الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 436 ] وقياس الدلالة : الجمع بين الأصل والفرع بدليل العلة ، إذ اشتراكهما فيه يفيد اشتراكهما في العلة ، فيشتركان في الحكم نحو : جاز تزويجها ساكتة ، فجاز ساخطة كالصغيرة ، إذ جواز تزويجها ساكتة دليل عدم اعتبار رضاها ، وإلا لاعتبر نطقها الدال عليه ، فيجوز وإن سخطت لعدم اعتبار رضاها . ونحو : لا يجبر العبد على إبقاء النكاح ، فلا يجبر على ابتدائه كالحر ، فعدم إجباره على إبقائه دليل خلوص حقه في النكاح ، فلا يجبر على خالص حقه في الموضعين .

                التالي السابق


                قوله : " وقياس الدلالة " هو " الجمع بين الأصل والفرع بدليل العلة " إلى آخره .

                اعلم أن القياس من حيث التأثير والمناسبة وعدمها ينقسم إلى المناسب ، والشبهي ، والطردي ، كما سبق ، ومن حيث التصريح بالعلة وعدمه ينقسم إلى قياس العلة ، وقياس الدلالة ، والقياس في معنى الأصل ، كما سبق تقسيمه .

                فقياس العلة هو الجمع بين الأصل ، والفرع بعلته ، كالجمع بين النبيذ والخمر بعلة الإسكار .

                وقياس الدلالة هو ما ذكر .

                والقياس في معنى الأصل : هو ما لا فارق فيه بين الأصل والفرع ، أو كان بينهما فارق لا أثر له .

                فقياس الدلالة هو " الجمع بين الأصل والفرع بدليل العلة " لأن " اشتراكهما فيه " - يعني اشتراك الأصل والفرع في دليل العلة - " يفيد [ ص: 437 ] اشتراكهما في العلة " لأن المدلول لازم الدليل ، والدليل ملزوم له ، والاشتراك في الملزوم يقتضي الاشتراك في اللازم ، كالاشتراك في الإنسانية يقتضي الاشتراك في الحيوانية ، وإذا اشتركا في العلة ، اشتركا في الحكم عملا بالقياس .

                ومن أمثلة ذلك قولنا في جواز إجبار البكر : " جاز تزويجها ساكتة ، فجاز " تزويجها " ساخطة كالصغيرة " لأن " جواز تزويجها ساكتة " يدل " على عدم اعتبار رضاها " إذ لو اعتبر رضاها ، " لاعتبر نطقها الدال عليه " لكن نطقها لم يعتبر ، فدل على أن رضاها لا يعتبر ، وإذا لم يعتبر رضاها ، جاز تزويجها " وإن سخطت " إذ من لا يعتبر رضاه في أمر; لا فرق بين وقوع ذلك الأمر على وفق اختياره أو خلافه ، كالمرأة لما لم يعتبر رضاها في الطلاق ، جاز عدمه في حقها باستمرارها على النكاح ، ووجوده يقطع نكاحها به ، فقد جمع في هذا القياس بين الصغيرة والبكر الكبيرة بدليل عدم اعتبار رضاهما ، وهو تزويجهما ساكتتين ، فهو قياس دلالة لذلك .

                ومن أمثلته قولنا : " لا يجبر العبد على " النكاح ، لأنه لا يجبر على إبقائه ، يعني استدامته ، " فلا يجبر على ابتدائه كالحر ، فعدم إجباره على " استدامته دليل على خلوص حقه فيه . وإذا كان الحق في النكاح خالصا للعبد ، لم " يجبر على خالص حقه في الموضعين " أي : في استدامته وابتدائه ، كما أن الحر لما كان النكاح حقا خالصا له ، لم يجبر عليه استدامة ولا ابتداء .



                واعلم أن قياس الدلالة على ضربين : أحدهما : الاستدلال بالحكم على العلة كما ذكرنا من الاستدلال بالتزويج مع السكوت على عدم اعتبار الرضى في حق البكر ، وبعدم الإجبار [ ص: 438 ] على الإبقاء على عدم الإجبار على الابتداء في حق العبد ، وكقولنا في الوتر : يؤدى على الراحلة ، فيكون نفلا ، أو فلا يجب ، كصلاة الضحى ، فجواز الأداء على الراحلة حكم النفل ، فهو يدل على وجود علته في الوتر ، وذلك لأن الحكم أثر العلة وملزومها ، فدل عليها دلالة الأثر على المؤثر ، والملزوم على اللازم .

                الضرب الثاني : الاستدلال بأحد أثري المؤثر على الآخر ، ويقال : بإحدى نتيجتي علة واحدة على الأخرى ، وهو معنى الأول .

                ومن أمثلته : قولنا : القطع والغرم يجتمعان على السارق ، أي : إذا سرق عينا ففاتت في يده ، قطع بها ، وغرم قيمتها ، لأنها عين يجب ردها مع بقائها ، فوجب ضمانها مع فواتها ، كالمغصوب ، لأن وجوب ردها مع بقائها دل على وجود علة وجوب الرد ، إذ الواجب لا بد له من علة ، والضمان عند التلف رد لها من حيث المعنى ، وتلك العلة تناسبه ، وقد ظهر اعتبارها في الأصل وهو المغصوب ، والعلة في ذلك كله إقامة العدل برد الحق ، أو بدله إلى مستحقه .

                ومن ذلك قولنا في المكره : يأثم إذا صدر منه القتل ، فوجب عليه القصاص كالمكره - بكسر الراء - عند من يوجب القصاص عليهما وهو الشافعي ، فالإثم ووجوب القصاص أثران للقتل ، ثم إن وجود الإثم يدل على علة التأثيم ، وعلة التأثيم تدل على وجوب القصاص ، لأنه لما أثم بالقتل ، دل على أن الشارع قصد حفظ المحل من القتل بالتأثيم ، وإيجاب القصاص يحصل هذا المقصود وقد ظهر اعتباره في الأصل وغيره من صور القتل .

                [ ص: 439 ] قلت : فحصل من هذا أن قياس الدلالة تارة يكون استدلالا بأثر العلة المفرد عليها بلا واسطة ، وتارة بأحد أثريها عليها بواسطة الأثر الآخر .

                وأما القياس في معنى الأصل ، فهو ما ساوى الأصل فيه الفرع من غير فارق ، أو مع فارق غير مؤثر .

                مثال الأول : قياس الماء الذي صب فيه البول من إناء على الماء الذي بال فيه شخص .

                ومثال الثاني : قياس الأمة على العبد في سراية العتق ، وإلغاء فارق الذكورية .

                فإن قيل : المثال الأول راجع إلى إلغاء الفارق أيضا لا إلى انتفائه بالكلية ، إذ صب البول في الماء في الفرع كيفية يفارق بها الأصل ، لكنها ملغاة ، فكيف جعلتموها قسمين ؟

                فالجواب أن الفارق في صورة العتق بالذكورية يمكن أن تقرر مناسبته على ما سبق ، بخلاف الفارق في صورة البول من الماء ، فإنه لا يمكن أن تقرر له مناسبة .

                ثم إن هذا القياس ينقسم إلى قطعي - كما ذكرنا - ، وإلى ظني ، كقياس إضافة الطلاق إلى جزء معين على إضافته إلى جزء شائع ، كقياس قوله : يدك طالق ، على قوله : نصفك أو ثلثك أو ربعك طالق ، لأن هذا جزء وهذا جزء ، إذ الفرق في هذا يحتمل التأثير بأن الجزء الشائع جعل محلا للحكم الشرعي كالبيع والرهن ، فلا يبعد أن يكون محلا للطلاق ، بخلاف المعين ، بخلاف الفرق في القسم الأول ، فإن تأثيره لا يظهر .




                الخدمات العلمية