ولنا : جواز شرح الحديث ، والشهادة على الشهادة العربية بالعجمية ، وعكسه ; فهذا أولى . ولأن التعبد بالمعنى لا باللفظ ، بخلاف القرآن . ولأنه جائز في غير السنة ; فكذا فيها ، إذ الكذب حرام فيهما . والراوي بالمعنى المطابق مؤد كما سمع . ثم المراد منه : من لا يفرق ، وليس الكلام فيه . وفائدة قوله عليه السلام للبراء ما ذكر : عدم الالتباس بجبريل ، أو الجمع بين لفظتي النبوة والرسالة .
قال أبو الخطاب : ولا يبدل لفظا بأظهر منه ; لأن الشارع ربما قصد إيصال الحكم باللفظ الجلي تارة ، وبالخفي أخرى .
قلت : وكذا بالعكس ، وأولى ، وقد فهم هذا من قولنا : المعنى المطابق ، والله أعلم .
المسألة " الثانية عشرة : تجوز رواية الحديث بالمعنى المطابق للفظ للعارف بمقتضيات الألفاظ ، الفارق بينها " .
وتفصيل هذه الجملة : أن الراوي إما غير عالم بمقتضيات الألفاظ ، والفرق بينها ، من جهة الإطلاق والتقييد ، والعموم والخصوص ; فلا يجوز له الرواية بالمعنى وإن كان عالما بذلك ، فإن كان المعنى غير مطابق للفظ ، لم يجز ، وإن كان مطابقا له ، جاز .
[ ص: 245 ] قال القرافي : يجوز بثلاثة شروط : أن لا يزيد الترجمة ، ولا ينقص ، ولا يكون أخفى من لفظ الشارع .
قلت : هذا هو معنى المطابقة . ومنع من ذلك ، أي : من الرواية بالمعنى nindex.php?page=showalam&ids=16972ابن سيرين ، وجماعة من السلف ، وهو اختيار أبي بكر الرازي ، وأوجبوا نقل لفظ النبي صلى الله عليه وسلم ، على صورته ، لقوله صلى الله عليه وسلم : نضر الله امرأ سمع مقالتي فأداها كما سمعها . الحديث . وقد سبق في مسألة عدم اشتراط فقه الراوي ، وهو يقتضي نقل اللفظ بصورته .
أحدها : الإجماع على جواز شرح الحديث العربي بالعجمي ، والعجمي بالعربي ، والشهادة على الشهادة العربية بالعجمية ، والشهادة بالعجمية على الشهادة العربية .
أي : إذا كان شاهد الأصل أعجميا ، جاز أن يتحمل عنه الشهادة عربي ، ويؤديها بلسانه ، وبالعكس : يؤدي العجمي عن العربي ، وكذلك شرح الأحكام الشرعية بلسانهم ، وإذا جاز إبدال العربي بالعجمي ; فإبداله بعربي مثله يؤدي معناه أولى [ ص: 247 ] بالجواز .
الوجه الثاني : أن التعبد في الحديث بالمعنى ; لأنه المقصود ، لا باللفظ ، بخلاف القرآن ، فإن التعبد بمعناه للإبلاغ ، وبلفظه للتلاوة والإعجاز . بدليل الحروف المقطعة في أوائل السور ; فإنه ليس لها معنى يفهم ; فيمتثل ، ونحن متعبدون بلفظها ، والأجر مترتب عليها ، على كل حرف عشر حسنات ، كسائر حروف القرآن .
الوجه الثالث : أن تبديل اللفظ بما يؤدي معناه جائز في غير السنة ، كالتخاطب الجاري بين الناس ; فكذلك ينبغي أن يجوز في السنة ; لأن المحذور من ذلك إنما هو الكذب ، وهو حرام فيهما ، أي : في السنة وغيرها من محاورات الناس بينهم . وقد جاز في أحدهما ; فليجز في الآخر .
قوله : " والراوي بالمعنى المطابق للفظ مؤد كما سمع " . هذا جواب عن دليل الخصم ، وهو القول بموجب الحديث ، فإن اقتضى أن الراوي يؤدي الحديث كما سمعه ، والراوي بالمعنى المطابق يؤدي كما سمع .
وقولهم : الحديث يقتضي نقل اللفظ بصورته ، قلنا : لا نسلم ، بل نقل [ ص: 248 ] المعنى ; لأنه المقصود ، وإن سلمناه ، لكن يقتضيه وجوبا أو ندبا ، والأول ممنوع ، والثاني مسلم ، ونحن نقول به . " ثم المراد منه " ، أي : من الحديث المذكور ، إن سلمنا أنه يقتضي نقل اللفظ بصورته " من لا يفرق " بين مدلولات الألفاظ وليس الكلام فيه إنما الكلام في العارف الفارق ، الراوي باللفظ المطابق .
قوله : " وفائدة قوله عليه السلام للبراء ما ذكر " . هذا جواب عن حديث البراء .
وتقريره : أن فائدة قوله عليه السلام له : قل : ونبيك الذي أرسلت إما عدم الالتباس بجبريل ; فإنه رسول الله إلى الأنبياء ; فلو قال : وبرسولك ، لالتبس به ، وإنما مقصوده ههنا الإيمان به عليه السلام ; لأنه يستلزم الإيمان بجبريل وغيره ، مما يجب الإيمان به ، بخلاف العكس ، أعني أن الإيمان بجبريل لا يستلزم الإيمان بالنبي عليه السلام .
أو يكون فائدة ذلك الجمع في الحديث بين لفظي النبوة والرسالة ، في قوله : ونبيك الذي أرسلت ، وإحداهما أعم من الأخرى ، على ما سبق في شرح خطبة الكتاب ، والجمع بينهما أبلغ في الإيمان ، وأفخم للرسول عليه السلام .
" قال أبو الخطاب : ولا يبدل - يعني الراوي بالمعنى - لفظا بأظهر منه ; لأن الشارع ربما قصد إيصال الحكم " إلى المكلفين " باللفظ الجلي تارة " تسهيلا للفهم عليهم ، وباللفظ الخفي أخرى ، تكثيرا لأجرهم ، بإجادة النظر فيه .
" قلت : وكذا بالعكس وأولى " أي : كذلك لا يبدل لفظا بلفظ أخفى منه ، وهو [ ص: 249 ] أولى بعدم الجواز مما ذكره أبو الخطاب ; لأن فيه تصعيبا لما سهل الشارع فهمه .
وقد فهم هذا من قولنا في أول المسألة : تجوز الرواية بالمعنى المطابق ; لأن المطابق هو المساوي في العموم والخصوص ; فلا يكون أعم ولا أخص ، وفي الجلاء والخفاء ; فلا يكون أجلى ولا أخفى . والله تعالى أعلم .