[ ص: 436 ] وقياس الدلالة : الجمع بين الأصل والفرع بدليل العلة ، إذ اشتراكهما فيه يفيد اشتراكهما في العلة ، فيشتركان في الحكم نحو : جاز تزويجها ساكتة ، فجاز ساخطة كالصغيرة ، إذ جواز تزويجها ساكتة دليل عدم اعتبار رضاها ، وإلا لاعتبر نطقها الدال عليه ، فيجوز وإن سخطت لعدم اعتبار رضاها . ونحو : لا يجبر العبد على إبقاء النكاح ، فلا يجبر على ابتدائه كالحر ، فعدم إجباره على إبقائه دليل خلوص حقه في النكاح ، فلا يجبر على خالص حقه في الموضعين .
قوله : " وقياس الدلالة " هو " الجمع بين الأصل والفرع بدليل العلة " إلى آخره .
اعلم أن القياس من حيث التأثير والمناسبة وعدمها ينقسم إلى المناسب ، والشبهي ، والطردي ، كما سبق ، ومن حيث التصريح بالعلة وعدمه ينقسم إلى قياس العلة ، وقياس الدلالة ، والقياس في معنى الأصل ، كما سبق تقسيمه .
فقياس العلة هو الجمع بين الأصل ، والفرع بعلته ، كالجمع بين النبيذ والخمر بعلة الإسكار .
وقياس الدلالة هو ما ذكر .
والقياس في معنى الأصل : هو ما لا فارق فيه بين الأصل والفرع ، أو كان بينهما فارق لا أثر له .
فقياس الدلالة هو " الجمع بين الأصل والفرع بدليل العلة " لأن " اشتراكهما فيه " - يعني اشتراك الأصل والفرع في دليل العلة - " يفيد [ ص: 437 ] اشتراكهما في العلة " لأن المدلول لازم الدليل ، والدليل ملزوم له ، والاشتراك في الملزوم يقتضي الاشتراك في اللازم ، كالاشتراك في الإنسانية يقتضي الاشتراك في الحيوانية ، وإذا اشتركا في العلة ، اشتركا في الحكم عملا بالقياس .
ومن أمثلة ذلك قولنا في جواز إجبار البكر : " جاز تزويجها ساكتة ، فجاز " تزويجها " ساخطة كالصغيرة " لأن " جواز تزويجها ساكتة " يدل " على عدم اعتبار رضاها " إذ لو اعتبر رضاها ، " لاعتبر نطقها الدال عليه " لكن نطقها لم يعتبر ، فدل على أن رضاها لا يعتبر ، وإذا لم يعتبر رضاها ، جاز تزويجها " وإن سخطت " إذ من لا يعتبر رضاه في أمر; لا فرق بين وقوع ذلك الأمر على وفق اختياره أو خلافه ، كالمرأة لما لم يعتبر رضاها في الطلاق ، جاز عدمه في حقها باستمرارها على النكاح ، ووجوده يقطع نكاحها به ، فقد جمع في هذا القياس بين الصغيرة والبكر الكبيرة بدليل عدم اعتبار رضاهما ، وهو تزويجهما ساكتتين ، فهو قياس دلالة لذلك .
ومن أمثلته قولنا : " لا يجبر العبد على " النكاح ، لأنه لا يجبر على إبقائه ، يعني استدامته ، " فلا يجبر على ابتدائه كالحر ، فعدم إجباره على " استدامته دليل على خلوص حقه فيه . وإذا كان الحق في النكاح خالصا للعبد ، لم " يجبر على خالص حقه في الموضعين " أي : في استدامته وابتدائه ، كما أن الحر لما كان النكاح حقا خالصا له ، لم يجبر عليه استدامة ولا ابتداء .
واعلم أن قياس الدلالة على ضربين : أحدهما : الاستدلال بالحكم على العلة كما ذكرنا من الاستدلال بالتزويج مع السكوت على عدم اعتبار الرضى في حق البكر ، وبعدم الإجبار [ ص: 438 ] على الإبقاء على عدم الإجبار على الابتداء في حق العبد ، وكقولنا في الوتر : يؤدى على الراحلة ، فيكون نفلا ، أو فلا يجب ، كصلاة الضحى ، فجواز الأداء على الراحلة حكم النفل ، فهو يدل على وجود علته في الوتر ، وذلك لأن الحكم أثر العلة وملزومها ، فدل عليها دلالة الأثر على المؤثر ، والملزوم على اللازم .
الضرب الثاني : الاستدلال بأحد أثري المؤثر على الآخر ، ويقال : بإحدى نتيجتي علة واحدة على الأخرى ، وهو معنى الأول .
ومن أمثلته : قولنا : القطع والغرم يجتمعان على السارق ، أي : إذا سرق عينا ففاتت في يده ، قطع بها ، وغرم قيمتها ، لأنها عين يجب ردها مع بقائها ، فوجب ضمانها مع فواتها ، كالمغصوب ، لأن وجوب ردها مع بقائها دل على وجود علة وجوب الرد ، إذ الواجب لا بد له من علة ، والضمان عند التلف رد لها من حيث المعنى ، وتلك العلة تناسبه ، وقد ظهر اعتبارها في الأصل وهو المغصوب ، والعلة في ذلك كله إقامة العدل برد الحق ، أو بدله إلى مستحقه .
ومن ذلك قولنا في المكره : يأثم إذا صدر منه القتل ، فوجب عليه القصاص كالمكره - بكسر الراء - عند من يوجب القصاص عليهما وهو nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، فالإثم ووجوب القصاص أثران للقتل ، ثم إن وجود الإثم يدل على علة التأثيم ، وعلة التأثيم تدل على وجوب القصاص ، لأنه لما أثم بالقتل ، دل على أن الشارع قصد حفظ المحل من القتل بالتأثيم ، وإيجاب القصاص يحصل هذا المقصود وقد ظهر اعتباره في الأصل وغيره من صور القتل .
[ ص: 439 ] قلت : فحصل من هذا أن قياس الدلالة تارة يكون استدلالا بأثر العلة المفرد عليها بلا واسطة ، وتارة بأحد أثريها عليها بواسطة الأثر الآخر .
وأما القياس في معنى الأصل ، فهو ما ساوى الأصل فيه الفرع من غير فارق ، أو مع فارق غير مؤثر .
مثال الأول : قياس الماء الذي صب فيه البول من إناء على الماء الذي بال فيه شخص .
ومثال الثاني : قياس الأمة على العبد في سراية العتق ، وإلغاء فارق الذكورية .
فإن قيل : المثال الأول راجع إلى إلغاء الفارق أيضا لا إلى انتفائه بالكلية ، إذ صب البول في الماء في الفرع كيفية يفارق بها الأصل ، لكنها ملغاة ، فكيف جعلتموها قسمين ؟
فالجواب أن الفارق في صورة العتق بالذكورية يمكن أن تقرر مناسبته على ما سبق ، بخلاف الفارق في صورة البول من الماء ، فإنه لا يمكن أن تقرر له مناسبة .
ثم إن هذا القياس ينقسم إلى قطعي - كما ذكرنا - ، وإلى ظني ، كقياس إضافة الطلاق إلى جزء معين على إضافته إلى جزء شائع ، كقياس قوله : يدك طالق ، على قوله : نصفك أو ثلثك أو ربعك طالق ، لأن هذا جزء وهذا جزء ، إذ الفرق في هذا يحتمل التأثير بأن الجزء الشائع جعل محلا للحكم الشرعي كالبيع والرهن ، فلا يبعد أن يكون محلا للطلاق ، بخلاف المعين ، بخلاف الفرق في القسم الأول ، فإن تأثيره لا يظهر .