الباب الثالث في اليمين
فيه أطراف :
الأول في نفس الحلف ، وصيغ الأيمان مستوفاة في موضعها ، والمقصود الآن بيان قاعدتين إحداهما : أن للتغليظ مدخلا في الأيمان المشروعة في الدعاوى مبالغة في الزجر ، وفيه مسائل : الأولى
التغليظ يقع بوجوده ، أحدها التغليظ اللفظي ، وهو ضربان ، أحدهما : التعديد ، وهو مخصوص باللعان والقسامة ، وواجب فيهما ، الثاني : زيادة الأسماء والصفات ، بأن يقول : والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة ، الرحمن الرحيم ، الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية ، أو والله الطالب الغالب ، المدرك المهلك ، الذي يعلم السر وأخفى ، وهذا الضرب مستحب ، فلو اقتصر على : " الله " كفى ، واستحب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي رحمه الله أن يقرأ على الحالف (
إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا ) الآية ، وأن يحضر المصحف ، ويوضع في حجر الحالف ، وذكر بعضهم أنه يحلف قائما زيادة في التغليظ . والوجه
[ ص: 32 ] الثاني : التغليظ بالمكان ، والثالث : التغليظ بالزمان ، وهما مفصلان في كتاب اللعان . وهل التغليظ بالمكان مستحب أم واجب لا يعتد بالحلف في غيره ؟ قولان ، أظهرهما : الأول ، وقيل : مستحب قطعا ، والتغليظ بالزمان مستحب ، وقيل كالمكان ، ورأى الإمام طرد الخلاف في الضرب الثاني من التغليظ اللفظي ، ومن وجوه التغليظ المذكورة في اللعان التغليظ بحضور جمع ، ولم يذكروه هنا ، ويشبه أن يقال : الأيمان المتعلقة بإثبات حد أو دفعه يكون التغليظ فيها بالجمع ، كما هو في اللعان .
قلت : الصواب القطع بأنه لا يعتبر هنا . والله أعلم .
ثم التغليظ هل يتوقف على طلب الخصم ، أم يغلظ القاضي وإن لم يطلب الخصم ؟ وجهان ، أصحهما : الثاني ، حكاه
nindex.php?page=showalam&ids=13459ابن كج ، ويشبه أن يجريا ، سواء قلنا بالاستحباب أو بالإيجاب .
المسألة الثانية : يجري التغليظ في دعوى الدم والنكاح ، والطلاق والرجعة ، والإيلاء واللعان ، والعتق والحد ، والولاء والوكالة ، والوصاية ، وكل ما ليس بمال ، ولا يقصد منه المال حتى يجري في الولادة والرضاع ، وعيوب النساء ، وليس قبول شهادة النساء فيها منفردات لقلة خطرها ، بل لأن الرجال لا يطلعون عليها غالبا ، وتوقف الإمام في الوكالة ، وأما الأموال فيجري التغليظ في كثيرها وهو نصاب الزكاة عشرون دينارا أو مائتا درهم ، وأما قليلها وهو ما دون ذلك فلا تغليظ فيه إلا أن يرى القاضي التغليظ لجرأة الحالف ، فله التغليظ . وعن
nindex.php?page=showalam&ids=12858ابن القطان وجه غريب أن المال الواجب بجناية عمدا وخطأ يغلظ فيه وإن قل .
[ ص: 33 ] الثالثة : ما جرى فيه التغليظ يستوي فيه يمين المدعى عليه ، واليمين المردودة ، واليمين مع الشاهد ، وقد يقتضي الحال تغليظ اليمين من أحد الطرفين دون الآخر مثل إن ادعى عبد على سيده عتقا أو كتابة فأنكر السيد ، فإن بلغت قيمته نصابا ، غلظ عليه ، وإلا فلا ، فإن نكل غلظ على العبد بكل حال ، والوقف من جانب المدعى عليه لا تغليظ فيه إلا إذا بلغ نصابا ، وكذا من جانب المدعي إن أثبتناه بشاهد ويمين ، وإن لم نثبته بهما ، غلظ كالعتق ، وفي وجه ما غلظ من طرف غلظ من الآخر ، والصحيح الأول ، وإذا ادعى الزوج الخلع على مال ، وأنكرته حصلت البينونة بقوله ، وتصدق الزوجة في إنكار المال بيمينها ، وينظر في التغليظ إلى قلة المال وكثرته ، فإن ردت اليمين ، وحلف الزوج ، فكذلك ؛ لأن مقصوده المال ، وإن ادعت هي الخلع ، وأنكر ، غلظ عليه ،
[ لأن مقصوده استدامة النكاح ، وإن نكل ، فحلفت غلظ ] ؛ لأن مقصودها الفراق .
الرابعة :
من به مرض أو زمانة ، لا يغلظ عليه في المكان لعذره ، وكذا الحائض ، إذ لا يمكنها اللبث في المسجد ، والمرأة المخدرة في إحضارها مجلس الحكم خلاف سبق ، فإن أحضرت ، فكالرجل في التغليظ ، وإن قلنا : لا تحضر ، بل يبعث القاضي من يحكم بينها وبين خصمها ، فإن اقتضى الحال تحليفها ، فهل يغلظ عليها بالمكان ، وتكلف حضور الجامع أم لا ؟ وجهان ، أصحهما : نعم ، وبه أجاب الشيخ
أبو حامد ومتابعوه
nindex.php?page=showalam&ids=14847والغزالي .
فرع
من توجهت عليه يمين مغلظة ، وكان حلف بالطلاق أن لا يحلف يمينا مغلظة ، فإن قلنا : التغليظ واجب ، غلظ
[ ويحنث ] ، وإن امتنع جعل ناكلا ، وإن قلنا : مستحب ، لم يغلظ .
[ ص: 34 ] عليه إتلاف ثوب قيمته عشرة ، فإن قال في الجواب : ما أتلفت ، يحلف .
القاعدة الثانية : يشترط كون اليمين مطابقة للإنكار ، فإن ادعى كذلك ، وإن قال : لا يلزمني شيء ، حلف كذلك ، ويشترط وقوعها بعد تحليف القاضي ، فلو حلف قبله ، لم يعتد
[ به ] ، فلو قال الحاكم في تحليفه : قل : بالله ، فقال : بالرحمن ، لم يكن مجيبا ، وكان نكولا . ولو قال : قل : بالله ، فقال : والله ، أو تالله ، فهل هو نكول كالصورة الأولى أم لا ؛ لأنه حلف بالاسم الذي حلفه به ؟ وجهان ، ويجريان فيهما لو غلظ عليه باللفظ ، فامتنع ، واقتصر على قوله : والله ، وفيما لو أراد التغليظ بالزمان والمكان فامتنع ، فقال
القفال في امتناعه من التغليظ اللفظي : الأصح أنه ناكل ؛ لأنه ليس له رد اجتهاد القاضي ، وقطع بعضهم بأنه ناكل في الامتناع من المكاني والزماني دون اللفظي .