فصل
فيما ينقطع به خيار المجلس
وجملته : أن كل عقد ثبت فيه هذا الخيار ، فإنه ينقطع بالتخاير ، وينقطع أيضا بأن يتفرقا بأبدانهما عن مجلس العقد .
أما التخاير ، فهو أن يقولا : تخايرنا ، أو اخترنا إمضاء العقد ، أو أمضيناه ، أو أجزناه ، أو ألزمناه ، وما أشبهها .
فلو قال أحدهما : اخترت إمضاءه ، انقطع خياره ، وبقي خيار الآخر ، كما إذا أسقط أحدهما خيار الشرط . وفي وجه ضعيف : لا يبقى خيار للآخر ; لأن هذا الخيار لا يتبعض ثبوته ، فلا يتبعض سقوطه .
ولو قال أحدهما لصاحبه : اختر ، أو : خيرتك ، فقال الآخر : اخترت ، انقطع خيارهما . وإن سكت لم ينقطع خياره ، وينقطع خيار القائل على الأصح ؛ لأنه دليل الرضا . ولو أجاز واحد ، وفسخ الآخر ، قدم الفسخ .
ولو تقابضا في المجلس ، وتبايعا العوضين بيعا ثانيا ، صح البيع الثاني أيضا على المذهب ، وبه قطع الجمهور ؛ لأنه رضي بلزوم الأول .
وقيل : إنه يبنى على أن
الخيار ، هل يمنع انتقال الملك ؟ إن قلنا : يمنع لم يصح .
ولو تقابضا في الصرف ثم أجازا في المجلس ، لزم العقد . فإن أجازاه قبل التقابض فوجهان .
أحدهما : تلغى الإجازة ، فيبقى الخيار .
والثاني : يلزم العقد وعليهما التقابض .
فإن تفرقا قبل التقابض ، انفسخ العقد ، ولا يأثمان إن تفرقا عن تراض . وإن انفرد أحدهما بالمفارقة أثم .
وأما التفرق ، فأن يتفرقا بأبدانهما ، فلو أقاما في ذلك المجلس مدة متطاولة ، أو قاما وتماشيا مراحل ،
[ ص: 440 ] فهما على خيارهما .
هذا هو الصحيح ، وبه قطع الجمهور . وحكي وجه : أنه لا يزيد على ثلاثة أيام . ووجه : أنهما لو شرعا في أمر آخر ، وأعرضا عما يتعلق بالعقد ، وطال الفصل ، انقطع الخيار . ثم الرجوع في التفرق إلى العادة .
فما عده الناس تفرقا ، لزم به العقد . فلو كانا في دار صغيرة ، فالتفرق أن يخرج أحدهما منها ، أو يصعد السطح .
وكذا لو كانا في مسجد صغير ، أو سفينة صغيرة . فإن كانت الدار كبيرة ، حصل التفرق بأن يخرج أحدهما من البيت إلى الصحن ، أو من الصحن إلى بيت أو صفة .
وإن كانا في صحراء أو في سوق ، فإذا ولى أحدهما ظهره ومشى قليلا ، حصل التفرق على الصحيح .
وقال
الإصطخري : يشترط أن يبعد عن صاحبه بحيث لو كلمه على العادة من غير رفع الصوت ، لم يسمع كلامه .
ولا يحصل التفرق بأن يرخى ستر بينهما ، أو يشق نهر .
ولا يحصل ببناء جدار بينهما من طين أو جص على الأصح . وصحن الدار والبيت [ الواحد ] إذا تفاحش اتساعهما كالصحراء .
فرع
لو
تناديا متباعدين وتبايعا صح البيع .
قال الإمام : يحتمل أن يقال : لا خيار لهما ; لأن التفرق الطارئ يقطع الخيار ، فالمقارن يمنع ثبوته .
ويحتمل أن يقال : يثبت ما داما في موضعهما ، وبهذا قطع صاحب " التتمة " .
ثم إذا فارق أحدهما موضعه ، بطل خياره .
وهل يبطل خيار الآخر أم يدوم إلى أن يفارق مكانه ؟ فيه احتمالان للإمام .
قلت : الأصح : ثبوت الخيار ، وأنه متى فارق أحدهما موضعه ، بطل خيار الآخر . ولو تبايعا وهما في بيتين من دار أو صحن وصفة ، ينبغي أن يكونا كالمتباعدين فيما ذكرنا ، وأن يثبت الخيار حتى يفارق أحدهما . والله أعلم .
[ ص: 441 ] فرع
لو
مات أحدهما في المجلس ، نص أن الخيار لوارثه ، وقال في المكاتب : إذا باع ومات في المجلس وجب البيع . وللأصحاب ثلاث طرق أصحها في المسألتين قولان ، أظهرهما : يثبت الخيار للوارث والسيد ، كخيار الشرط والعيب . والثاني : يلزم ؛ لأنه أبلغ من المفارقة بالبدن . والطريق الثاني : يثبت لهما قطعا . وقوله في المكاتب : وجب البيع معناه : لا يبطل بخلاف الكتابة . والثالث : تقرير النصين . والفرق بأن الوارث خليفة الميت بخلاف السيد .
وحكي قول مخرج من خيار المجلس في خيار الشرط : أنه لا يورث ، وهو شاذ . ولو باع العبد المأذون أو اشترى ، ومات في المجلس فكالمكاتب . وكذا الوكيل بالشراء إذا مات في المجلس ، هل للموكل الخيار ؟ فيه الخلاف كالمكاتب . هذا إذا فرغنا على الصحيح أن الاعتبار بمجلس التوكيل . وفي وجه : يعتبر مجلس الموكل ، وهو شاذ . ثم إن لم يثبت الخيار للوارث ، فقد انقطع خيار الميت .
وأما الحي ففي " التهذيب " : أن خياره لا ينقطع حتى يفارق ذلك المجلس . وقال الإمام : يلزم العقد من الجانبين ، ويجوز تقدير خلاف فيه ، لما سبق أن هذا الخيار لا يتبعض سقوطه كثبوته .
قلت : قول صاحب " التهذيب " أصح ، وفيه وجه ثالث حكاه القاضي
حسين : يمتد حتى يجتمع هو والوارث . ورابع حكاه
الروياني : أنه ينقطع خياره بموت صاحبه . فإذا بلغ الخبر الوارث ، حدث لهذا الخيار معه . والله أعلم .
وإن قلنا : يثبت الخيار للوارث ، فإن كان حاضرا في المجلس ، امتد الخيار بينه وبين العاقد الآخر حتى يتفرقا أو يتخايرا . وإن كان غائبا ، فله الخيار إذا وصل الخبر إليه .
وهل هو على الفور ، أم يمتد امتداد مجلس بلوغ الخبر
[ ص: 442 ] إليه ؟ وجهان كالوجهين في خيار الشرط إذا ورثه الوارث وبلغه الخبر بعد مضي مدة الخيار ، ففي وجه : يمتد كما كان يمتد للميت لو بقي . ومنهم من بناهما على وجهين في كيفية ثبوته للعاقد الباقي . أحدهما : له الخيار ما دام في مجلس العقد . فعلى هذا يكون خيار الوارث في المجلس الذي يشاهد فيه المبيع . والثاني : يتأخر خياره إلى أن يجتمع هو والوارث في مجلس ، فحينئذ يثبت الخيار للوارث .
قلت : حاصل الخلاف في خيار المجلس للوارث الغائب ، أربعة أوجه . منها ثلاثة جمعها القاضي
حسين . أصحها : يمتد الخيار حتى يفارق مجلس الخبر . والثاني : حتى يجتمعا . والثالث : على الفور . والرابع : يثبت له الخيار إذا أبصر المبيع ، ولا يتأخر . والله أعلم .
فرع
إذا
ورثه اثنان فصاعدا ، وكانوا حضورا في مجلس العقد ، فلهم الخيار إلى أن يفارقوا العاقد الآخر ، ولا ينقطع بمفارقة بعضهم على الأصح . وإن كانوا غائبين عن المجلس ، قال في " التتمة " : إن قلنا في الوارث الواحد : يثبت الخيار في مجلس مشاهدة المبيع ، فلهم الخيار إذا اجتمعوا في مجلس واحد . وإن قلنا : له الخيار إذا اجتمع هو والعاقد ، فكذا لهم الخيار إذا اجتمعوا به . ومتى فسخ بعضهم ، وأجاز بعضهم ففي وجه : لا ينفسخ في شيء . والأصح : أنه ينفسخ في الجميع ، كالمورث إذا فسخ في حياته في البعض وأجاز في البعض .
قلت : وسواء فسخ بعضهم في نصيبه فقط ، أو في الجميع . والله أعلم
[ ص: 443 ] فرع
إذا
حمل أحد المتعاقدين فأخرج من المجلس مكرها ، فإن منع الفسخ بأن سد فمه ، لم ينقطع خياره على المذهب . وقيل : وجهان كالقولين في الموت ، وهنا أولى ببقائه ; لأن إبطال حقه قهرا بعيد . وإن لم يمنع الفسخ ، فطريقان .
أحدهما : ينقطع . وأصحهما : على وجهين . أصحهما : لا ينقطع . فإن قلنا : ينقطع خياره ، انقطع أيضا خيار الماكث ، وإلا فله التصرف بالفسخ والإجارة إذا تمكن . وهل هو على الفور ؟ فيه الخلاف السابق . فإن قلنا : لا يتقيد بالفور ، وكان مستقرا حين زايله الإكراه في المجلس ، امتد الخيار امتداد ذلك المجلس . وإن كان مارا ، فإذا فارق في مروره مكان التمكن انقطع خياره ، وليس عليه الانقلاب إلى مجلس العقد ليجتمع بالعاقد الآخر إن طال الزمان . وإن قصر ففيه احتمال للإمام . وإذا لم يبطل خيار المخرج لم يبطل خيار الماكث أيضا إن منع الخروج معه ، وإلا بطل على الأصح . ولو ضربا حتى تفرقا بأنفسهما ، ففي انقطاع الخيار قولان كحنث المكره . ولو هرب أحدهما ولم يتبعه الآخر مع التمكن ، بطل خيارهما ، وإن لم يتمكن بطل خيار الهارب وحده ، قاله في " التهذيب " .
قلت : أطلق
الفوراني والمتولي وصاحبا " العدة " و " البيان " وغيرهم : أنه يبطل خيارهما بلا تفصيل ، وهو الأصح ؛ لأنه تمكن من الفسخ بالقول ، ولأن الهارب فارق مختارا ، بخلاف المكره ، فإنه لا فعل له . والله أعلم .
فرع
[ ص: 444 ] لو
جن أحدهما ، أو أغمي عليه ، لم ينقطع الخيار ، بل يقوم وليه أو الحاكم مقامه ، فيفعل ما فيه الحظ من الفسخ والإجازة . وفي وجه مخرج من الموت : أنه ينقطع . ولو خرس أحدهما في المجلس ، فإن كانت له إشارة مفهومة أو كتابة ، فهو على خياره ، وإلا نصب الحاكم نائبا عنه .
فرع
لو
جاء المتعاقدان معا ، فقال أحدهما : تفرقنا بعد البيع ، فلزم ، وأنكر الثاني التفرق ، وأراد الفسخ ، فالقول قول الثاني مع يمينه ، للأصل . ولو اتفقا على التفرق ، وقال أحدهما : فسخت قبله ، وأنكر الآخر ، فالقول قول المنكر مع يمينه على الصحيح ، وعلى الثاني : قول مدعي الفسخ ؛ لأنه أعلم بتصرفه . ولو اتفقا على عدم التفرق ، وادعى أحدهما الفسخ ، وأنكر الآخر ، فدعواه الفسخ فسخ . السبب الثاني للخيار : الشرط . يصح
خيار الشرط بالإجماع ، ولا يجوز أكثر من ثلاثة أيام ، فإن زاد بطل البيع ، ويجوز دون الثلاثة . فلو كان المبيع مما يتسارع إليه الفساد ، فهل يبطل البيع أو يصح ويباع عند الإشراف على الفساد ، ويقام ثمنه مقامه ؟ وجهان حكاهما صاحب " البيان " .
قلت : أصحهما : الأول . والله أعلم
ويشترط أن تكون المدة متصلة بالعقد . فلو شرطا خيار ثلاثة فما دونها من آخر الشهر ، أو متى شاءا ، أو شرطا خيار الغد دون اليوم ، بطل البيع .
[ ص: 445 ] ولا يجوز
شرط الخيار مطلقا ، ولا تقديره بمدة مجهولة . فإن فعل بطل العقد ، ولو شرطا الخيار إلى وقت طلوع الشمس من الغد جاز . ولو قالا : إلى طلوعها ، قال
الزبيري : لا يجوز ; لأن السماء قد تغيم فلا تطلع ، وهذا بعيد ، فإن التغيم إنما يمنع من الإشراق واتصال الشعاع ، لا من الطلوع . واتفقوا على أنه يجوز أن يقول : إلى الغروب ، وإلى وقت الغروب .
قلت : الأصح : خلاف قول
الزبيري . والله أعلم .
ولو تبايعا نهارا بشرط الخيار إلى الليل ، أو عكسه ، لم يدخل فيه الليل والنهار ، كما لو باع بألف إلى رمضان ، لا يدخل رمضان في الأجل .
فرع
لو
باع عبدين بشرط الخيار في أحدهما لا بعينه بطل البيع ، كما لو باع أحدهما لا بعينه . ولو شرط الخيار في أحدهما بعينه ، ففيه قولا الجمع بين مختلفي الحكم ، وكذا لو شرط في أحدهما خيار يوم وفي الآخر يومين . فإن صححنا البيع ثبت الخيار فيما شرط كما شرط . ولو شرط الخيار فيهما ، ثم أراد الفسخ في أحدهما ، فعلى قولي تفريق الصفقة في الرد بالعيب . ولو اشترى اثنان شيئا من واحد صفقة واحدة بشرط الخيار ، فلأحدهما الفسخ في نصيبه ، كما في الرد بالعيب . ولو شرط لأحدهما الخيار دون الآخر ، صح البيع على الأظهر .
فرع
لو اشترى بشرط أنه [ إن ] لم ينقده الثمن في ثلاثة أيام ، فلا بيع بينهما ،
[ ص: 446 ] أو باع بشرط أنه إن رد الثمن في ثلاثة أيام ، فلا بيع بينهما ، بطل البيع ، كما لو تبايعا بشرط أنه إن قدم زيد اليوم ، فلا بيع بينهما ، هذا هو الصحيح . وعن
أبي إسحاق : أنه يصح العقد ، والمذكور في الصورة الأولى : شرط الخيار للمشتري . وفي الثانية : شرط للبائع .
فرع
قد اشتهر في الشرع أن
قوله : لا خلابة ، عبارة عن اشتراط الخيار ثلاثة أيام . فإذا أطلقاها عالمين بمعناها ، كان كالتصريح بالاشتراط . وإن كانا جاهلين لم يثبت الخيار . فإن علم البائع دون المشتري ، فوجهان .
قلت : الصحيح : أنه لا يثبت . والله أعلم .
فرع
إذا
شرطا الخيار ثلاثة أيام ، ثم أسقطا اليوم الأول ، سقط الكل .
فرع
إذا
تبايعا بشرط الخيار ثلاثة فما دونها ، فابتداء المدة من وقت العقد أم من وقت التفرق ، أو التخاير ؟ فيه وجهان . أصحهما الأول . وأما ابتداء مدة الأجل ، فإن جعلنا الخيار من العقد ، فالأجل أولى ، وإلا فوجهان . فإذا قلنا : ابتداء الخيار من العقد ، فانقضت المدة وهما مصطحبان بعد ، انقطع خيار الشرط وبقي خيار المجلس . وإن تفرقا والمدة باقية ، فالحكم بالعكس . ولو أسقطا
[ ص: 447 ] أحد الخيارين ، لم يسقط الآخر . ولو قالا : ألزمنا العقد ، أو أسقطنا الخيار مطلقا ، سقطا . ولو شرطا الابتداء من وقت التفرق ، بطل العقد على الصحيح . وفي وجه يصح البيع والشرط .
وأما إذا قلنا : ابتداء الخيار من التفرق ، فإذا تفرقا انقطع خيار المجلس واستؤنف خيار الشرط . ولو أسقطا الخيار قبل التفرق ، بطل خيار المجلس ، ويبطل الآخر على الأصح ؛ لأنه غير ثابت . ولو شرطا ابتداءه من حين العقد ، فوجهان ، أصحهما : يصح العقد والشرط . ولو شرطا الخيار بعد العقد وقبل التفرق ، وقلنا بثبوته ، فالحكم على الوجه الثاني لا يختلف ، وعلى الأول : يحسب من وقت الشرط ، لا من وقت العقد ، ولا من التفرق .
فرع
من له خيار الشرط له فسخ العقد حضر صاحبه أو غاب ، ولا يفتقر نفوذ هذا الفسخ إلى الحاكم .