
أمان العبد المسلم وإن كان سيده كافرا ، والمرأة والخنثى ، والفقير والمفلس ، والمحجور عليه بسفه ، والمريض والشيخ الهرم ، والفاسق وفي الفاسق وجه ضعيف ، ولا يصح أمان كافر وصبي ومجنون ومكره ، وفي الصبي المميز وجه كتدبيره .
الثالثة : ينعقد الأمان بكل لفظ يفيد الغرض ، صريح أو كناية ، فالصريح : أجرتك ، أو أنت مجار ، أو أمنتك ، أو أنت آمن ، أو في أماني ، أو لا بأس عليك ، أو لا خوف عليك ، أو لا تخف ، أو لا تفزع ، أو قال بالعجمية : مترس ، وقال صاحب " الحاوي " : لا تخف ، لا تفزع . كناية . والكناية ، كقوله : أنت على ما تحب ، أو كن كيف شئت ، وتنعقد بالكتابة والرسالة ، سواء كان الرسول مسلما أو كافرا ، وبالإشارة المفهمة من قادر على العبارة . وبناء الباب على التوسعة . فأما الكافر المؤمن فلا بد من علمه وبلوغ خبر الأمان إليه ، فإن لم يبلغه ، فلا أمان ، فلو
[ ص: 280 ] بدر مسلم فقتله ، جاز وإذا خاطبه بالأمان ، أو بلغه الخبر ، فرده ، بطل ، وإن قبل ، أو كان قد استجار من قبل ، تم الأمان ، ولا يشترط قبوله لفظا ، بل تكفي الإشارة والأمارة المشعرة بالقبول ، فإن كان في القتال ، فينبغي أن يترك القتال ، فلو سكت ، فلم يقبل ولم يرد ، قال الإمام : فيه تردد ، والظاهر : اشتراط قبوله ، وبه قطع
nindex.php?page=showalam&ids=14847الغزالي ، واكتفى
البغوي بالسكوت ، ولو قال الكافر : قبلت أمانك ، ولست أؤمنك فخذ حذرك ، قال الإمام : هو رد للأمان ، لأن الأمان لا يثبت في أحد الطرفين دون الآخر ، ويصح تعليق الأمان بالأعذار ، ولو أشار مسلم إلى كافر في القتال ، فانحاز إلى صف المسلمين ، وتفاهما الأمان ، فهو أمان ، وإن قال الكافر : ظننت أنه يؤمنني ، وقال المسلم : لم أرده ، فالقول قول المسلم ولا أمان ، ولكن لا يغتال ، بل يلحق بمأمنه ، وكذا لو دخل بأمان صبي أو مجنون أو مكره ، وقال : ظننت صحته ، أو ظننته بالغا ، أو عاقلا ، أو مختارا ، ولو قال : علمت أنه لم يرد الأمان ، فقد دخل بلا أمان ، وكذا لو قال : علمت أنه كان صبيا وأنه لا أمان للصبي ، ولو مات المسلم المشير قبل البيان ، فلا أمان ولا اغتيال .
فرع
ما ذكرناه من اعتبار صيغة الأمان هو فيما إذا دخل الكافر بلادنا بلا سبب ، فلو دخل رسولا ، فقد سبق أن الرسول لا يتعرض له ، ولو دخل ليسمع الذكر ، وينقاد للحق إذا ظهر له ، فكذلك ، وقصد التجارة لا يفيد الأمان ، ولكن لو رأى الإمام مصلحة في دخول التجار ، فقال : من دخل تاجرا ، فهو آمن ، جاز ، ومثل هذا الأمان لا يصح من الآحاد ، ولو قال : ظننت أن قصد التجارة يفيد الأمان ، فلا أثر لظنه ويغتال إذ لا مستند له ، ولو سمع مسلما يقول : من دخل تاجرا ، فهو آمن ، فدخل وقال : ظننت صحته ، فالأصح أنه لا يغتال .