النوع الثاني من الملتزمات : الحج ، والعمرة .
الحج والعمرة ، يلزمان بالنذر ، فإذا
نذرهما ماشيا ، فهل يلزمه المشي ، أم له الركوب ؟ فيه قولان .
أظهرهما : الأول ، وهما مبنيان على أن الحج ماشيا أفضل ، أم راكبا ؟ فيه ثلاثة أقوال .
أظهرها : المشي أفضل . والثاني : الركوب أفضل . والثالث : هما سواء . وقال
ابن سريج : هما سواء ما لم يحرم . فإذا أحرم ، فالمشي أفضل . قال
nindex.php?page=showalam&ids=14847الغزالي في الإحياء : من سهل عليه المشي ، فهو أفضل في حقه ، ومن ضعف وساء خلقه لو مشى ، فالركوب أفضل .
قلت : الصواب : أن الركوب أفضل وإن كان الأظهر لزوم المشي بالنذر ؛ لأنه مقصود . والله أعلم .
فإن قلنا المشي أفضل لزمه النذر وإن قلنا الركوب ، أو سوينا ، لم يلزمه المشي بالنذر .
[ ص: 320 ] ويتفرع على لزوم المشي مسائل :
إحداها : لو صرح بابتداء المشي من دويرة أهله إلى الفراغ ، هل يلزمه المشي قبل الإحرام ؟ وجهان . أصحهما : نعم ، فلو أطلق الحج ماشيا ، فإن قلنا : لا يلزمه المشي من دويرة أهله مع التصريح به ، فهنا أولى ، وإلا ، فوجهان . أصحهما : يلزمه من وقت الإحرام ، سواء أحرم من الميقات أو قبله ، وبهذا قطع جماعة . وبنى صاحب التتمة الوجهين على أنه من أين يلزمه الإحرام ؟ فعن
أبي إسحاق : من دويرة أهله . وعن غيره : من الميقات . فعلى الأول : يمشي من دويرة أهله . وعلى الثاني : من الميقات . ولو قال : أمشي حاجا ، فالصحيح أنه كقوله : أحج ماشيا . ومقتضى كل واحد منهما ، اقتران الحج والمشي . وفيه وجه : أن قوله : أمشي حاجا ، يقتضي أن يمشي من مخرجه إلى الحج .
الثانية : في نهاية المشي طريقان . المذهب : أنه يلزمه المشي حتى يتحلل التحللين ، وبهذا قطع الجمهور ، وهو المنصوص ، وله الركوب بعد التحللين وإن بقي عليه الرمي أيام
منى . والطريق الثاني : فيه وجهان حكاهما الإمام .
أحدهما : هذا . والثاني : له الركوب بعد التحلل الأول . وأما العمرة ، فليس لها إلا تحلل واحد ، فيمشي حتى يفرغ منها . والقياس : أنه إذا كان يتردد في خلال أعمال النسك لغرض تجارة وغيرها ، فله أن يركب ، ولم يذكروه .
الثالثة : لو فاته الحج ، لزمه القضاء ماشيا . وإذا تحلل في سنة الفوات بأعمال عمرة ، هل يلزمه المشي في تلك الأعمال ؟ قولان : أظهرهما عند الأكثرين : لا يلزمه ؛ لأنه خرج بالفوات عن أن يجزئه عن نذره . ولو فسد الحج بعد الشروع فيه ، فهل يجب المشي في المضي في فاسده ؟ فيه القولان .
الرابعة : لو ترك المشي بعذر ، بأن عجز ، فحج راكبا ، وقع حجه عن النذر . وهل عليه جبر المشي الفائت بإراقة الدم ؟ قولان .
أحدهما : لا ،
[ ص: 321 ] كما لو نذر الصلاة قائما ، فعجز ، صلى قاعدا ولا شيء عليه . وأظهرهما : نعم . فعلى هذا ، يلزمه شاة على المشهور . وفي قول : بدنة ، وإن ترك المشي مع القدرة ، فحج راكبا ، فقد أساء . وفيه قولان . القديم : لا تبرأ ذمته من حجه ، بل عليه القضاء ؛ لأنه لم يأت به على صفته الملتزمة .
والأظهر : أنه تبرأ ذمته . فعلى هذا ، هل يلزمه الدم ؟ قولان ، أو وجهان . أظهرهما : نعم . وهل هو شاة ، أم بدنة ؟ فيه الخلاف السابق .
فرع :
من نذر حجا ، استحب أن يبادر إليه في أول سني الإمكان . فإن مات قبل الإمكان ، فلا شيء عليه كحجة الإسلام . وإن مات بعده ، أحج عنه من ماله ؟ وإن عين في نذره سنة ، تعينت على الصحيح كالصوم ، فلو حج قبلها ، لم يجزئه . ولو قال : أحج في عامي هذا ، وهو على مسافة يمكن الحج منها في ذلك العام ، لزمه الوفاء تفريعا على الصحيح . فإن لم يفعل مع الإمكان ، صار دينا في ذمته يقضيه بنفسه . فإن مات ولم يقض ، أحج عنه من ماله . وإن لم يمكنه ، قال في " التتمة " : إن كان مريضا وقت خروج الناس ، ولم يتمكن من الخروج معهم ، أو لم يجد رفقة ، وكان الطريق مخوفا لا يتأتى للآحاد سلوكه ، فلا قضاء عليه ؛ لأن المنذور حج في تلك السنة ، ولم يقدر عليه ، وكما لا تستقر حجة الإسلام والحالة هذه . ولو صده عدو أو سلطان بعد ما أحرم حتى مضى العام ، قال الإمام : إذا امتنع عليه الإحرام للعدو ، فالمنصوص : أنه لا قضاء . وخرج
ابن سريج قولا : أنه يجب ، وبه قال
المزني . كما لو قال : أصوم غدا ، فأغمي عليه حتى مضى الغد ، يجب القضاء . والمذهب : الأول . ولو منعه عدو أو سلطان وحده ، أو منعه رب الدين وهو لا يقدر على وفائه ، لم يلزمه القضاء
[ ص: 322 ] على الأظهر . ولو منعه المرض بعد الإحرام ، فالمذهب وجوب القضاء ، وبه قطع الجمهور ، ولا ينزل منزلة الصد ؛ لأنه يتحلل بالصد ولا يتحلل بالمرض . وحكى الإمام عن الأصحاب ، تخريجه على الخلاف في الصد ، وكذلك حكى الخلاف فيما إذا امتنع الحج في ذلك العام بعد الاستطاعة . وإذا رأيت كتب الأصحاب ، وجدتها متفقة على أن الحجة المنذورة في ذلك ، كحجة الإسلام ، إن اجتمعت في العام الذي عينه شرائط فرض الحج ، وجب الوفاء واستقر في الذمة ، وإلا ، فلا . والنسيان وخطأ الطريق والضلال فيه ، كالمرض . ولو كان الناذر معضوبا وقت النذر ، أو طرأ العضب ولم يجد المال حتى مضت السنة المعينة ، فلا قضاء عليه .
ولو
نذر صلاة ، أو صوما أو اعتكافا في وقت معين ، فمنعه عما نذر عدو أو سلطان ، لزمه القضاء ، بخلاف الحج ؛ لأن الواجب بالنذر ، كالواجب بالشرع ، وقد يجب الصوم والصلاة مع العجز ، فلزما بالنذر . والحج لا يجب إلا بالاستطاعة .
فرع :
إذا نذر حجات كثيرة ، انعقد نذره ، ويأتي بهن على توالي السنين بشرط الإمكان . فإن أخر ، استقر في ذمته ما أخره . فإذا
نذر عشر حجات ، ومات بعد خمس سنين أمكنه الحج فيهن ، قضي من ماله خمس حجات . ولو نذرها المعضوب ، ومات بعد سنة وكان يمكنه أن يحج عن نفسه الحجج العشر في تلك السنة ، قضيت من ماله . وإن لم يف ماله إلا بحجتين أو ثلاث ، لم يستقر إلا المقدور عليه .
[ ص: 323 ] فرع :
من نذر الحج ، لزمه أن يحج بنفسه ، إلا أن يكون معضوبا فيحج عن نفسه .
فرع :
لو نذر الحج راكبا ، فإن قلنا : المشي أفضل ، أو سوينا بينهما ، فإن شاء مشى ، وإن شاء ركب . وإن قلنا : الركوب أفضل ، لزمه الوفاء . فإن مشى ، فعليه دم . وقال صاحب " التهذيب " : عندي أنه لا دم ؛ لأنه عدل إلى أشق الأمرين . ولو نذر أن يحج حافيا ، فله لبس النعلين ، ولا شيء عليه .
فرع :
يخرج الناذر عن حج النذر بالإفراد ، وبالتمتع ، وبالقران . وإذا نذر القران ، فقد التزم النسكين . فإن أتى بهما مفردين ، فقد أتى بالأفضل ، وخرج عن نذره . وإن تمتع ، فكذلك وإن نذر الحج والعمرة مفردين ، فقرن ، أو تمتع وقلنا بالمذهب : إن الإفراد أفضل ، فهو كما لو نذر الحج ماشيا وقلنا : المشي أفضل ، فحج راكبا .
[ ص: 324 ] فرع :
من
نذر أن يحج ، وعليه حجة الإسلام ، لزمه للنذر حجة أخرى ، كما لو نذر أن يصلي ، وعليه صلاة الظهر ، يلزمه صلاة أخرى .