الطرف الثاني : في المضمون ، قال الأصحاب رحمهم الله : المضمون هو المعصوم ، وهو قسمان :
أحدهما :
ما ليس بمال ، وهو الأحرار ، فيضمنون بالجناية على النفس والطرف ، بالمباشرة تارة ، وبالتسبب أخرى ، وتفصيله في كتاب الديات .
الثاني :
ما هو مال ، وهو نوعان : أعيان ، ومنافع . والأعيان ضربان : حيوان وغيره . والحيوان صنفان : آدمي وغيره .
أما الآدمي : فيضمن النفس والطرف من الرقيق بالجناية كما يضمن الحر ، ويضمن أيضا باليد العادية . وبدل نفسه : قيمته بالغة ما بلغت ، سواء قتل أو تلف تحت اليد العادية . وأما الأطراف والجراحات ، فما كان منها لا يتقدر واجبه في الحر فواجبه في الرقيق ما نقص من قيمته ، سواء حصل بالجناية أو فات تحت اليد العادية ، وما كان مقدرا في الحر ، ينظر ، إن حصل بجناية ، فقولان : الجديد الأظهر : أنه يتقدر من الرقيق أيضا ، والقيمة في حقه كالدية في حق الحر ، فيجب في يد العبد نصف قيمته ، كما يجب في يد الحر نصف ديته ، وعلى هذا القياس . والقديم : الواجب ما نقص من قيمته كسائر الأموال . وأما ما يتلف تحت اليد العادية ، كمن غصب عبدا فسقطت يده بآفة سماوية ، فالواجب فيه ما ينقص على الصحيح . وفي وجه : إن كان النقص أقل من المقدر وجب ما يجب على الجاني ، فعلى
[ ص: 13 ] الجديد : لو
قطع الغاصب المغصوب ، لزمه أكثر الأمرين من نصف القيمة والأرش . ولو قطع يديه ، فعليه كمال القيمة . وكذا لو قطع أنثييه فزادت قيمته . ولو كان الناقص بقطع الغاصب ثلثي قيمته وجب ثلثا قيمته على القولين .
أما على القديم فلأنه قدر النقص . وأما على الجديد ، فالنصف بالجناية ، والسدس باليد العادية . ولو كان النقص بسقوط اليد بآفة ثلث القيمة فهو الواجب على القديم ، وكذا على الجديد تفريعا على الصحيح ، وعلى الوجه الآخر : الواجب نصف قيمته . والمكاتب ، والمستولدة ، والمدبر ، حكمهم في الضمان حكم القن .
الصنف الثاني : غير الآدمي من الحيوان ، فيجب فيه باليد والجناية قيمته ، وفي ما تلف من أجزائه ما نقص من قيمته ، ويستوي فيه الخيل ، والإبل ، والحمير ، وغيرها .
الضرب الثاني : غير الحيوان ، وهو منقسم إلى مثلي ومتقوم ، وسيأتي ضبطهما وحكمهما في الطرف الثالث إن شاء الله تعالى .
النوع الثاني : المنافع ، وهي أصناف .
منها :
منافع الأموال من العبيد والثياب والأرض وغيرها ، وهي مضمونة بالتفويت . والفوات تحت اليد العادية ، فكل عين لها منفعة تستأجر لها ، يضمن منفعتها إذا بقيت في يده مدة لها أجرة حتى لو غصب كتابا وأمسكه مدة وطالعه ، أو مسكا فشمه ، أو لم يشمه لزمه أجرته . ولو كان العبد المغصوب يعرف صنائع ، لزمه أجرة أعلاها أجرة ، ولا يلزمه أجر الجميع . ولو استأجر عينا لمنفعة ، فاستعملها في غيرها ، ضمنها .
قلت : ذكر
nindex.php?page=showalam&ids=11872القاضي أبو الطيب في تعليقه ، أنه لو
غصب أرضا ولم يزرعها ، وهي مما تنقص بترك الزرع كأرض
البصرة وشبهها فإنها إذا لم تزرع نبت فيها
[ ص: 14 ] الدغل والحشيش ، كان عليه رد الحشيش وأجرة الأرض ، ولم يذكر القاضي أرش النقص . والظاهر : أنه يجب . والله أعلم .
ومنها :
منفعة البضع ، فلا تضمن بالفوات تحت اليد ، لأن اليد لا تثبت عليها ، ولهذا يزوج السيد المغصوبة ، ولا يؤجرها ، كما لا يبيعها ، وكذا لو تداعى رجلان نكاح امرأة ، ادعيا عليها ، ولا يدعي كل واحد منهما على الآخر وإن كانت عنده . وإذا أقرت لأحدهما حكم بأنها زوجه ، وذلك يدل على أن اليد لها ، ولأن منفعة البضع تستحق استحقاق ارتفاق للحاجة وسائر المنافع تستحق استحقاق ملك تام . ولهذا من ملك منفعة بالاستئجار ، ملك نقلها إلى غيره بعوض أو بغيره ، والزوج لا يملك نقل منفعة البضع . فأما إذا فوت منفعة البضع بالوطء فيضمن مهر المثل ، وسيأتي تفريعه في الفصل الثالث من الباب الثاني إن شاء الله تعالى .
ومنها : منفعة بدن الحر ، وهي مضمونة بالتفويت . فإذا
قهر حرا وسخره في عمل ، ضمن أجرته . وإن حبسه وعطل منافعه ، لم يضمنها على الأصح ، لأن الحر لا يدخل تحت اليد ، فمنافعه تفوت تحت يده ، بخلاف المال ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12535ابن أبي هريرة : يضمنها ، ويقرب من الوجهين الخلاف في صورتين . إحداهما : لو
استأجر حرا وأراد أن يؤجره ، هل له ذلك ؟ والثانية : إذا أسلم
الحر المستأجر نفسه ، ولم يستعمله المستأجر إلى انقضاء المدة التي استأجره فيها ، هل تتقرر أجرته ؟ قال الأكثرون : له أن يؤجره ، وتتقرر أجرته . وقال
القفال : لا يؤجره ولا تتقرر أجرته ، لأن الحر لا يدخل تحت اليد ، ولا تحصل منافعه في يد المستأجر ، ويدخل في ضمانه إلا عند وجودها ، هكذا ذكر الأصحاب
[ توجيه ] الخلاف في المسائل الثلاث ، ولم يجعلوا دخول الحر تحت اليد مختلفا فيه ، بل اتفقوا على عدمه ، ولكن من جوز إجارة
[ ص: 15 ] المستأجر ، وقرر الأجرة ، بنى الأمر على الحاجة والمصلحة ، وجعل
nindex.php?page=showalam&ids=14847الغزالي الخلاف في المسائل مبنيا على التردد في دخوله تحت اليد ولم نر ذلك لغيره .
فرع
في دخول ثياب الحر في ضمان من استولى عليه ، تفصيل مذكور في كتاب السرقة .
فرع
قال
المتولي : لو
نقل حرا صغيرا أو كبيرا بالقهر إلى موضع ، فإن لم يكن له غرض في الرجوع إلى الموضع الأول ، فلا شيء عليه . وإن كان واحتاج إلى مؤنة ، فهي على الناقل ، لتعديه .
ومنها : منفعة الكلب ، فمن
غصب كلب صيد أو حراسة ، لزمه رده مع مؤنة الرد إن كان له مؤنة ، وهل تلزمه أجرة منفعته ؟ وجهان ، بناء على جواز إجارته . وفيما اصطاده الغاصب بالكلب المغصوب ، وجهان . أحدهما : للمالك ، كصيد العبد وكسبه . وأصحهما : للغاصب ، كما لو غصب شبكة أو قوسا واصطاد بهما ، فإنه للغاصب . ويجري الوجهان ، فيما لو اصطاد بالبازي والفهد المغصوبين ، وحيث كان الصيد للغاصب ، لزمه أجرة مثل المغصوب ، وحيث كان للمالك كصيد العبد ، ففي وجوب الأجرة لزمن الاصطياد وجهان . أصحهما : الوجوب ، لأنه ربما كان يستعمله في شغل آخر .
قلت : والوجهان فيما إذا لم تنقص قيمة الصيد عن الأجرة ، فإن نقصت وجب الناقص قطعا . والله أعلم .
[ ص: 16 ] فرع
المغصوب ، إذا دخله نقص ، هل يجب أرشه مع الأجرة ؟ نظر ، إن
كان النقص بسبب غير الاستعمال ، بأن غصب ثوبا أو عبدا ، فنقصت قيمته بآفة سماوية كسقوط عضو العبد بمرض ، وجب الأرش مع الأجرة ، ثم الأجرة الواجبة لما قبل حدوث النقص أجرة مثله سليما ، ولما بعده أجرة مثله معيبا . وإن
كان النقص بسبب الاستعمال ، بأن لبس الثوب فأبلاه ، فوجهان . أصحهما : يجبان ، والثاني : لا يجب إلا أكثر الأمرين من أجرة المثل وأرش النقص .
فرع
سيأتي إن شاء الله تعالى ، أن
العبد المغصوب إذا تعذر رده بآفة ، غرم الغاصب قيمته للحيلولة ، وتلزمه مع ذلك أجرة المثل للمدة الماضية قبل بذل القيمة ، وفيما بعدها ، وجهان . أصحهما : الوجوب ، لبقاء حكم الغصب . ويجري الوجهان في أن الزوائد الحاصلة بعد دفع القيمة ، هل تكون مضمونة على الغاصب ؟ وفي أنه هل يلزمه مؤنة ردها ؟ وفي أن جناية الآبق في إباقه ، هل يتعلق ضمانها بالغاصب ؟ ولو
غيب الغاصب المغصوب إلى مكان بعيد ، وعسر رده ، وغرم القيمة ، قال الإمام : وطرد شيخي في هذه الصورة الخلاف في الأحكام المذكورة ، ومنهم من قطع بوجوب الأجرة وثبوت سائر الأحكام . والفرق أنه إذا غيبه باختياره ، فهو باق في يده وتصرفه ، فلا ينقطع عنه الضمان .
[ ص: 17 ]
فرع
الخمر والخنزير ، لا يضمنان
[ لا ] لمسلم ولا لذمي ، سواء أراق حيث تجوز الإراقة أم حيث لا تجوز ، ثم خمور أهل الذمة لا تراق إلا إذا تظاهروا بشربها أو بيعها ، ولو غصب منهم والعين باقية وجب ردها ، وإن غصبت من مسلم وجب ردها إن كانت محترمة ، وإن لم تكن محترمة لم يجب ، بل تراق .
فرع
آلات الملاهي كالبربط والطنبور وغيرهما ، وكذا
الصنم والصليب ، لا يجب في إبطالها شيء ، لأنها محرمة الاستعمال ، ولا حرمة لتلك الصنعة . وفي الحد المشروع في إبطالها وجهان . أحدهما : تكسر وترضض حتى تنتهي إلى حد لا يمكن اتخاذ آلة محرمة منها لا الأولى ولا غيرها . وأصحهما : لا تكسر الكسر الفاحش لكن تفصل . وفي حد التفصيل وجهان . أحدهما : قدر لا يصلح معه للاستعمال المحرم ، حتى إذا رفع وجه البربط وبقي على صورة قصعة كفى ، والثاني : أن يفصل إلى حد
[ حتى ] لو
فرض اتخاذ آلة محرمة من مفصلها لنال الصانع التعب الذي يناله في ابتداء الاتخاذ ، وهذا بأن يبطل تأليف الأجزاء كلها حتى تعود كما كانت قبل التأليف ، وهذا أقرب إلى كلام
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي رضي الله عنه وجماهير الأصحاب . ثم ما ذكرناه من الاقتصار على تفصيل الأجزاء ، هو فيما إذا تمكن المحتسب منه ، أما
[ ص: 18 ] إذا منعه من في يده ودافعه عن المنكر فله إبطاله بالكسر قطعا . وحكى الإمام اتفاق الأصحاب على أن قطع الأوتار لا يكفي لأنها مجاورة لها منفصلة . ومن اقتصر في إبطالها على الحد المشروع ، فلا شيء عليه . ومن جاوزه ، فعليه التفاوت بين قيمتها مكسورة بالحد المشروع وبين قيمتها منتهية إلى الحد الذي أتى به . وإن أحرقها فعليه قيمتها مكسورة الحد المشروع .
قلت : قال
nindex.php?page=showalam&ids=14847الغزالي في " البسيط " : أجمعوا على أنه لا يجوز إحراقها ، لأن رضاضها متمول . ومما يتعلق بهذا الفصل ، أن الرجل والمرأة والعبد والفاسق والصبي المميز يشتركون في جواز الإقدام على إزالة هذا المنكر وسائر المنكرات ، ويثاب الصبي عليها كما يثاب البالغ ، ولكن إنما تجب إزالته على المكلف القادر . قال
nindex.php?page=showalam&ids=14847الغزالي في " الإحياء " : وليس لأحد منع الصبي من كسر الملاهي وإراقة الخمور وغيرهما من المنكرات ، كما ليس له منع البالغ ، فإن الصبي وإن لم يكن مكلفا ، فهو من أهل القرب ، وليس هذا من الولايات ، ولهذا يجوز للعبد والمرأة وآحاد الرعية ، وسيأتي ذلك مبسوطا مع ما يتعلق به في كتاب " السير " إن شاء الله تعالى . والله أعلم .