فصل
في
الاشتراك والازدحام على الصيد
وله أربعة أحوال .
الأول : أن يتعاقب جرحان من اثنين . فالأول منهما إن لم يكن مذففا ولا مزمنا ، بل بقي على امتناعه ، وكان الثاني مذففا أو مزمنا ، فالصيد للثاني ، ولا شيء على الأول بجراحته . وإن كان جرح الأول مذففا ، فالصيد للأول ، وعلى الثاني أرش ما نقص من لحمه وجلده . وإن كان جرح الأول مزمنا ، فله الصيد به ، وينظر في الثاني ، فإن ذفف بقطع الحلقوم والمريء ، فهو حلال للأول ، وعلى الثاني ما بين قيمته مذبوحا ومزمنا . قال الإمام : وإنما يظهر التفاوت إذا كان فيه حياة مستقرة ، فإن كان متألما ، بحيث لو لم يذبح لهلك ، فما عندي أنه ينقص منه بالذبح شيء . وإن ذفف الثاني لا بقطع الحلقوم والمريء ، أو لم يذفف ومات بالجرحين ،
[ ص: 262 ] فهو ميتة . وكذا الحكم لو
رمى إلى صيد فأزمنه ، ثم رمى إليه ثانيا وذفف لا بقطع المذبح ، ويجب على الثاني كمال قيمة الصيد مجروحا إن ذفف . فإن جرح بلا تذفيف ، ومات بالجرحين ، ففيما يجب عليه كلام له مقدمة نذكرها أولا ، وهي : إذا جنى رجل على عبد أو بهيمة ، أو صيد مملوك قيمته عشرة دنانير ، جراحة أرشها دينار ، ثم جرحه آخر جراحة أرشها دينار أيضا ، فمات بالجرحين ، ففيما يلزم الجارحين ، أوجه : أحدها : يجب على الأول خمسة دنانير ، وعلى الثاني أربعة ونصف ؛ لأن الجرحين سريا وصارا قتلا ، فلزم كل واحد نصف قيمته يوم جنايته ، قاله
ابن سريج ، وضعفه الأئمة ؛ لأن فيه ضياع نصف دينار على المالك . والثاني ، قاله
المزني ،
وأبو إسحاق ،
والقفال : يلزم كل واحد خمسة .
وعلى هذا لو نقصت جناية الأول دينارا ، والثاني دينارين ، لزم الأول أربعة ونصف ، والثاني خمسة ونصف ، ولو نقصت جناية الأول دينارين ، والثاني دينارا ، انعكس ، فيلزم الأول خمسة ونصف ، والثاني أربعة ونصف . وضعفوا هذا الوجه ؛ لأنه سوى بينهما مع اختلاف قيمته حال جنايتهما . والوجه الثالث ، حكاه الإمام عن
القفال أيضا : يلزم الأول خمسة ونصف ، والثاني خمسة ؛ لأن جناية كل واحد نقصت دينارا ، ثم سرتا ، والأرش يسقط إذا صارت الجناية نفسا ، فيسقط عن كل واحد نصف الأرش ؛ لأن الموجود منه نصف القتل . واعترض عليه ، بأن فيه زيادة الواجب على المتلف . وأجاب
القفال ، بأن الجناية قد تنجر إلى إيجاب زيادة ، كمن قطع يدي عبد فقتله آخر ، وأجيب عنه ، بأن قاطع اليدين لا شركة له في القتل ، والقتل يقطع أثر القتل ، ويقع موقع الاندمال ، وهنا بخلافه .
والوجه الرابع ، قال
أبو الطيب بن سلمة : يلزم كل واحد نصف قيمته يوم جنايته ، ونصف الأرش ، لكن لا يزيد الواجب على القيمة ، فيجمع ما لزمهما تقديرا ، وهو عشرة ونصف ، ويقسم القيمة وهي عشرة على العشرة والنصف ، ليراعي التفاوت بينهما ، فتبسط أنصافا ، فتكون أحدا وعشرين ، فيلزم الأول
[ ص: 263 ] أحد عشر جزءا من أحد وعشرين جزءا من عشرة ، ويلزم الثاني عشرة من أحد وعشرين من عشرة ، وفيه ضعف ، لإفراد أرش الجناية عن بدل النفس . والوجه الخامس ، عن صاحب " التقريب " وغيره ، واختاره الإمام ،
nindex.php?page=showalam&ids=14847والغزالي : يلزم الأول خمسة ونصف ، والثاني أربعة ونصف ؛ لأن الأول لو انفرد بالجرح والسراية ، لزمه العشرة ، فلا يسقط عنه إلا ما يلزم الثاني ، والثاني إنما جنى على نصف ما يساوي تسعة ، وفيه ضعف أيضا . والوجه السادس ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=13131ابن خيران ، واختاره صاحب " الإفصاح " ، وأطبق العراقيون على ترجيحه : أنه يجمع بين القيمتين ، فيكون تسعة عشر ، فيقسم عليه ما فوتا وهو عشرة ، فيكون على الأول عشرة أجزاء من تسعة عشر جزءا من عشرة ، وعلى الثاني تسعة أجزاء من تسعة عشر جزءا من عشرة .
أما إذا كان الجناة ثلاثة ، وأرش كل جناية دينار والقيمة عشرة ، فعلى طريقة
المزني : يلزم كل واحد منهم ثلاثة وثلث . وعلى الوجه الثالث : يلزم الأول أربعة ، منها ثلاثة وثلث هي ثلث القيمة ، وثلثان وهما ثلثا الأرش . ويلزم الثاني ثلاثة وثلثان ، ثلاثة منها ثلث القيمة يوم جنايته ، وثلثان هما ثلث الأرش ، ويلزم الثالث ثلاثة ، منها ديناران وثلث هي ثلث القيمة يوم جنايته ، وثلثان هما ثلثا الأرش ، فالجملة عشرة وثلثان . وعلى الوجه الرابع : توزع العشرة على عشرة وثلثين . وعلى الخامس : يلزم الأول أربعة وثلث ، والثاني ثلاثة ، والثالث ديناران وثلثان . وعلى السادس : تجمع القيم ، فتكون سبعة وعشرين ، فتقسم العشرة عليها .
أما إذا
جرح مالك العبد أو الصيد جراحة ، وأجنبي أخرى ، فينظر في جناية المالك ، أهي الأولى أم الثانية ؟ وتخرج على الأوجه ، فتسقط حصته وتجب حصة الأجنبي . وعن القاضي
أبي حامد : أن المذكور في الجنايتين على العبد ، هو فيما إذا لم يكن للجناية أرش مقدر ، فإن كان ، فليس العبد فيها كالبهيمة والصيد المملوك ، حتى لو جنى على عبد غيره جناية ليس لها أرش مقدر ، وقيمته مائة ، فنقصته الجناية عشرة ، ثم جنى آخر جناية لا أرش لها ، فنقصت عشرة أيضا ، ومات العبد
[ ص: 264 ] منهما ، فعلى الأول خمسة وخمسون ، وعلى الثاني خمسون يدفع منها خمسة إلى الأول . قال : فلو قطع رجل يد عبد قيمته مائة ، ثم قطع آخر يده الأخرى ، لزم الأول نصف أرش اليد وهو خمسة وعشرون ، ونصف قيمته يوم جنايته وهو خمسون ، ولزم الثاني نصف أرش اليد ، وهو خمسة وعشرون ، ونصف القيمة يوم جنايته وهو أربعون ، فالجملة مائة وأربعون جميعها للسيد ؛ لأن الجناية التي لها أرش مقدر ، يجوز أن يزيد واجبها على قيمة العبد ، كما لو قطع يديه فقتله آخر .
هذا بيان المقدمة . ونعود إلى مسألة الصيد فنقول : إذا جرح الثاني جراحة غير مذففة ، ومات الصيد بالجرحين ، نظر ، إن مات قبل أن يتمكن الأول من ذبحه ، لزم الثاني تمام قيمته مزمنا ؛ لأنه صار ميتة بفعله ، بخلاف ما لو جرح شاة نفسه ، وجرحها آخر وماتت ، فإنه لا يجب على الثاني إلا نصف القيمة ؛ لأن كل واحد من الجرحين هناك حرام ، والهلاك حصل بهما ، وهنا فعل الأول اكتساب وذكاة . ثم مقتضى كلامهم أن يقال : إذا كان الصيد يساوي عشرة غير مزمن ، وتسعة مزمنا ، لزم الثاني تسعة . واستدرك صاحب " التقريب " فقال : فعل الأول وإن لم يكن إفسادا ، فيؤثر في الذبح وحصول الزهوق قطعا ، فينبغي أن يعتبر فيقال : إذا كان غير مزمن يساوي عشرة ، ومزمنا تسعة ، ومذبوحا ثمانية ، لزمه ثمانية ونصف ، فإن الدرهم أثر في فواته الفعلان ، فيوزع عليهما . قال الإمام : وللنظر في هذا مجال ، ويجوز أن يقال : المفسد يقطع أثر فعلي الأول من كل وجه . والأصح : ما ذكره صاحب " التقريب " . وإن تمكن من ذبحه فذبحه ، لزم الثاني أرش جراحته إن نقص بها ، وإن لم يذبحه وتركه حتى مات ، فوجهان : أحدهما : لا شيء على الثاني سوى أرش النقص ؛ لأن الأول مقصر بترك الذبح . وأصحهما : يضمن زيادة على الأرش ، ولا يكون تركه الذبح مسقطا للضمان ، كما لو جرح رجل شاته فلم يذبحها مع التمكن ، لا يسقط الضمان . فعلى هذا فيما يضمن وجهان ، قال
الاصطخري : كمال قيمته مزمنا ، كما لو ذفف ، بخلاف ما إذا جرح
[ ص: 265 ] عبده أو شاته وجرحه غيره أيضا ؛ لأن كل واحد من الفعل هناك إفساد ، والتحريم حصل بهما ، وهنا الأول إصلاح . والأصح وقول جمهور الأصحاب : لا يضمن جميع القيمة ، بل هو كمن جرح عبده وجرحه غيره ؛ لأن الموت حصل بهما ، وكلاهما إفساد . أما الثاني فظاهر . وأما الأول ، فلأن ترك الذبح مع التمكن ، يجعل الجرح وسرايته إفسادا . ولهذا لو لم يوجد الجرح الثاني فترك الذبح ، كان الصيد ميتة . فعلى هذا تجيء الأوجه في كيفية التوزيع على الجرحين ، فحصة الأول تسقط ، وحصة الثاني تجب .
الحال الثاني : إذا
وقع الجرحان معا ، نظر إن تساويا في سبب الملك ، فالصيد بينهما ، وذلك بأن يكون كل واحد مذففا ، أو مزمنا لو انفرد ، أو أحدهما مزمنا ، والآخر مذففا ، وسواء تفاوت الجرحان صغيرا وكبيرا ، أو تساويا ، أو كانا في المذبح ، أو غيره ، أو أحدهما فيه والآخر في غيره . وإن كان أحدهما مذففا ، أو مزمنا لو انفرد والآخر غير مؤثر ، فالصيد لمن ذفف أو أزمن ، ولا ضمان على الثاني ؛ لأنه لم يجرح ملك الغير . ولو احتمل أن يكون الإزمان بهما أو بأحدهما ، فالصيد بينهما في ظاهر الحكم ، ويستحب أن يستحل كل واحد الآخر تورعا . ولو علمنا أن أحدهما مذفف ، وشككنا هل للآخر أثر في الإزمان والتذفيف أم لا ؟ قال
القفال : هو بينهما . فقيل له : لو جرح رجلا جراحة مذففة ، وجرحه آخر جراحة لا ندري أهي مذففة أم لا ؟ فمات ، فقال : يجب القصاص عليهما . قال الإمام : هذا بعيد ، والوجه تخصيص القصاص بصاحب المذففة . وفي الصيد ، يسلم نصفه لمن جرحه مذففا ، ويوقف نصفه بينهما إلى التصالح أو تبين الحال . فإن لم يتوقع بيان ، جعل النصف الآخر بينهما نصفين .
الحال الثالث : إذا
ترتب الجرحان ، وأحدهما مزمن لو انفرد ، والآخر مذفف وارد على المذبح ، ولم يعرف السابق ، فالصيد حلال . فإن اختلفا وادعى كل واحد أنه جرحه أولا وأزمنه ، وأنه له ، فلكل واحد تحليف الآخر . فإن حلفا ،
[ ص: 266 ] فالصيد بينهما ، ولا شيء لأحدهما على الآخر . فإن حلف أحدهما فقط ، فالصيد له ، وله على الناكل أرش ما نقص بالذبح . ولو ترتبا ، وأحدهما مزمن ، والآخر مذفف في غير المذبح ، ولم يعرف السابق ، فالمذهب : أن الصيد حرام ، لاحتمال تقدم الإزمان ، فلا يحل بعده إلا بقطع الحلقوم والمريء . وقيل : فيه قولان ، كمسألة الإنماء السابقة . ووجه الشبه : اجتماع المبيح والمحرم . والفرق على المذهب : أنه يقدم هناك جرح يحال عليه . فإن
ادعى كل واحد أنه أزمنه أولا ، وأن الآخر أفسده ، فلكل واحد تحليف الآخر . فإن حلفا فذاك ، وإن حلف أحدهما ، لزم الناكل قيمته مزمنا . ولو قال الجارح أولا : أزمنته أنا ، ثم أفسدته بقتلك ، فعليك القيمة . وقال الثاني : لم تزمنه ، بل كان على امتناعه إلى أن رميته فأزمنته أو ذففته . فإن اتفقا على عين جراحة الأول ، وعلمنا أنه لا يبقى امتناع معها ، ككسر جناحه ، وكسر رجل الممتنع بعدوه ، فالقول قول الأول بلا يمين ، وإلا ، فقول الثاني ؛ لأن الأصل بقاء الامتناع . فإن حلف ، فالصيد له ، ولا شيء عليه للأول ، وإن نكل ، حلف الأول ، واستحق قيمته مجروحا بالجراحة الأولى ، ولا يحل الصيد ؛ لأنه ميتة بزعمه . وهل للثاني أكله ؟ وجهان : قال القاضي
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري : لا ؛ لأن إلزامه القيمة حكم بأنه ميتة . وقيل : نعم ؛ لأن النكول في خصومة الآدمي لا تغير الحكم فيما بينه وبين الله تعالى .
ولو
علمنا أن الجراحة المذففة سابقة على التي لو انفردت لكانت مزمنة ، فالصيد حلال . فإن قال كل واحد : أنا ذففته ، فلكل تحليف الآخر . فإن حلفا ، كان بينهما . وإن حلف أحدهما ، فالصيد له ، وعلى الآخر ضمان ما نقص .
فرع
قال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي رضي الله عنه في " المختصر " : لو
رماه الأول والثاني ، ولم [ ص: 267 ] يدر أجعله الأول ممتنعا أم لا ، جعلناه بينهما نصفين . واعترض عليه فقيل : ينبغي أن يحرم هذا الصيد ؛ لاجتماع ما يقتضي الإباحة والتحريم . وبتقدير الحل ، ينبغي أن لا يكون بينهما ، بل لمن أثبته . واختلف في الجواب ، فقيل : النص محمول على ما إذا أصاب المذبح ، فيحل ، سواء أصابه الأول أو الثاني ، أو على ما إذا
رمياه ولم يمت ، ثم أدركه أحدهما ، فذكاه ، ثم اختلفا فيه . وإنما كان بينهما ؛ لأنه في أيديهما . وقد يجعل الشيء لاثنين ، وإن كنا نعلمه في الباطن لأحدهما ، كمن مات عن ابنين ، مسلم ونصراني ، وادعى كل واحد أنه مات على دينه . وحمل أبو إسحاق النص على ظاهره فقال : إذا
رمياه مات ، ولم يدر أثبته الأول ، أم الثاني ، كان الأصل بقاءه على امتناعه إلى أن عقره الثاني ، فيكون عقره ذكاة ، ويكون بينهما لاحتمال الإثبات من كليهما ولا مزية . وقيل : في حله قولان كمسألة الإنماء .
الحال الرابع : إذا
ترتب الجرحان وحصل الإزمان بمجموعهما ، وكل واحد لو انفرد لم يزمن ، فالأصح عند الجمهور : أن الصيد للثاني . وقيل : بينهما ، ورجحه الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=14847والغزالي ، فإن قلنا : إنه للثاني ، أو كان الجرح الثاني مزمنا لو انفرد ، فلا شيء على الأول بسبب جرحه . فلو عاد بعد إزمان الثاني ، وجرحه جراحة أخرى ، نظر ، إن أصاب المذبح ، فهو حلال ، وعليه للثاني ما نقص من قيمته بالذبح ، وإلا حرم ، وعليه إن ذفف ، قيمته مجروحا بجراحته الأولى ، وجراحة الثاني ، وكذا إن لم يذفف ولم يتمكن الثاني من ذبحه ، فإن تمكن وترك الذبح ، عاد الخلاف السابق ، فعلى أحد الوجهين ليس على الأول إلا أرش الجراحة الثانية ، لتقصير المالك ، وعلى أصحهما : لا يقصر الضمان عليه . وعلى هذا ، ففي وجه : عليه نصف القيمة . وخرجه جماعة على الخلاف فيمن جرح عبدا مرتدا فأسلم فجرحه سيده ، ثم عاد الأول وجرحه ثانية ومات منهما وفيما يلزمه وجهان . أحدهما : ثلث القيمة . والثاني : ربعها ، قاله
القفال . فعلى هذا ، يجب هنا ربع القيمة . وعن
[ ص: 268 ] صاحب " التقريب " : أنه تعود في التوزيع الأوجه السابقة . واختار
nindex.php?page=showalam&ids=14847الغزالي وجوب تمام القيمة . والمذهب : التوزيع ، كما سبق .
فرع
الاعتبار في الترتيب والمعية بالإصابة ، لا بابتداء الرمي .