بسم الله الرحمن الرحيم .
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما .
كتاب الإجارات .
والنظر في هذا الكتاب شبيه بالنظر في البيوع ( أعني : أصوله تنحصر بالنظر في أنواعها وفي شروط الصحة فيها ، والفساد ، وفي أحكامها ) ، وذلك في نوع نوع منها ( أعني : فيما يخص نوعا نوعا منها ، وفيما يعم أكثر من واحد ) .
فهذا الكتاب ينقسم أولا إلى قسمين :
القسم الأول : في أنواعها وشروط الصحة ، والفساد .
والثاني : في معرفة أحكام الإجارات .
وهذا كله بعد قيام الدليل على جوازها . فلنذكر أولا ما في ذلك من الخلاف ثم نصير إلى ذكر ما في
[ ص: 575 ] ذينك القسمين من المسائل المشهورة; إذ كان قصدنا إنما هو ذكر المسائل التي تجري من هذه الأشياء مجرى الأمهات ، وهي التي اشتهر فيها الخلاف بين فقهاء الأمصار . فنقول :
إن
الإجارة جائزة عند جميع فقهاء الأمصار ، والصدر الأول . وحكي عن
الأصم ،
nindex.php?page=showalam&ids=13382وابن علية منعها .
ودليل الجمهور قوله تعالى : (
إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين ) الآية ، وقوله : (
فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن ) .
ومن السنة الثابتة : ما خرجه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ، عن
عائشة قالت : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1006647استأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر رجلا من بني الديل هاديا خريتا [ أي دليلا حاذقا عالما بالطرق . الحديث ] وهو على دين كفار قريش ، فدفعا إليه راحلتيهما ، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما " . وحديث
جابر : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1006648أنه باع من النبي صلى الله عليه وسلم بعيرا وشرط ظهره إلى المدينة " . وما جاز استيفاؤه بالشرط جاز استيفاؤه بالأجر .
وشبهة من منع ذلك : أن المعاوضات إنما يستحق فيها تسليم الثمن بتسليم العين كالحال في الأعيان المحسوسة ، والمنافع في الإجارات في وقت العقد معدومة ، فكان ذلك غررا ومن بيع ما لم يخلق . ونحن نقول : إنها وإن كانت معدومة في حال العقد فهي مستوفاة في الغالب ، والشرع إنما لحظ من هذه المنافع ما يستوفى في الغالب ، أو يكون استيفاؤه وعدم استيفائه على السواء .
القسم الأول .
[ في أنواع الإجارات ، وشروط الصحة ، والفساد ] .
وهذا القسم النظر فيه في جنس الثمن ، وجنس المنفعة التي يكون الثمن مقابلا له ، وصفتها .
فأما
الثمن : فينبغي أن يكون مما يجوز بيعه ، وقد تقدم ذلك في باب البيوع .
وأما
المنفعة : فينبغي أن تكون من جنس ما لم ينه الشرع عنه ، وفي كل هذه مسائل اتفقوا عليها واختلفوا فيها :
فمما اجتمعوا على إبطال إجارته : كل منفعة كانت لشيء محرم العين ، كذلك كل منفعة كانت محرمة بالشرع ، مثل أجر النوائح ، وأجر المغنيات ، وكذلك كل منفعة كانت فرض عين على الإنسان بالشرع مثل الصلاة ، وغيرها ، واتفقوا على إجارة الدور ، والدواب ، والناس على الأفعال المباحة ، وكذلك الثياب والبسط .
واختلفوا في إجارة الأرضين ، وفي إجارة المياه ، وفي
إجارة المؤذن ، وفي
الإجارة على تعليم القرآن ، وفي إجارة نزو الفحول .
فأما كراء الأرضين : فاختلفوا فيها اختلافا كثيرا : فقوم لم يجيزوا ذلك بتة ، وهم الأقل ، وبه قال
nindex.php?page=showalam&ids=16248طاوس nindex.php?page=showalam&ids=11947وأبو بكر بن عبد الرحمن . وقال الجمهور بجواز ذلك .
واختلف هؤلاء فيما يجوز به كراؤها :
فقال قوم : لا يجوز كراؤها إلا بالدراهم ، والدنانير فقط ، وهو مذهب
ربيعة ،
nindex.php?page=showalam&ids=15990وسعيد بن المسيب .
وقال قوم : يجوز
كراء الأرض بكل شيء ما عدا الطعام ، وسواء كان ذلك بالطعام الخارج منها أو لم يكن ، وما عدا ما ينبت فيها كان طعاما ، أو غيره ، وإلى هذا ذهب
مالك ، وأكثر أصحابه .
[ ص: 576 ] وقال آخرون : يجوز كراء الأرض بما عدا الطعام فقط .
وقال آخرون : يجوز كراء الأرض بكل العروض والطعام وغير ذلك ، ما لم يكن بجزء مما يخرج منها من الطعام ، وممن قال بهذا القول
nindex.php?page=showalam&ids=15959سالم بن عبد الله ، وغيره من المتقدمين ، وهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، وظاهر قول
مالك في الموطإ .
وقال قوم : يجوز كراؤها بكل شيء وبجزء مما يخرج منها ، وبه قال
أحمد ،
nindex.php?page=showalam&ids=16004والثوري ،
والليث ،
وأبو يوسف ،
ومحمد صاحبا
أبي حنيفة ،
nindex.php?page=showalam&ids=12526وابن أبي ليلى ،
nindex.php?page=showalam&ids=13760والأوزاعي ، وجماعة .
وعمدة من لم يجز كراءها بحال : ما رواه
مالك بسنده عن
nindex.php?page=showalam&ids=46رافع بن خديج : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1006649أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع " ، قالوا : وهذا عام ، وهؤلاء لم يلتفتوا إلى ما روى
مالك من تخصيص الراوي له حين روى عنه ، قال حنظلة : فسألت
nindex.php?page=showalam&ids=46رافع بن خديج ، عن كرائها بالذهب والورق ، فقال : لا بأس به . وروي هذا عن
رافع nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر ، وأخذ بعمومه ، وكان
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر قبل يكري أرضه فترك ذلك ، وهذا بناء على رأي من يرى أنه لا يخصص العموم بقول الراوي .
وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=46رافع ابن خديج ، عن أبيه قال : "
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إجارة الأرضين " .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=13332أبو عمر بن عبد البر : واحتجوا أيضا بحديث
ضمرة ، عن
ابن شوذب ، عن
مطرف ، عن
عطاء ، عن
جابر قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1006651من كانت له أرض فليزرعها ، أو ليزرعها ، ولا يؤاجرها " .
فهذه هي جملة الأحاديث التي تمسك بها من لم يجز كراء الأرض . وقالوا أيضا من جهة المعنى : إنه لم يجز كراؤها لما في ذلك من الغرر; لأنه ممكن أن يصيب الزرع جائحة من نار ، أو قحط ، أو غرق ، فيكون قد لزمه كراؤها من غير أن ينتفع من ذلك بشيء .
قال القاضي : ويشبه أن يقال في هذا إن المعنى في ذلك قصد الرفق بالناس لكثرة وجود الأرض كما نهي عن بيع الماء ، ووجه الشبه بينهما أنهما أصلا الخلقة .
وأما عمدة من لم يجز كراءها إلا بالدراهم ، والدنانير : فحديث
طارق بن عبد الرحمن ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=15990سعيد بن المسيب ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=46رافع بن خديج ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1006652إنما يزرع ثلاثة : رجل له أرض فيزرعها ، ورجل منح أرضا فهو يزرع ما منح ، ورجل اكترى بذهب أو فضة " . قالوا : فلا يجوز أن يتعدى ما في هذا الحديث ، والأحاديث الأخر مطلقة وهذا مقيد ، ومن الواجب حمل المطلق على المقيد .
وعمدة من أجاز
كراءها بكل شيء ما عدا الطعام ، وسواء كان الطعام مدخرا أو لم يكن : حديث
nindex.php?page=showalam&ids=17389يعلى بن حكيم ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16049سليمان بن يسار ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=46رافع بن خديج قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1006653من كانت له أرض فليزرعها ، أو ليزرعها أخاه ، ولا يكرها بثلث ، ولا ربع ، ولا بطعام معين " . قالوا : وهذا هو
معنى المحاقلة التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها ، وذكروا حديث
nindex.php?page=showalam&ids=15990سعيد بن المسيب مرفوعا ، وفيه : والمحاقلة استكراء الأرض بالحنطة . قالوا : وأيضا فإنه من باب بيع الطعام بالطعام نسيئة .
وعمدة من لم يجز كراءها بالطعام ولا بشيء مما يخرج منها : أما بالطعام : فحجته حجة من لم يجز كراءها بالطعام . وأما حجته على منع كرائها مما تنبت : فهو ما ورد من نهيه صلى الله عليه وسلم عن المخابرة . قالوا : وهي كراء الأرض بما يخرج منها وهذا هو قول
مالك وكل أصحابه .
[ ص: 577 ] وعمدة من أجاز
كراءها بجميع العروض والطعام وغير ذلك مما يخرج منها : أنه كراء منفعة معلومة بشيء معلوم ، فجاز قياسا على إجارة سائر المنافع ، وكأن هؤلاء ضعفوا أحاديث
رافع . روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=15959سالم بن عبد الله ، وغيره في حديث
رافع أنهم قالوا : اكترى
رافع . قالوا : وقد جاء في بعض الروايات عنه ما يجب أن يحمل عليها سائرها قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1006654كنا أكثر أهل المدينة حقلا ، قال : وكان أحدنا يكري أرضه ويقول : هذه القطعة لي وهذه لك ، وربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه ، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم " خرجه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري .
وأما من لم يجز كراءها بما يخرج منها : فعمدته النظر والأثر :
أما الأثر : فما ورد من النهي عن المخابرة ، وما ورد من حديث
ابن خديج ، عن
ظهير بن رافع قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1006655نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان رفقا بنا ، فقلت ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حق ، قال : " دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما تصنعون بمحاقلكم ؟ قلنا : نؤاجرها على الربع ، وعلى الأوسق من التمر ، والشعير ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تفعلوا ، ازرعوها ، أو زارعوها ، أو أمسكوها " . وهذا الحديث اتفق على تصحيحه الإمامان
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ومسلم .
وأما من أجاز كراءها بما يخرج منها : فعمدته حديث
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر الثابت : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1006656أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر ، وأرضها على أن يعملوها من أموالهم على نصف ما تخرجه الأرض والثمرة " . قالوا : وهذا الحديث أولى من أحاديث
رافع ; لأنها مضطربة المتون ، وإن صحت أحاديث
رافع حملناها على الكراهية لا على الحظر ، بدليل ما خرجه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ،
ومسلم عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أنه قال : " إن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنها ، ولكن قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1006657إن يمنح أحدكم أخاه يكن خيرا له من أن يأخذ منه شيئا " . قالوا :
وقد قدم nindex.php?page=showalam&ids=32معاذ بن جبل اليمن حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يخابرون فأقرهم .
وأما إجارة المؤذن : فإن قوما لم يروا في ذلك بأسا; وقوما كرهوا ذلك .
والذين كرهوا ذلك وحرموه احتجوا بما روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=61عثمان بن أبي العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1006659اتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا " .
والذين أباحوه قاسوه على الأفعال غير الواجبة ، وهذا هو سبب الاختلاف ( أعني : هل هو واجب أم ليس بواجب ؟ ) .
وأما
الاستئجار على تعليم القرآن : فقد اختلفوا فيه أيضا ، وكرهه قوم ، وأجازه آخرون .
والذين أباحوه قاسوه على سائر الأفعال ، واحتجوا بما روي عن خارجة بن الصامت ، عن عمه قال : " أقبلنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتينا على حي من أحياء العرب ، فقالوا : إنكم جئتم من عند هذا الرجل ، فهل عندكم دواء أو رقية ، فإن عندنا معتوها في القيود ، فقلنا لهم : نعم ، فجاءوا به ، فجعلت أقرأ عليه بفاتحة الكتاب ثلاثة أيام غدوة ، وعشية أجمع بريقي ، ثم أتفل عليه ، فكأنما أنشط من عقال ، فأعطوني جعلا ، فقلت : لا ، حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألته ، فقال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1006660كل فلعمري من أكل برقية باطل ، فلقد أكلت برقية حق " . وبما روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد الخدري : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1006661أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا في غزاة ، فمروا بحي من أحياء العرب ، فقالوا : هل عندكم من راق ، فإن سيد الحي قد لدغ ، أو قد عرض له ، قال : فرقيه رجل بفاتحة الكتاب فبرئ ، فأعطي قطيعا من الغنم ، فأبى أن يقبلها ، فسأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : بم [ ص: 578 ] رقيته ؟ قال : بفاتحة الكتاب ، قال : وما يدريك أنها رقية ؟ قال : ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خذوها واضربوا لي معكم فيها بسهم " .
وأما الذين كرهوا الجعل على تعليم القرآن فقالوا : هو من باب
الجعل على تعليم الصلاة . قالوا : ولم يكن الجعل المذكور في الإجارة على تعليم القرآن ، وإنما كان على الرقي ، وسواء كان الرقي بالقرآن أو غيره الاستئجار عليه عندنا جائز كالعلاجات . قالوا : وليس واجبا على الناس ، وأما تعليم القرآن فهو واجب على الناس .
وأما
إجارة الفحول من الإبل والبقر والدواب : فأجاز
مالك أن يكري الرجل فحله على أن ينزو أكواما معلومة ، ولم يجز ذلك
أبو حنيفة ، ولا
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي .
وحجة من لم يجز ذلك : ما جاء من النهي عن عسيب الفحل; ومن أجازه شبهه بسائر المنافع ، وهذا ضعيف; لأنه تغليب القياس على السماع .
واستئجار الكلب أيضا هو من هذا الباب ، وهو لا يجوز عند
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ولا عند
مالك .
nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي يشترط في جواز
استئجار المنفعة أن تكون متقومة على انفرادها ، فلا يجوز
استئجار تفاحة للشم ، ولا طعام لتزيين الحانوت; إذ هذه المنافع ليس لها قيم على انفرادها ، فهو لا يجوز عند
مالك ، ولا عند
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي .
ومن هذا الباب اختلاف المذهب في إجارة الدراهم والدنانير .
وبالجملة : كل ما لا يعرف بعينه : فقال
ابن القاسم : لا يصح إجارة هذا الجنس وهو قرض ، وكان
nindex.php?page=showalam&ids=13658أبو بكر الأبهري ، وغيره أن ذلك يصح وتلزم الأجرة فيه ، وإنما منع من منع إجارتها; لأنه لم يتصور فيها منفعة إلا بإتلاف عينها; ومن أجاز إجارتها تصور فيها منفعة ، مثل أن يتجمل بها أو يتكثر ، أو غير ذلك مما يمكن أن يتصور في هذا الباب ، فهذه هي مشهورات مسائل الخلاف المتعلقة بجنس المنفعة .
وأما مسائل الخلاف المتعلقة بجنس الثمن فهي مسائل الخلاف المتعلقة بما يجوز أن يكون ثمنا في المبيعات وما لا يجوز .
ومما ورد النهي فيه من هذا الباب ما روي : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1006662أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن عسيب الفحل ، وعن كسب الحجام ، وعن قفيز الطحان " . قال
nindex.php?page=showalam&ids=14695الطحاوي : ومعنى نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قفيز الطحان هو ما كانوا يفعلونه في الجاهلية من دفع القمح إلى الطحان بجزء من الدقيق الذي يطحنه ، قالوا : وهذا لا يجوز عندنا ، وهو استئجار من المستأجر بعين ليس عنده ، ولا هي من الأشياء التي تكون ديونا على الذمم ، ووافقه
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي على هذا . وقال أصحابه : لو
استأجر السلاخ بالجلد والطحان بالنخالة ، أو بصاع من الدقيق فسد لنهيه صلى الله عليه وسلم عن قفيز الطحان ، وهذا على مذهب
مالك جائز; لأنه استأجره على جزء من الطعام معلوم ، وأجرة الطحان ذلك الجزء وهو معلوم أيضا .
وأما
كسب الحجام : فذهب قوم إلى تحريمه ، وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا : كسبه رديء يكره للرجل . وقال آخرون : بل هو مباح .
والسبب في اختلافهم تعارض الآثار في هذا الباب :
[ ص: 579 ] فمن رأى أنه حرام : احتج بما روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "
من السحت كسب الحجام " ، وبما روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=9أنس بن مالك قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1006664حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كسب الحجام " . وروي
nindex.php?page=hadith&LINKID=1006665عن nindex.php?page=showalam&ids=16733عون بن أبي جحيفة قال : اشترى أبي حجاما فكسر محاجمه ، فقلت له : يا أبت لم كسرتها ؟ فقال : " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الدم " .
وأما من رأى إباحة ذلك : فاحتج بما روي
nindex.php?page=hadith&LINKID=1006666عن nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس قال : " احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجره " قالوا : ولو كان حراما لم يعطه ، وحديث
جابر : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1006667أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا أبا طيبة فحجمه ، فسأله : كم ضريبتك ؟ فقال : ثلاثة آصع ، فوضع عنه صاعا " . وعنه أيضا : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1006668أنه أمر للحجام بصاع من طعام ، وأمر مواليه أن يخففوا عنه " .
وأما الذين قالوا بكراهيته : فاحتجوا بما روي أن
رفاعة بن رافع ، أو
رافع بن رفاعة جاء إلى مجلس الأنصار ، فقال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1006669نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كسب الحجام ، وأمرنا أن نطعمه ناضحنا " . وبما روي : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1006670عن رجل من بني حارثة كان له حجام ، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فنهاه ، ثم عاد فنهاه ، ثم عاد فنهاه ، فلم يزل يراجعه حتى قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : اعلف كسبه ناضحك ، وأطعمه رقيقك " . ومن هذا الباب أيضا اختلافهم في
إجارة دار بسكنى دار أخرى : فأجاز ذلك
مالك ، ومنعه
أبو حنيفة ، ولعله رآها من باب الدين بالدين ، وهذا ضعيف ، فهذه مشهورات مسائلهم فيما يتعلق بجنس الثمن وبجنس المنفعة .
وأما ما يتعلق بأوصافها فنذكر أيضا المشهور منها :
فمن ذلك أن جمهور فقهاء الأمصار
مالك ،
وأبو حنيفة ،
nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي اتفقوا بالجملة أن من
شرط الإجارة أن يكون الثمن معلوما والمنفعة معلومة القدر ، وذلك إما بغايتها مثل خياطة الثوب ، وعمل الباب ، وإما بضرب الأجل إذا لم تكن لها غاية مثل خدمة الأجير ، وذلك إما بالزمان إن كان عملا واستيفاء منفعة متصلة الوجود مثل كراء الدور ، والحوانيت ، وإما بالمكان إن كان مشيا مثل كراء الرواحل . وذهب أهل الظاهر ، وطائفة من السلف إلى جواز إجارات المجهولات مثل أن يعطي الرجل حماره لمن يسقي عليه أو يحتطب عليه بنصف ما يعود عليه .
وعمدة الجمهور : أن الإجارة بيع فامتنع فيها من الجهل - لمكان الغبن - ما امتنع في المبيعات .
واحتج الفريق الثاني .
بقياس الإجارة على القراض والمساقاة ، والجمهور على أن القراض ، والمساقاة مستثنيان بالسنة فلا يقاس عليهما لخروجهما عن الأصول .
واتفق مالك ،
nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي على أنهما إذا ضربا للمنفعة التي ليس لها غاية أمدا من الزمان محدودا ، وحددوا أيضا أول ذلك الأمد ، وكان أوله عقب العقد أن ذلك جائز . واختلفوا إذا لم يحددوا أول الزمان أو حددوه ولم يكن عقب العقد ، فقال
مالك : يجوز إذا حدد الزمان ولم يحدد أوله ، مثل أن يقول له :
استأجرت منك هذه الدار سنة بكذا أو شهرا بكذا ، ولا يذكر أول ذلك الشهر ولا أول تلك السنة . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : لا يجوز ، ويكون أول الوقت عند
مالك وقت عقد الإجارة . فمنعه
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ; لأنه غرر ، وأجازه مالك ; لأنه معلوم بالعادة .
[ ص: 580 ] وكذلك لم يجز
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي إذا كان أول العقد متراخيا عن العقد ، وأجازه
مالك . واختلف قول أصحابه في استئجار الأرض غير المأمونة ، والتغيير فيما بعد من الزمان .
وكذلك اختلف
مالك ،
nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي في مقدار الزمان الذي تقدر به هذه المنافع;
فمالك يجيز ذلك السنين الكثيرة ، مثل أن يكري الدار لعشرة أعوام ، أو أكثر ، مما لا تتغير الدار في مثله .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : لا يجوز ذلك لأكثر من عام واحد .
واختلف قول
ابن القاسم ،
nindex.php?page=showalam&ids=12873وابن الماجشون في أرض المطر ، وأرض السقي بالعيون ، وأرض السقي بالآبار ، والأنهار : فأجاز
ابن القاسم فيها الكراء بالسنين الكثيرة . وفصل
nindex.php?page=showalam&ids=12873ابن الماجشون ، فقال : لا يجوز
الكراء في أرض المطر إلا لعام واحد ، وأما أرض السقي بالعيون فلا يجوز كراؤها إلا لثلاثة أعوام ، وأربعة ، وأما أرض الآبار والأنهار فلا يجوز إلا لعشرة أعوام فقط . فالاختلاف هاهنا في ثلاثة مواضع : في تحديد أول المدة ، وفي طولها ، وفي بعدها عن وقت العقد .
وكذلك اختلف
مالك ،
nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي إذا لم يحدد المدة ، وحدد القدر الذي يجب لأقل المدة; مثل أن يقول :
أكتري منك هذه الدار الشهر بكذا ، ولا يضربان لذلك أمدا معلوما ، فقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : لا يجوز . وقال
مالك وأصحابه : يجوز على قياس : أبيعك من هذه الصبرة بحساب القفيز بدرهم ، وهذا لا يجوز غيره .
وسبب الخلاف : اعتبار الجهل الواقع في هذه الأشياء : هل هو من الغرر المعفو عنه أو المنهي عنه ؟
ومن هذا الباب اختلافهم في البيع والإجارة : أجازه
مالك ، ومنعه
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ،
وأبو حنيفة ، ولم يجز
مالك أن يقترن بالبيع إلا الإجارة فقط .
ومن هذا الباب اختلافهم في
إجارة المشاع : فقال
مالك ،
nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي : هي جائزة . وقال
أبو حنيفة : لا تجوز; لأن عنده أن الانتفاع بها مع الإشاعة متعذر; وعند مالك ،
nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي أن الانتفاع بها ممكن مع شريكه كانتفاع المكري بها مع شريكه ( أعنى : رب المال ) .
ومن هذا الباب
استئجار الأجير بطعامه وكسوته ، وكذلك الظئر : فمنع
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ذلك على الإطلاق ، وأجاز ذلك
مالك على الإطلاق : ( أعني : في كل أجير ) ; وأجاز ذلك
أبو حنيفة في الظئر فقط .
وسبب الخلاف : هل هي إجارة مجهولة ، أم ليست مجهولة ؟ فهذه هي شرائط الإجارة الراجعة إلى الثمن والمثمون .
وأما أنواع الإجارة : فإن العلماء على أن الإجارة على ضربين :
إجارة منافع أعيان محسوسة ،
وإجارة منافع في الذمة قياسا على البيع . والذي في الذمة من شرطه الوصف ، والذي في العين من شرطه الرؤية أو الصفة عنده كالحال في المبيعات . ومن شرط الصفة عنده : ذكر الجنس والنوع ، وذلك في الشيء الذي تستوفى منافعه ، وفي الشيء الذي تستوفى به منافعه فلا بد من وصف المركوب مثلا ، والجمل الذي تستوفى به منفعة المركوب .
وعند
مالك أن الراكب لا يحتاج أن يوصف ، وعند
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي يحتاج إلى الوصف ، وعند
ابن القاسم أنه إذا استأجر الراعي على غنم بأعيانها أن من شرط صحة العقد اشتراط الخلف . وعند غيره تلزم الجملة بغير شرط .
[ ص: 581 ] ومن
شرط إجارة الذمة أن يعجل النقد عند
مالك ليخرج من الدين بالدين; كما أن من شرط
إجارة الأرض غير المأمونة السقي عنده أن لا يشترط فيها النقد إلا بعد الري .
واختلفوا في الكراء : هل يدخل في أنواعه الخيار أم لا ؟ فقال
مالك : يجوز الخيار في الصنفين من الكراء المضمون والمعين .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : لا يجوز .
فهذه هي المشهورات من المسائل الواقعة في هذا القسم الأول من هذا الكتاب ، وهو الذي يشتمل على النظر في محال هذا العقد وأوصافه وأنواعه ، وهي الأشياء التي تجري من هذا العقد مجرى الأركان ، وبها يوصف العقد إذا كان على الشروط الشرعية بالصحة ، وبالفساد إذا لم يكن على ذلك ، وبقي النظر في الجزء الثاني ، وهو أحكام هذا العقد .