صفحة جزء
[ ص: 728 ] كتاب الديات في النفوس

والأصل في هذا الباب قوله تعالى : ( ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا ) .

والديات تختلف في الشريعة بحسب اختلاف الدماء ، وبحسب اختلاف الذين تلزمهم الدية ، وأيضا تختلف بحسب العمد إذا رضي بها إما الفريقان ، وإما من له القود على ما تقدم من الاختلاف .

والنظر في الدية هو في موجبها ( أعني : في أي قتل تجب ) ، ثم في نوعها وفي قدرها ، وفي الوقت الذي تجب فيه ، وعلى من تجب .

فأما في أي قتل تجب ، فإنهم اتفقوا على أنها تجب في قتل الخطأ ، وفي العمد الذي يكون من غير مكلف مثل المجنون والصبي ، وفي العمد الذي تكون حرمة المقتول فيه ناقصة عن حرمة القاتل ، مثل الحر والعبد .

ومن قتل الخطأ ما اتفقوا على أنه خطأ ، ومنه ما اختلفوا فيه ، وقد تقدم صدر من ذلك ، وسيأتي بعد ذلك اختلافهم في تضمين الراكب والسائق والقائد .

وأما قدرها ونوعها ، فإنهم اتفقوا على أن دية الحر المسلم على أهل الإبل مائة من الإبل ، وهي في مذهب مالك ثلاث ديات : دية الخطأ ، ودية العمد إذا قبلت ، ودية شبه العمد . وهي عند مالك في الأشهر عنه مثل فعل المدلجي بابنه .

وأما الشافعي فالدية عنده اثنان فقط : مخففة ومغلظة . فالمخففة دية الخطأ ، والمغلظة دية العمد ودية شبه العمد .

وأما أبو حنيفة فالديات عنده اثنان أيضا : دية الخطأ ، ودية شبه العمد ، وليس عنده دية في العمد ، وإنما الواجب عنده في العمد ما اصطلحا عليه وهو حال عليه غير مؤجل ، وهو معنى قول مالك المشهور ; لأنه إذا لم تلزمه الدية عنده إلا باصطلاح فلا معنى لتسميتها دية إلا ما روي عنه أنها تكون مؤجلة كدية الخطأ فهنا يخرج حكمها عن حكم المال المصطلح عليه ، ودية العمد عنده أرباع : خمس وعشرون بنت مخاض ، وخمس وعشرون بنت لبون ، وخمس وعشرون حقة ، وخمس وعشرون جذعة ، وهو قول ابن شهاب وربيعة ، والدية المغلظة عنده أثلاثا : ثلاثون حقة ، وثلاثون جذعة ، وأربعون خلفة ( وهي الحوامل ) ، ولا تكون المغلظة عنده في المشهور إلا في مثل فعل المدلجي بابنه .

وعند الشافعي أنها تكون في شبه العمد أثلاثا أيضا ، وروى ذلك أيضا عن عمر وزيد بن ثابت .

وقال أبو ثور : الدية في العمد إذا عفا ولي الدم أخماسا كدية الخطأ .

واختلفوا في أسنان الإبل في دية الخطأ ، فقال مالك ، والشافعي : هي أخماس : عشرون ابنة مخاض ، وعشرون ابنة لبون ، وعشرون ابن لبون ذكرا ، وعشرون حقة ، وعشرون جذعة ، وهو مروي عن ابن شهاب وربيعة ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ( أعني : التخميس ) ، إلا أنهم جعلوا مكان ابن لبون ذكر ابن مخاض ذكرا ، وروي عن ابن مسعود الوجهان جميعا .

[ ص: 729 ] وروي عن سيدنا علي أنه جعلها أرباعا ، أسقط منها الخمس والعشرين بني لبون ، وإليه ذهب عمر بن عبد العزيز ، ولا حديث في ذلك مسند ، فدل على الإباحة - والله أعلم - كما قال أبو عمر بن عبد البر .

وخرج البخاري ، والترمذي عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " في دية الخطأ عشرون بنت مخاض ، وعشرون ابن مخاض ذكور ، وعشرون بنات لبون وعشرون جذعة ، وعشرون حقة " واعتل لهذا الحديث أبو عمر بأنه روي عن خشف بن مالك ، عن ابن مسعود وهو مجهول قال : وأحب إلي في ذلك الرواية عن علي ; لأنه لم يختلف في ذلك عليه كما اختلف على ابن مسعود .

وخرج أبو داود عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى أن من قتل خطأ فديته مائة من الإبل : ثلاثون بنت مخاض ، وثلاثون بنت لبون ، وثلاثون حقة ، وعشرة بني لبون ذكور " قال أبو سليمان الخطابي هذا الحديث لا أعرف أحدا من الفقهاء المشهورين قال به ، وإنما قال أكثر العلماء إن دية الخطأ أخماس ، وإن كانوا اختلفوا في الأصناف .

وقد روي أن دية الخطأ مربعة عن بعض العلماء ، وهم الشعبي والنخعي ، والحسن البصري ، وهؤلاء جعلوها : خمسا وعشرين جذعة ، وخمسا وعشرين حقة ، وخمسا وعشرين بنات لبون ، وخمسا وعشرين بنات مخاض ، كما روي عن علي وخرجه أبو داود .

وإنما صار الجمهور إلى تخميس دية الخطأ : عشرون حقة ، وعشرون جذعة ، وعشرون بنت مخاض ، وعشرون بنت لبون ، وعشرون بني مخاض ذكر ، وإن كان لم يتفقوا على بني المخاض لأنها لم تذكر في أسنان فيها ، وقياس من أخذ بحديث التخميس في الخطأ وحديث التربيع في شبه العمد إن ثبت هذا النوع الثالث أن يقول في دية العمد بالتثليث ، كما قد روى ذلك الشافعي ، ومن لم يقل بالتثليث شبه العمد بما دونه . فهذا هو مشهور أقاويلهم في الدية التي تكون من الإبل على أهل الإبل .

وأما أهل الذهب والورق فإنهم اختلفوا أيضا فيما يجب من ذلك عليهم ، فقال مالك : على أهل الذهب ألف دينار ، وعلى أهل الورق اثنا عشر ألف درهم ، وقال أهل العراق : على أهل الورق عشرة آلاف درهم ، وقال الشافعي بمصر : لا يؤخذ من أهل الذهب ولا من أهل الورق إلا قيمة الإبل بالغة ما بلغت ، وقوله بالعراق مثل قول مالك .

وعمدة مالك تقويم عمر بن الخطاب المائة من الإبل على أهل الذهب بألف دينار ، وعلى أهل الورق باثني عشر ألف درهم .

وعمدة الحنفية ما رووا أيضا عن عمر أنه قوم الدينار بعشرة دراهم ، وإجماعهم على تقويم المثقال بها في الزكاة .

وأما الشافعي فيقول : إن الأصل في الدية إنما هو مائة بعير ، وعمر إنما جعل فيها ألف دينار على أهل الذهب ، واثني عشر ألف درهم على أهل الورق ; لأن ذلك كان قيمة الإبل من الذهب والورق في زمانه ، والحجة له ما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال : " كانت الديات على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانمائة دينار وثمانية آلاف درهم ، ودية أهل الكتاب على النصف من دية المسلمين . قال : فكان ذلك حتى استخلف عمر ، فقام خطيبا ، فقال : إن الإبل قد غلت ، ففرضها عمر على أهل الورق اثني عشر ألف [ ص: 730 ] درهم ، وعلى أهل الذهب ألف دينار ، وعلى أهل البقر مائتي بقرة ، وعلى أهل الشاة ألفي شاة ، وعلى أهل الحلل مائتي حلة ، وترك دية أهل الذمة لم يرفع فيها شيئا " .

واحتج بعض الناس لمالك لأنه لو كان تقويم عمر بدلا لكان دينا بدين ، لإجماعهم أن الدية في الخطأ مؤجلة لثلاث سنين .

ومالك وأبو حنيفة وجماعة متفقون على أن الدية لا تؤخذ إلا من الإبل أو الذهب أو الورق ، وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن والفقهاء السبعة المدنيون : يوضع على أهل الشاة ألفا شاة ، وعلى أهل البقر مائتا بقرة ، وعلى أهل البرود مائتا حلة ، وعمدتهم حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده المتقدم ، وما أسنده أبو بكر بن أبي شيبة عن عطاء : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضع الدية على الناس في أموالهم ما كانت على أهل الإبل مائة بعير ، وعلى أهل الشاة ألفا شاة ، وعلى أهل البقر مائتا بقرة ، وعلى أهل البرود مائتا حلة " ، وما روي عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى الأجناد أن الدية كانت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة بعير . قال : فإن كان الذي أصابه من الأعراب فديته من الإبل لا يكلف الأعرابي الذهب ولا الورق ، فإن لم يجد الأعرابي مائة من الإبل فعد لها من الشاة ألف شاة . ولأن أهل العراق أيضا رووا عن عمر مثل حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده نصا .

وعمدة الفريق الأول أنه لو جاز أن تقوم بالشاة والبقر لجاز أن تقوم بالطعام على أهل الطعام ، وبالخيل على أهل الخيل ، وهذا لا يقول به أحد .

والنظر في الدية كما قلت هو في نوعها ، وفي مقدارها ، وعلى من تجب ، وفيما تجب ، ومتى تجب ؟ أما نوعها ومقدارها فقد تكلمنا فيه في الذكور الأحرار المسلمين .

وأما على من تجب ؟ فلا خلاف بينهم أن دية الخطأ تجب على العاقلة وأنه حكم مخصوص من عموم قوله تعالى : ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) ومن قوله - عليه الصلاة والسلام - لأبي زمنة لولده : " لا يجني عليك ولا تجني عليه " .

وأما دية العمد فجمهورهم على أنها ليست على العاقلة لما روي عن ابن عباس ولا مخالف له من الصحابة أنه قال : " لا تحمل العاقلة عمدا ولا اعترافا ولا صلحا في عمد " .

وجمهورهم على أنها لا تحمل من أصاب نفسه خطأ ، وشذ الأوزاعي فقال : من ذهب يضرب العدو فقتل نفسه فعلى عاقلته الدية ، وكذلك عندهم في قطع الأعضاء . وروي عن عمر أن رجلا فقأ عين نفسه خطأ ، فقضى له عمر بديتها على عاقلته .

واختلفوا في دية شبه العمد ، وفي الدية المغلظة على قولين .

واختلفوا في دية ما جناه المجنون والصبي على من تجب ؟ فقال مالك ، وأبو حنيفة وجماعة : إنه كله يحمل على العاقلة ، وقال الشافعي : عمد الصبي في ماله .

وسبب اختلافهم تردد فعل الصبي بين العامد والمخطئ ، فمن غلب عليه شبه العمد أوجب الدية في ماله ، ومن غلب عليه شبه الخطأ أوجبها على العاقلة .

وكذلك اختلفوا إذا اشترك في القتل عامد وصبي ، والذين أوجبوا على العامد القصاص وعلى الصبي [ ص: 731 ] الدية اختلفوا على من تكون ؟ فقال الشافعي على أصله في مال الصبي ، وقال مالك : على العاقلة ، وأما أبو حنيفة فيرى أن لا قصاص بينهما .

وأما متى تجب ؟ فإنهم اتفقوا على أن دية الخطأ مؤجلة في ثلاث سنين ، وأما دية العمد فحالة إلا أن يصطلحا على التأجيل .

وأما من هم العاقلة ، فإن جمهور العلماء من أهل الحجاز اتفقوا على أن العاقلة هي القرابة من قبل الأب ، وهم العصبة دون أهل الديوان ، وتحمل الموالي العقل عند جمهورهم إذا عجزت عنه العصبة ، إلا داود فإنه لم ير الموالي عصبة .

وليس فيما يجب على واحد واحد منهم حد عند مالك ، وقال الشافعي : على الغني دينار وعلى الفقير نصف دينار ، وهي عند الشافعي مرتبة على القرابة بحسب قربهم ، فالأقرب من بني أبيه ، ثم من بني جده ، ثم من بني بني أبيه ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : العاقلة هم أهل ديوانه إن كان من أهل ديوان .

وعمدة أهل الحجاز أنه تعاقل الناس في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي زمان أبي بكر ولم يكن هناك ديوان ، وإنما كان الديوان في زمن عمر بن الخطاب .

واعتمد الكوفيون حديث جبير بن مطعم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا حلف في الإسلام ، وأيما حلف كان في الجاهلية فلا يزيده الإسلام إلا قوة " . وبالجملة فتمسكوا في ذلك بنحو تمسكهم في وجوب الولاء للحلفاء . واختلفوا في جناية من لا عصبة له ولا موالي ( وهم السائبة ) إذا جنوا خطأ هل يكون عليه عقل أم لا ؟ ، وإن كان فعلى من يكون ؟ فقال من لم يجعل لهم موالي : ليس على السائبة عقل ، وكذلك من لم يجعل العقل على الموالي ، وهو داود وأصحابه . وقال : من جعل ولاءه لمن أعتقه عليه عقله ، وقال : من جعل ولاءه للمسلمين عقله في بيت المال ، ومن قال : إن للسائبة أن يوالي من شاء جعل عقله لمن ولاه ، وكل هذه الأقاويل قد حكيت عن السلف .

والديات تختلف بحسب اختلاف المودى فيه ، والمؤثر في نقصان الدية هي الأنوثة والكفر والعبودية .

أما دية المرأة فإنهم اتفقوا على أنها على النصف من دية الرجل في النفس فقط . واختلفوا فيما دون النفس من الشجاج والأعضاء على ما سيأتي القول فيه في ديات الجروح والأعضاء .

وأما دية أهل الذمة إذا قتلوا خطأ ، فإن للعلماء في ذلك ثلاثة أقوال :

أحدها : ديتهم على النصف من دية المسلم ذكرانهم على النصف من ذكران المسلمين ، ونساؤهم على النصف من نسائهم ، وبه قال مالك وعمر بن عبد العزيز ، وعلى هذا تكون دية جراحهم على النصف من دية المسلمين .

والقول الثاني : أن ديتهم ثلث دية المسلم ، وبه قال الشافعي ، وهو مروي عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان ، وقال به جماعة من التابعين .

والقول الثالث : أن ديتهم مثل دية المسلمين ، وبه قال أبو حنيفة والثوري وجماعة ، وهو مروي عن ابن مسعود ، وقد روي عن عمر ، وعثمان ، وقال : به جماعة من التابعين .

[ ص: 732 ] فعمدة الفريق الأول ما روي عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " دية الكافر على النصف من دية المسلم "

وعمدة الحنفية عموم قوله تعالى : ( وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة ) . ومن السنة ما رواه معمر عن الزهري قال : دية اليهودي والنصراني وكل ذمي مثل دية المسلم . قال : وكانت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي حتى كان معاوية ، فجعل في بيت المال نصفها ، وأعطى أهل المقتول نصفها ، ثم قضى عمر بن عبد العزيز بنصف الدية ألغى الذي جعله معاوية في بيت المال ، قال الزهري : فلم يقض لي أن أذكر بذلك عمر بن عبد العزيز فأخبره أن الدية كانت تامة لأهل الذمة .

وأما إذا قتل العبد خطأ أو عمدا على من لا يرى القصاص فيه ، فقال قوم : عليه قيمته بالغة ما بلغت ، وإن زادت على دية الحر ، وبه قال مالك ، والشافعي ، وأبو يوسف ، وهو قول سعيد بن المسيب ، وعمر بن عبد العزيز ، وقال أبو حنيفة ، ومحمد : لا يتجاوز بقيمة العبد الدية ، وقالت طائفة من فقهاء الكوفة : فيه الدية ، ولكن لا يبلغ به دية الحر ينقص منها شيئا .

وعمدة الحنفية أن الرق حال نقص ، فوجب أن لا تزيد قيمته على دية الحر .

وعمدة من أوجب فيه الدية ولكن ناقصة عن دية الحر أنه مكلف ناقص ، فوجب أن يكون الحكم ناقصا عن الحر لكن واحدا بالنوع أصله الحد في الزنى والقذف والخمر والطلاق ، ولو قيل فيه إنها تكون على النصف من دية الحر لكان قولا له وجه ( أعني : في دية الخطأ ) ، لكن لم يقل به أحد .

وعمدة مالك أنه مال قد أتلف فوجب فيه القيمة ، أصله سائر الأموال .

واختلف في الواجب في العبد على من يجب ؟ فقال أبو حنيفة : هو على عاقلة القاتل ، وهو الأشهر عن الشافعي ، وقال مالك : هو على القاتل نفسه .

وعمدة مالك تشبيه العبد بالعروض . وعمدة الشافعي قياسه على الحر .

التالي السابق


الخدمات العلمية