الباب السادس في مسائل منثورة تتعلق بأدب القضاء والشهادات والدعاوى ؛ لأنها يتعلق بعضها ببعض .
يوم الجمعة كغيره في إحضار الخصم مجلس الحكم ، لكن لا يحضر إذا صعد الخطيب المنبر حتى يفرغ من الصلاة ، واليهودي يحضر يوم السبت ، ويكسر عليه سبته .
شهد اثنان أنه غصب كذا ، أو سرقه غدوة ، وآخران أنه غصبه ، أو سرقه عشية ، تعارضتا ولا يحكم بواحدة منهما ، بخلاف ما لو شهد واحد هكذا ، وآخر هكذا حيث يحلف مع أحدهما ، ويأخذ الغرم ؛ لأن الواحد ليس بحجة فلا تعارض .
شهد واحد على إتلاف ثوب قيمته ربع دينار ، وآخر على إتلاف [ ص: 90 ] ذلك الثوب بعينه ، وقال قيمته ثمن دينار ، يثبت الأقل وللمدعي أن يحلف مع الآخر . ولو شهد بدل الواحد والواحد اثنان واثنان ثبت الأقل أيضا وتعارضتا في الزيادة . ولو
شهد اثنان أن وزن الذهب الذي أتلفه نصف دينار ، وآخران أن وزنه دينار ، ثبت الدينار ؛ لأن مع شاهديه زيادة علم ، بخلاف الشهادة على القيمة ، فإن مدركها الاجتهاد ، وقد يقف شاهد القليل على عيب . ولو
ادعى عبدا في يد رجل ، وأقام بينة أنه ولد أمته ، لم يقض له بها ، فقد تلد قبل أن تملكها ، فإن شهدت أنه ولد أمته ولدته في ملكه فنص أنه يقضى له بهذه البينة ، وبه قطع الجمهور ، وخرج
ابن سريج قولا ؛ لأنها شهادة بملك سابق ، والمذهب الأول ؛ لأن النماء تابع للأصل . ولو شهدوا أن هذه الشاة نتجت في ملكه ، وهذه الثمرة حصلت في ملكه ، فهو كقولهم : ولدته أمته في ملكه ، ولا يكفي نتاج شاته ، وثمر شجرته . ولو شهدوا أن هذا الغزل من غزله ، أو الفرخ من بيضه ، والدقيق من حنطته ، أو الخبز من دقيقه ، كفى ؛ لأن ذلك عين ماله تغيرت صفته ، بخلاف ولد الجارية والشاة . ولو
أقام بينة على رق شخص ، وأقام المدعى عليه بينة أنه حر الأصل ، فبينة المدعي أولى ؛ لأن معها زيادة علم وهو إثبات الرق . ولو
ادعى دينا ، وشهد به اثنان ، لكن قال أحدهما متصلا بشهادته : إنه قضاه ، أو أبرئ منه ، فشهادته باطلة للقضاء ، وإن ذكره مفصولا عن الشهادة ، فإن كان بعد الحكم لم يؤثر . وللمدعى عليه أن يحلف معه على القضاء والإبراء وإن كان قبل الحكم ، سئل : متى قضاه ؟ فإن قال : قبل أن شهدت ،
[ ص: 91 ] فكذلك الجواب عند
nindex.php?page=showalam&ids=12847ابن القاص . وذكر فيما إذا
شهد على إقراره بالدين شاهدان ، ثم عاد أحدهما ، وقال : قضاه أو أبرأه بعد أن شهدت أن شهادته لا تبطل ، بل يحكم بالدين ويؤخذ ، إلا أن يحلف المدعى عليه مع شاهد القضاء والإبراء . والفرق أن هناك شهد على نفس الحق ، والقضاء والإبراء ينافيانه ، فبطلت الشهادة ، وهنا شهد على الإقرار ، والقضاء والإبراء لا ينافيانه ، فلا تبطل الشهادة . وحكي وجه أن شهادته على نفس الحق لا تبطل أيضا ، والصحيح الأول ، ويقرب من هذا الخلاف ، الخلاف فيما لو
ادعى ألفا ، وشهد له شاهدان بألف مؤجل ، لكن قال أحدهما : قضى منه خمسمائة ، ففي وجه : لا تصح شهادتهما إلا في خمسمائة ، لكن للمدعي أن يحلف لباقي الألف مع الشاهد الآخر . وفي وجه : تصح شهادتهما على الألف ، وللمدعى عليه أن يحلف مع شاهد القضاء . وفي وجه ثالث : لا يثبت بشهادتهما شيء ؛ لأنهما لم يتفقا على ما ادعاه ، ويقرب منه قولان عن
ابن سريج فيما لو
شهد اثنان أن فلانا وكل فلانا ، ثم قال أحدهما : عزله بعد أن شهدت ، ففي قول : تبطل شهادته . وفي قول : تثبت شهادة الوكالة ، فيعمل بها ، والعزل لا يثبت بواحد .
ادعى شريكان فأكثر حقا على رجل فأنكر ، يحلف لكل واحد يمينا ، فإن رضي بيمين واحدة ، ففي جوازه وجهان .
قلت : الأصح : المنع . والله أعلم .
ولو
شهد اثنان أنه أوصى بعتق غانم ، وهو ثلث ماله ، فحكم الحاكم بعتقه ، ثم رجعا عن الشهادة ، وشهد آخران أنه أوصى بعتق سالم ، وهو ثلث ماله ، ولم يجز الورثة إلا الثلث ، قال
البغوي : يقرع بينهما ، فإن خرجت القرعة للأول رق الثاني ، ويغرم الراجعان قيمة
[ ص: 92 ] الأول للورثة . وإن خرجت للثاني عتق ورق الأول ، ولا غرم على الراجعين ؛ لأنهما لم يتلقياه . قال : وعندي يعتق الثاني بلا قرعة ، وعلى الراجعين قيمة الأول للورثة . ولو
شهد رجل أنه وكله بكذا ، وآخر أنه فوضه إليه ، أو سلطه عليه ، ثبتت الوكالة . ولو
شهد أحدهما أنه قال : وكلتك بكذا ، والآخر أنه أقر بوكالته ، لم يثبت شيء ، ولو
شهد أحدهما أنه وكله بالبيع ، والآخر أنه وكله بالبيع وقبض الثمن ثبت البيع . ولو ادعى رجل على رجل أنه اشترى منه هذا العبد ، ونقده الثمن وأعتقه ، وأقام به بينة ، وادعى آخر أنه اشتراه ونقد الثمن ، وأقام به بينة ، تعارضتا ، وذكر العتق لا يقتضي ترجيحا على الصحيح . وقيل : يرجح ؛ لأن العتق كالقبض ، نص في " الأم " أنه لو
ادعى دابة في يد غيره ، وأقام بينة أنها له منذ عشر سنين ، ونظر الحاكم في سنها ، فإذا لها ثلاث سنين فقط ، لم يقبل الشهادة ؛ لأنها كذب ، وأن المسناة الحائلة بين نهر شخص وأرض آخر ، يجعل بينهما كالجدار الحائل . ولو
ادعى مائة درهم على إنسان ، فقال : قبضت خمسين ، لم يكن مقرا بالمائة ، وكذا لو قال : قضيت منها خمسين . ولو اختلف الزوجان في متاع البيت ، فإن كان لأحدهما بينة قضي بها ، وإن لم يكن بينة ، فما اختص أحدهما باليد عليه حسا أو حكما ، بأن كان في ملكه ، فالقول قوله فيه بيمينه ، وما كان في يدهما حسا ، أو في البيت الذي يسكنانه ، فلكل واحد تحليف الآخر ، فإن حلفا جعل بينهما ، وإن حلف أحدهما دون الآخر قضي للحالف ، وسواء اختلفا في دوام النكاح ، أم بعد الفراق ، وسواء اختلفا هما أو ورثتهما ، أو أحدهما وورثة الآخر ، وسواء ما يصلح للزوج كالسيف والمنطقة ، أو للزوجة
[ ص: 93 ] كالحلي والغزل ، أولهما . ولو
اختلف مالك الدار وساكنها بالإجارة في متاع الدار ، فالقول قول الساكن ، فإن تنازعا في رف فيها ، نظر ، إن كان مسمرا أو مثبتا ، فالقول قول المالك ، وإلا فهو بينهما ، نص عليه . ولو
تنازعا أرضا ولأحدهما فيها زرع أو بناء أو غراس ، فهي في يده ، أو دابة أو جارية حاملا ، والحمل لأحدهما بالاتفاق ، فهي في يده ، أو دار لأحدهما فيها متاع ، فهي في يده . فإن لم يكن المتاع إلا في بيت لم يجعل في يده إلا ذلك البيت ، هكذا ذكروه . ولو
تنازعا عبدا ، ولأحدهما عليه ثياب ، لم يجعل صاحب يد في العبد ؛ لأن منفعة الثوب الملبوس تعود إلى العبد ، لا إلى المدعي . ولو
قال رجل : استأجرت هذه الدار من زيد سنة في أول رمضان ، وقال آخر : استأجرتها منه سنة من أول شوال ، وأقام كل واحد بينة ، فقولان حكاهما
الفوراني ، المشهور وبه قطع
البغوي وغيره : تقدم بينة رمضان لسبق تاريخها . والثاني : بينة شوال ؛ لأنها ناسخة ، ويحتمل أنهما تقايلا ، واستأجر الثاني في شوال ، ويجيء هذا في بينتي البيع على ضعفه .
قامت بينة أن هذا ابنه لا يعرف له وارثا سواه ، وبينة أن هذا الآخر ابنه لا يعرف له وارثا سواه ، ثبت نسبهما ، فلعل كل بينة اطلعت على ما لم تطلع عليه الأخرى .