الطرف الثالث : فيما يترتب على
تصرفات الغاصب . وفيه مسائل .
إحداها : إذا
اتجر الغاصب في المال المغصوب ، فقولان . الجديد : أنه إن باعه أو اشترى بعينه ، فالتصرف باطل . وإن
باع سلما أو اشترى في الذمة وسلم المغصوب فيه ، فالعقد صحيح ، والتسليم فاسد ، فلا تبرأ ذمته مما التزم ، ويملك الغاصب ما أخذ ، وأرباحه له . والقديم : أن بيعه والشراء بعينه ينعقد موقوفا على إجازة المالك . فإن أجاز ، فالربح له . وكذا إذا التزم في الذمة وسلم المغصوب ، تكون الأرباح للمالك ، وهذه المسألة سبق ذكرها في البيع ، ويتم شرحها في القراض إن شاء الله تعالى . والغرض هنا ، أن ما ذكرناه بعدها مفرع على الجديد ، وهو الأظهر .
الثانية :
وطئ الغاصب المغصوبة ، فإن كانا جاهلين بتحريم الوطء ، فلا حد عليهما ، وعليه المهر للسيد ، وكذا أرش البكارة إن كانت بكرا . ثم هل يفرد الأرش فنقول : عليه مهر ثيب والأرش ؟ أم لا يفرد ، فنقول : مهر بكر ؟ وجهان . أصحهما : الأول . والوجه أن يقال : إن اختلف المقدار بالاعتبارين وجب الزائد ، وقد أشار الإمام إليه ، وإلا ففيه الوجهان . وإن كانا عالمين بالتحريم ،
[ ص: 60 ] نظر ، إن كانت الجارية مكرهة ، فعلى الغاصب الحد والمهر ، ويجب أرش البكارة إن كانت بكرا . وإن كانت طائعة ، فعليهما الحد ، ولا يجب المهر على الصحيح المنصوص . وقيل : على المشهور . ويجب أرش البكارة إن كانت بكرا إذا قلنا : يفرد عن المهر ، وإلا ففي وجوب الزائد على مهر مثلها وهي ثيب ، وجهان .
أحدهما : لا يجب كما لو زنت الحرة وهي طائعة وهي بكر . والثاني : يجب ، كما لو أذنت في قطع طرف منها . وإن كان الغاصب عالما دونها ، فعليه الحد وأرش البكارة إن كانت بكرا والمهر . وإن كانت عالمة دونه ، فعليها الحد دونه إن طاوعته ، ويجب المهر إن كانت مكرهة ، وإلا فعلى الخلاف . ثم الجهل بتحريم الوطء ، قد يكون للجهل بتحريم الزنا مطلقا ، وقد يكون لتوهم حلها خاصة لدخولها بالغصب في ضمانه ، ولا تقبل دعواهما إلا من قريب العهد بالإسلام ، أو ممن نشأ في موضع بعيد عن المسلمين ، وقد يكون لاشتباههما عليه وظنه أنها جاريته فلا يشترط لقبول دعواه ما ذكرناه .
الثالثة : إذا
وطئ المشتري من الغاصب ، فالقول في وطئه في حالتي العلم والجهل ما ذكرنا في الغاصب ، إلا أن جهل المشتري قد ينشأ من الجهل بكونها مغصوبة أيضا ، فلا يشترط في دعواه الشرط السابق ، وإذا غرم المشتري المهر ، فسيأتي القول في رجوعه [ به ] على الغاصب .
وهل للمالك مطالبة الغاصب به ابتداء ؟ وجهان . أصحهما : نعم ، وهو مقتضى كلام الجمهور . وأشار الإمام إلى جريان الوجهين سواء قلنا : يرجع المشتري بالمهر على الغاصب أم لا . وقال : إذا قلنا : لا رجوع ، فظاهر القياس : أنه لا يطالب . وإذا قلنا بالرجوع ، فالظاهر المطالبة ، لاستقرار الضمان عليه ، وطرد الخلاف في مطالبة الغاصب بالمهر إذا وطئت بالشبهة .
[ ص: 61 ] فرع
إذا
تكرر وطء الغاصب أو المشتري منه ، فإن كان في حال الجهل ، لم يجب إلا مهر ، لأن الجهل شبهة واحدة مطردة ، فأشبه الوطء في نكاح فاسد مرارا . وإن كان عالما وجب المهر ، لكونها مكرهة . أو قلنا بالوجوب مع طاعتها ، فوجهان ، أحدهما : الاكتفاء بمهر . وأصحهما : يجب لكل مرة مهر . وإن وطئها مرة عالما ، ومرة جاهلا وجب مهران .
فرع
هذا الذي ذكرنا ، فيما إذا لم يكن الوطء محبلا .
[ أما ] إذا
أحبل الغاصب أو المشتري منه ، نظر ، إن كان عالما بالتحريم ، فالولد رقيق للمالك غير نسيب ، لكونه زانيا . فإن انفصل حيا ، فهو مضمون على الغاصب ، أو ميتا بجناية ، فبدله لسيده ، أو بلا جناية ففي وجوب ضمانه على الغاصب وجهان . أحدهما وهو ظاهر النص : الوجوب ، لثبوت اليد عليه تبعا للأم ، وبه قال
الأنماطي وابن سلمة واختاره
القفال . وبالمنع قال
أبو إسحاق ، واختاره
أبو محمد والإمام ،
والبغوي ، لأن جنايته غير متيقنة ، وسبب الضمان هلاك رقيق تحت يده . ويجري الوجهان في
حمل البهيمة المغصوبة إذا انفصل ميتا ، فإن أوجبنا الضمان ، فهو قيمته يوم الانفصال لو كان حيا في ولد الجارية والبهيمة جميعا ، وخرج الإمام وجها في ولد الجارية أنه يضمن بعشر قيمة الأم ، تنزيلا للغاصب منزلة الجاني . أما إذا كان الواطئ جاهلا بالتحريم ، فالولد نسيب حر للشبهة ، وعليه قيمته لمالك الجارية يوم الانفصال إن انفصل حيا .
[ ص: 62 ] فإن انفصل ميتا بنفسه ، فالصحيح : أنه لا قيمة عليه ، وإن كان بجناية ، فعلى الجاني ضمانه ، وللمالك تضمين الغاصب ، لأن له بدله فقوم عليه ، ثم الواجب على الجاني الغرة ، وللمالك عشر قيمة الأم . فإن استويا ، ضمن الغاصب للمالك عشر قيمة الأم . وإن كانت قيمة الغرة أكثر ، فكذلك ، والزيادة تستقر له بحق الإرث . وإن نقصت الغرة عن العشر ، فوجهان . أصحهما : أنه يضمن للمالك تمام العشر . والثاني : لا يضمن إلا قدر الغرة . ولو انفصل ميتا بجناية الغاصب ، لزمه الضمان . ولو أحبل الغاصب ومات وترك أباه ، ثم انفصل الجنين ميتا بجناية ، فالغرة لجد الطفل .
ثم عن
القاضي حسين : أنه يضمن للمالك ما كان يضمنه الغاصب . وعنه : أنه لو كان مع الغاصب أم أم الجنين ، فورثت سدس الغرة ، قطع النظر عنه ، ونظر إلى عشر قيمة الأم وخمسة أسداس الغرة ، وكأنها كل الغرة ، والجوابان مختلفان ، فرأى الإمام إثبات احتمالين في الصورتين ينظر في أحدهما ، إلى أن من يملك الغرة ، ينبغي أن يضمن للمالك . ويستبعد في الآخر تضمين من لم يغصب . قال
المتولي : الغرة تجب مؤجلة ، وإنما يغرم الغاصب عشر قيمة الأم إذا أخذ الغرة . وتوقف الإمام فيه . هذا هو الصحيح المعروف في الولد المحكوم بحريته .
وفي وجه : لا ينظر إلى عشر قيمة الأم ، بل تعتبر قيمته لو انفصل حيا . وفي وجه : يغرم الغاصب للمالك أكثر الأمرين من قيمة الولد والغرة . ودعوى الجهل في هذا كدعواه إذا لم تحبل على ما سبق . وحكى
المسعودي خلافا في قبولها لحرية الولد ، وإن قبلت لدفع الحد . ويجب في حالتي العلم والجهل أرش نقص الجارية إن نقصت بالولادة ، فإن تلفت عنده وجب أقصى القيم ، ودخل فيه نقص الولادة وأرش البكارة . ولو ردها وهي حبلى ، فماتت في يد المالك بالولادة ، قال
أبو عبد الله القطان في " المطارحات " : لا شيء عليه في صورة العلم ، لأن الولد ليس منه حتى يقال : ماتت بولادة ولده . ونقل في صورة الجهل قولين ، وأطلق
المتولي القولين بوجوب الضمان .
[ ص: 63 ] قلت : الأصح : قول
المتولي : والله أعلم .
فرع لو
وطئ الغاصب بإذن المالك ، فحيث قلنا : لا مهر إذا لم يأذن ، فهنا أولى ، وإلا فقولان محافظة على حرمة البضع . وفي قيمة الولد طريقان . قيل : كالمهر ، وقيل : تجب قطعا ، لأنه لم يصرح بالإذن في الإحبال .