[ ص: 489 ] الخامس : التقسيم : ومحله قبل المطالبة لأنه منع ، وهو تسليم ، وهو مقبول بعد المنع ، بخلاف العكس ، وهو حصر المعترض مدارك ما ادعاه المستدل علة وإلغاء جميعها ، وشرطه صحة انقسام ما ذكره المستدل إلى ممنوع ومسلم ، وإلا كان مكابرة ، وحصره لجميع الأقسام ، وإلا جاز أن ينهض الخارج عنها بغرض المستدل ومطابقته لما ذكره ، فلو زاد عليه ؛ لكان مناظرا لنفسه لا للمستدل .
وطريق صيانة التقسيم أن يقول المعترض للمستدل : إن عنيت بما ذكرت كذا وكذا ، فهو محتمل مسلم ، والمطالبة متوجهة ، وإن عنيت غيره ، فهو ممتنع ممنوع ، والله أعلم .
السؤال " الخامس : التقسيم " ، وقد ذكر معناه بعد .
قوله : " ومحله " ، أي : ومحل سؤال التقسيم ، وموضعه من الأسئلة " قبل " سؤال " المطالبة " ، وهو طلب الدليل على كون الوصف علة كما سبق .
وإنما قلنا : محله قبل سؤال المطالبة ؛ " لأنه " - يعني سؤال التقسيم - " منع " لوجود العلة كما ذكر بعد " وهو " - يعني المطالبة - " تسليم " ؛ لأن قول المعترض : ما الدليل على أن الوصف الذي ذكرته ، هو علة الحكم الذي ادعيته ؟ يتضمن تسليم وجود الوصف المذكور . وإذا كان التقسيم منعا للعلة ، والمطالبة تتضمن تسليمها ، فالتسليم " مقبول بعد المنع ، بخلاف [ ص: 490 ] العكس " وهو المنع بعد التسليم ، لأنه إنكار لما اعترف به ، وهو غير مقبول .
مثاله : لو قال المستدل : الأرز مكيل ، فحرم فيه التفاضل كالبر ، فقال المعترض : لا أسلم أن الكيل علة في الأصل ، لأن علة الربا فيه : إما الكيل ، أو الطعم ، أو القوت ، ولا شيء من ذلك يصلح علة ، وقرر ذلك بدليله عنده ، ثم قال : سلمت أن البر مشتمل على علة الربا ، لكن لم قلت : إن الكيل هو العلة ؟ لصح ذلك ، لأنه تسليم بعد منع ، ورجوع عن النزاع في وجود الوصف .
ولو قال أولا : لم قلت : إن الكيل علة ؟ ثم قال بعد ذلك : العلة إما الكيل ، أو الطعم ، أو القوت ، ولا شيء من ذلك علة ؛ لم يصح ، لأن سؤاله عن دليل علية الكيل تسليم لوجوده ، ولصلاحيته للعلة ، وإنكاره بعد ذلك صلاحيته للتعليل إنكار لما سلمه .
قلت : وفي تحقق هذا نظر ، إذ لا تنافي بين التقسيم والمطالبة ، حتى يكون إيراد التقسيم بعدها إنكارا بعد اعتراف ، إذ حاصل التقسيم هو إنكار وجود علة المستدل في الأصل ، وذلك لا ينافي قول المعترض : ما الدليل على أن ما ذكرته علة ؟
مثاله : لو قال المستدل : الأرز مكيل ، فحرم فيه الربا كالبر ، فقال المعترض : ما الدليل على أن الكيل هو العلة في البر ؛ كان هذا إنكارا [ ص: 491 ] لعلية الكيل . ثم لو قال بعد ذلك : العلة في البر إما الكيل ، أو القوت ، أو الطعم ، ولا شيء من ذلك صالح للعلة ، لكان ذلك كلاما صحيحا موافقا لما قبله ، إذ كلاهما يدل على إنكار علية الكيل . وإنما كان يتجه التنافي بين التقسيم والمطالبة ، لو كان معنى التقسيم إنكار نفس الوصف ، والمطالبة طلب الدليل على عليته ، كما لو قال : ما الدليل على أن الكيل علة الربا ؟ ثم قال : لا أسلم أن البر مكيل ، لأن إنكاره وجود الكيل بعد طلب الدليل على عليته إنكار له بعد الاعتراف بوجوده . أما إنكار علية الوصف بعد طلب الدليل عليها فليس كذلك ، إذ طلب الدليل عليها إنكار لها ، فهو موافق للإنكار الحاصل من التقسيم .
نعم قد قيل : إن ذكر المطالبة بعد التقسيم تكرار لأن حاصلها منع العلية ، وهو حاصل من التقسيم كما عرف . فتأمل ذلك ، فإن في كون التقسيم بعد المطالبة إنكارا بعد اعتراف - كما ذكر في " المختصر " وأصله - نظرا قد أوضحته ، والله تعالى أعلم بالصواب .
قوله : " وهو " - يعني التقسيم - " حصر المعترض مدارك ما ادعاه المستدل علة ، وإلغاء جميعها " .
المدارك : جمع مدرك - بفتح الميم - وهو الطريق الذي يتوصل به إلى إدراك الشيء .
ومعنى الكلام المذكور على هذا : أن التقسيم هو أن يحصر المعترض [ ص: 492 ] الطرق التي يمكن التوصل بها إلى معرفة كون الوصف الذي ادعاه المستدل علة ، ثم يلغي جميع الطرق المذكورة ، فإن استقر له ذلك ، بطل التعليل بما ذكره المستدل ، وإلا فله تصحيح ما ادعاه ؛ بالقدح فيما ذكره المعترض ، وكأن في هذه العبارة انحرافا عن المقصود عن عبارة الأصل ، وإنما المقصود من ذلك أن يحصر المعترض جميع الأوصاف المناسبة للحكم في الأصل ، ثم يبين إلغاءها وعدم صلاحيتها للتعليل ، كقوله : علة الربا في البر إما الكيل ، أو الطعم ، أو القوت ، ولا واحد منها يصلح للتعليل ، فثبت أن الحكم لا علة له ، فينقطع الإلحاق كما سبق ، أو أن العلة وصف غير ذلك ، فعليك أيها المستدل إبداؤه ، فإن كان صالحا سلمناه ، وإلا ألغيناه كغيره .
وقال nindex.php?page=showalam&ids=14552الآمدي : التقسيم ترديد اللفظ بين احتمالين مستويين ، واختصاص كل احتمال باعتراض مخالف للاعتراض على الآخر ، وإلا فلو كان اللفظ في أحد الاحتمالين أظهر منه في الآخر ، وجب تنزيل اللفظ عليه ، ولو اشترك الاحتمالان في اعتراض واحد ، لم يكن للتقسيم معنى .
قلت : وهذا أولى بتفسير التقسيم المراد ههنا ، والظاهر أنه الذي أراده في " الروضة " لكنه لم يفصح به غاية الإفصاح ، فوهمت فيه عند الاختصار ، وذهبت فيه إلى التقسيم المستعمل في تخريج المناط ، وذلك أن التقسيم في القياس على ضربين :
أحدهما : من الناظر في استخراج العلة بتخريج المناط ، كما ذكرنا مثاله غير مرة .
والثاني : تقسيم من المعترض المناظر على ما يقوله المستدل ، وهذا هو [ ص: 493 ] المراد ههنا ، وسيأتي له أمثلة إن شاء الله تعالى .
قوله : " وشرطه : صحة انقسام ما ذكره المستدل إلى ممنوع ومسلم ، وإلا كان مكابرة ، وحصره لجميع الأقسام ، وإلا جاز أن ينهض الخارج عنها بغرض المستدل ، ومطابقته لما ذكره " .
قال بعضهم : احتمالا متساويا ، لكن يكفي المعترض بيان مجرد الاحتمال ، ولا يلزمه بيان التساوي لتعذره ، أو لصعوبته ، كما ذكره في سؤال الاستفسار ، ولذلك أمثلة :
أحدها : أن يقول المستدل في نذر صوم يوم النحر : إنه نذر معصية ، فلا ينعقد ، قياسا على سائر المعاصي ، فيقول المعترض : هو معصية لعينه أو لغيره ؟ الأول ممنوع ، لأن الصوم لعينه قربة وعبادة ، فكيف يكون معصية ، والثاني مسلم ، لكن لا يقتضي البطلان ، بخلاف سائر المعاصي .
المثال الثاني : أن يقول في الصبي إذا صلى في الوقت ثم بلغ : إنها وظيفة صحت من الصبي ، فلم يلزمه إعادتها ، كالبالغ ، فيقول المعترض : صحت منه فرضا أو نفلا ؟ الأول ممنوع ، لأنه غير مخاطب بها ، فكيف تكون فرضا مع عدم الخطاب بها ، والثاني مسلم ، لكن لا يقتضي عدم وجوب الإعادة ، لأن النفل لا يجزئ عن الفرض ، بخلاف صلاة البالغ ، فإنها صحت [ ص: 494 ] فرضا ، فلذلك لم تلزمه الإعادة .
المثال الثالث : أن يقول الحنفي : لا تجب الزكاة في مال الصبي ، لأنها عبادة ، فلم تجب عليه كسائر العبادات ، فيقول المعترض : عبادة محضة ، أو غير محضة ؟ الأول ممنوع ، والثاني مسلم ، لكن لا يلزم سقوطها عن ماله ، لأنها عبادة من جهة ؛ ومؤنة مالية من جهة ، فنحن في هذه الجهة نوجبها في ماله ، كنفقة الزوجة والأقارب ، والمخاطب بإخراجها الولي .
قوله : " وإلا كان مكابرة " . أي : إن لم يكن ما ذكره المستدل يصح انقسامه إلى ممنوع ومسلم ؛ كان التقسيم مكابرة وشغبا ولعبا ، كما لو قال : شراب مسكر ، فكان حراما كالخمر ، فقال المعترض مثلا : مسكر شرعي ، أو لغوي ، أو عقلي ؟ أو يقول : مسكر ذوقي ، أو حقيقي ؟ وكما لو قال : مكيل ، فحرم فيه التفاضل كالبر ، فقال المعترض : مكيل لغوي ، أو شرعي ؟ فإن هذا وأمثاله تقسيم لا معنى له ، ولا يترتب عليه حكم ، فيكون عنادا ، أو لعبا ، أو جهلا ، فلا يسمع .
أحدها : أن يقول : هذا العدد إما أن يكون مساويا لهذا العدد ، أو أقل منه ، فيقول المستدل : لا هذا ولا هذا ، بل يكون أكثر ، وهو مرادي .
[ ص: 495 ] الثاني : أن يقول : فعل مأمور به ، فكان مجزئا ، فيقول المعترض : مأمور به على وجه الفرض ، أو على وجه الإباحة ؟ فيقول : لا هذا ولا هذا ، بل على وجه الندب أو الوجوب ، إن كان ممن يفرق بين الواجب والفرض .
الثالث : أن يقول الحنبلي : لوتر ليس بفرض ، لأنه إما فرض أو نفل ، والأول باطل ، فتعين الثاني ، فيقول الحنفي : لا فرض ولا نفل ، بل واجب .
الرابع : أن يقول في الحرة البالغة : تلي عقد النكاح ، لأنها عاقلة ، فصح منها التصرف للمصلحة كالرجل ، فيقال له : ما تعني بالعقل ؛ التجربة ، أو كمال الرأي وحسن السيرة ؟ الأول ممنوع ، والثاني مسلم ، فيقول : لا هذا ، ولا هذا ، بل المراد به قوة غريزية ، يتأتى بها درك المصالح والمفاسد .
مثال ذلك : أن يقول الحنفي في قتل الحر بالعبد : قتل عمد عدوان ، فأوجب القصاص ، قياسا على الحر بالحر ، فيقال له : قتل عمد عدوان في رقيق أو غير رقيق ؟ وكذا إذا قال في مسألة إجبار البكر البالغة : إنها عاقلة بالغة ، فلا تجبر على نكاح الرجل ، فيقال : عاقلة بالغة ، وهي بكر أو [ ص: 496 ] ليست ببكر ؟ فهذا تقسيم مردود ، لأن دليل المستدل لم يتعرض للرقيق في المثال الأول ، ولا للبكر في المثال الثاني ، وجودا ولا عدما ، فذكر المعترض له تقويلا للمستدل ما لم يقل ، أو إعراضا عن مناظرته إلى مناظرة المعترض نفسه كما ذكرنا ، أو جهلا منه بطريق المناظرة . وأيا ما كان يبطل التقسيم .
وإذا توجه سؤال التقسيم ، فللمستدل في دفعه وجوه :
أحدها : أن يبين فساده ، بانتفاء شروطه أو بعضها ، فيقول مثلا : لا أسلم أن لفظي يحتمل ما ذكرت من التقسيم ، أو لا أسلم أن تقسيمك حاصر ، بل هناك قسم آخر مرادي ، أو أنك زدت في تقسيمك على ما ذكرت ، فأنت تناظر نفسك ، ولا يلزمني جوابك .
الثاني : أن يبين ظهوره في بعض الاحتمالات : التقسيم بالوضع ، أو عرف الاستعمال لغة أو عرفا أو شرعا ، أو بقرينة ، وإذا بان ظهوره في بعض الاحتمالات ، وجب تنزيل اللفظ عليه ، وسقط التقسيم .
مثال الظاهر بالوضع : لفظ المعصية في مسألة صوم يوم النحر ، ظاهر في كونه معصية لعينه ، وكونه لغيره خلاف الظاهر ، فلا يصح التقسيم إليه .
ومثال الظاهر بالعرف شرعا : ما يذكر من الحقائق الشرعية ، كالوضوء ، والصلاة ، والصوم ونحوه ، وهو ظاهر في المعنى الشرعي دون اللغوي ، فلا يصح التقسيم إليه على ما سبق في موضعه .
الثالث : أن يبين أن ما قسم المعترض إليه اللفظ متحد ، ولكنه وهم في اعتقاد التعدد ، أو أن الأقسام كلها مرادة له ، بناء على أن لفظه دل عليها بالتواطؤ .
[ ص: 497 ] وأمثلة هذا تظهر في محل النظر بما يستشعره المستدل ، ويحتمل من شاهد الحال .
قوله : " وطريق صيانة التقسيم : أن يقول المعترض للمستدل : إن عنيت بما ذكرت كذا وكذا ، فهو محتمل مسلم ، والمطالبة متوجهة ، وإن عنيت غيره ، فهو ممتنع ممنوع " .
أي أن التقسيم بالشروط المذكورة فيه يعرض له الفساد ، لجواز فوات بعض الأقسام ، فيبطل ، فالطريق إلى صيانته وحفظه عن ذلك ، أن يجعل المعترض تقسيمه دائرا بين قسمين :
أحدهما : يعم ما سوى القسم الآخر ، فلا يخرج عنه شيء من الأقسام ، فيقول : إن أردت بقولك كذا ، فهو مسلم ، وإن أردت غيره ، فممنوع ، لأن لفظ : غيره ، يتناول ما عدا القسم المصرح به .
مثاله : أن يقول : هذا العدد إما مساو أو غير مساو فيتناول غير المساوي والأقل والأكثر ، فتنحصر الأقسام ، ويقول : ما تعني بقولك : مأمور به ، أنه واجب أو غيره ؟ ، وصحة صلاة الصبي فرضا أو غيره ؟ وتريد بالعقل : التجربة ، أو غيرها ؟ ومعنى قوله : " فهو محتمل مسلم " ، أي : إن أردت كذا ، فمحتمل تنزيل لفظك عليه ، ومسلم صلاحيته للعلية ، " والمطالبة متوجهة " ، أي : أنا أطالبك بالدليل على كونه علة ، إذ لا يلزم من صلاحيته للعلية كونه علة ، وإن أردت غير ذلك ، " فهو ممتنع ممنوع " ، أي : يمتنع ، ولا يصح حمل لفظك عليه ، وممنوع صلاحيته للعلية ، والله تعالى أعلم .