الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 489 ] الخامس : التقسيم : ومحله قبل المطالبة لأنه منع ، وهو تسليم ، وهو مقبول بعد المنع ، بخلاف العكس ، وهو حصر المعترض مدارك ما ادعاه المستدل علة وإلغاء جميعها ، وشرطه صحة انقسام ما ذكره المستدل إلى ممنوع ومسلم ، وإلا كان مكابرة ، وحصره لجميع الأقسام ، وإلا جاز أن ينهض الخارج عنها بغرض المستدل ومطابقته لما ذكره ، فلو زاد عليه ؛ لكان مناظرا لنفسه لا للمستدل .

                وطريق صيانة التقسيم أن يقول المعترض للمستدل : إن عنيت بما ذكرت كذا وكذا ، فهو محتمل مسلم ، والمطالبة متوجهة ، وإن عنيت غيره ، فهو ممتنع ممنوع ، والله أعلم .

                التالي السابق


                السؤال " الخامس : التقسيم " ، وقد ذكر معناه بعد .

                قوله : " ومحله " ، أي : ومحل سؤال التقسيم ، وموضعه من الأسئلة " قبل " سؤال " المطالبة " ، وهو طلب الدليل على كون الوصف علة كما سبق .

                وإنما قلنا : محله قبل سؤال المطالبة ؛ " لأنه " - يعني سؤال التقسيم - " منع " لوجود العلة كما ذكر بعد " وهو " - يعني المطالبة - " تسليم " ؛ لأن قول المعترض : ما الدليل على أن الوصف الذي ذكرته ، هو علة الحكم الذي ادعيته ؟ يتضمن تسليم وجود الوصف المذكور . وإذا كان التقسيم منعا للعلة ، والمطالبة تتضمن تسليمها ، فالتسليم " مقبول بعد المنع ، بخلاف [ ص: 490 ] العكس " وهو المنع بعد التسليم ، لأنه إنكار لما اعترف به ، وهو غير مقبول .

                مثاله : لو قال المستدل : الأرز مكيل ، فحرم فيه التفاضل كالبر ، فقال المعترض : لا أسلم أن الكيل علة في الأصل ، لأن علة الربا فيه : إما الكيل ، أو الطعم ، أو القوت ، ولا شيء من ذلك يصلح علة ، وقرر ذلك بدليله عنده ، ثم قال : سلمت أن البر مشتمل على علة الربا ، لكن لم قلت : إن الكيل هو العلة ؟ لصح ذلك ، لأنه تسليم بعد منع ، ورجوع عن النزاع في وجود الوصف .

                ولو قال أولا : لم قلت : إن الكيل علة ؟ ثم قال بعد ذلك : العلة إما الكيل ، أو الطعم ، أو القوت ، ولا شيء من ذلك علة ؛ لم يصح ، لأن سؤاله عن دليل علية الكيل تسليم لوجوده ، ولصلاحيته للعلة ، وإنكاره بعد ذلك صلاحيته للتعليل إنكار لما سلمه .

                قلت : وفي تحقق هذا نظر ، إذ لا تنافي بين التقسيم والمطالبة ، حتى يكون إيراد التقسيم بعدها إنكارا بعد اعتراف ، إذ حاصل التقسيم هو إنكار وجود علة المستدل في الأصل ، وذلك لا ينافي قول المعترض : ما الدليل على أن ما ذكرته علة ؟

                مثاله : لو قال المستدل : الأرز مكيل ، فحرم فيه الربا كالبر ، فقال المعترض : ما الدليل على أن الكيل هو العلة في البر ؛ كان هذا إنكارا [ ص: 491 ] لعلية الكيل . ثم لو قال بعد ذلك : العلة في البر إما الكيل ، أو القوت ، أو الطعم ، ولا شيء من ذلك صالح للعلة ، لكان ذلك كلاما صحيحا موافقا لما قبله ، إذ كلاهما يدل على إنكار علية الكيل . وإنما كان يتجه التنافي بين التقسيم والمطالبة ، لو كان معنى التقسيم إنكار نفس الوصف ، والمطالبة طلب الدليل على عليته ، كما لو قال : ما الدليل على أن الكيل علة الربا ؟ ثم قال : لا أسلم أن البر مكيل ، لأن إنكاره وجود الكيل بعد طلب الدليل على عليته إنكار له بعد الاعتراف بوجوده . أما إنكار علية الوصف بعد طلب الدليل عليها فليس كذلك ، إذ طلب الدليل عليها إنكار لها ، فهو موافق للإنكار الحاصل من التقسيم .

                نعم قد قيل : إن ذكر المطالبة بعد التقسيم تكرار لأن حاصلها منع العلية ، وهو حاصل من التقسيم كما عرف . فتأمل ذلك ، فإن في كون التقسيم بعد المطالبة إنكارا بعد اعتراف - كما ذكر في " المختصر " وأصله - نظرا قد أوضحته ، والله تعالى أعلم بالصواب .

                قوله : " وهو " - يعني التقسيم - " حصر المعترض مدارك ما ادعاه المستدل علة ، وإلغاء جميعها " .

                المدارك : جمع مدرك - بفتح الميم - وهو الطريق الذي يتوصل به إلى إدراك الشيء .

                ومعنى الكلام المذكور على هذا : أن التقسيم هو أن يحصر المعترض [ ص: 492 ] الطرق التي يمكن التوصل بها إلى معرفة كون الوصف الذي ادعاه المستدل علة ، ثم يلغي جميع الطرق المذكورة ، فإن استقر له ذلك ، بطل التعليل بما ذكره المستدل ، وإلا فله تصحيح ما ادعاه ؛ بالقدح فيما ذكره المعترض ، وكأن في هذه العبارة انحرافا عن المقصود عن عبارة الأصل ، وإنما المقصود من ذلك أن يحصر المعترض جميع الأوصاف المناسبة للحكم في الأصل ، ثم يبين إلغاءها وعدم صلاحيتها للتعليل ، كقوله : علة الربا في البر إما الكيل ، أو الطعم ، أو القوت ، ولا واحد منها يصلح للتعليل ، فثبت أن الحكم لا علة له ، فينقطع الإلحاق كما سبق ، أو أن العلة وصف غير ذلك ، فعليك أيها المستدل إبداؤه ، فإن كان صالحا سلمناه ، وإلا ألغيناه كغيره .

                وقال الآمدي : التقسيم ترديد اللفظ بين احتمالين مستويين ، واختصاص كل احتمال باعتراض مخالف للاعتراض على الآخر ، وإلا فلو كان اللفظ في أحد الاحتمالين أظهر منه في الآخر ، وجب تنزيل اللفظ عليه ، ولو اشترك الاحتمالان في اعتراض واحد ، لم يكن للتقسيم معنى .

                قلت : وهذا أولى بتفسير التقسيم المراد ههنا ، والظاهر أنه الذي أراده في " الروضة " لكنه لم يفصح به غاية الإفصاح ، فوهمت فيه عند الاختصار ، وذهبت فيه إلى التقسيم المستعمل في تخريج المناط ، وذلك أن التقسيم في القياس على ضربين :

                أحدهما : من الناظر في استخراج العلة بتخريج المناط ، كما ذكرنا مثاله غير مرة .

                والثاني : تقسيم من المعترض المناظر على ما يقوله المستدل ، وهذا هو [ ص: 493 ] المراد ههنا ، وسيأتي له أمثلة إن شاء الله تعالى .

                قوله : " وشرطه : صحة انقسام ما ذكره المستدل إلى ممنوع ومسلم ، وإلا كان مكابرة ، وحصره لجميع الأقسام ، وإلا جاز أن ينهض الخارج عنها بغرض المستدل ، ومطابقته لما ذكره " .

                أي : وشرط التقسيم ، أي : يشترط لصحته أمور ثلاثة :

                أحدها : أن يكون ما ذكره المستدل مما يصح انقسامه إلى ما يجوز منعه وتسليمه .

                قال بعضهم : احتمالا متساويا ، لكن يكفي المعترض بيان مجرد الاحتمال ، ولا يلزمه بيان التساوي لتعذره ، أو لصعوبته ، كما ذكره في سؤال الاستفسار ، ولذلك أمثلة :

                أحدها : أن يقول المستدل في نذر صوم يوم النحر : إنه نذر معصية ، فلا ينعقد ، قياسا على سائر المعاصي ، فيقول المعترض : هو معصية لعينه أو لغيره ؟ الأول ممنوع ، لأن الصوم لعينه قربة وعبادة ، فكيف يكون معصية ، والثاني مسلم ، لكن لا يقتضي البطلان ، بخلاف سائر المعاصي .

                المثال الثاني : أن يقول في الصبي إذا صلى في الوقت ثم بلغ : إنها وظيفة صحت من الصبي ، فلم يلزمه إعادتها ، كالبالغ ، فيقول المعترض : صحت منه فرضا أو نفلا ؟ الأول ممنوع ، لأنه غير مخاطب بها ، فكيف تكون فرضا مع عدم الخطاب بها ، والثاني مسلم ، لكن لا يقتضي عدم وجوب الإعادة ، لأن النفل لا يجزئ عن الفرض ، بخلاف صلاة البالغ ، فإنها صحت [ ص: 494 ] فرضا ، فلذلك لم تلزمه الإعادة .

                المثال الثالث : أن يقول الحنفي : لا تجب الزكاة في مال الصبي ، لأنها عبادة ، فلم تجب عليه كسائر العبادات ، فيقول المعترض : عبادة محضة ، أو غير محضة ؟ الأول ممنوع ، والثاني مسلم ، لكن لا يلزم سقوطها عن ماله ، لأنها عبادة من جهة ؛ ومؤنة مالية من جهة ، فنحن في هذه الجهة نوجبها في ماله ، كنفقة الزوجة والأقارب ، والمخاطب بإخراجها الولي .

                قوله : " وإلا كان مكابرة " . أي : إن لم يكن ما ذكره المستدل يصح انقسامه إلى ممنوع ومسلم ؛ كان التقسيم مكابرة وشغبا ولعبا ، كما لو قال : شراب مسكر ، فكان حراما كالخمر ، فقال المعترض مثلا : مسكر شرعي ، أو لغوي ، أو عقلي ؟ أو يقول : مسكر ذوقي ، أو حقيقي ؟ وكما لو قال : مكيل ، فحرم فيه التفاضل كالبر ، فقال المعترض : مكيل لغوي ، أو شرعي ؟ فإن هذا وأمثاله تقسيم لا معنى له ، ولا يترتب عليه حكم ، فيكون عنادا ، أو لعبا ، أو جهلا ، فلا يسمع .

                الأمر الثاني من شروط صحة التقسيم : أن يكون حاصرا لجميع الأقسام التي يحتملها لفظ المستدل ، كما ذكر من انحصار المعصية في كونها لعينها أو لغيرها ، وانحصار الصلاة في كونها فرضا أو نفلا ، فإن لم يكن حاصرا ، لم يصح التقسيم ، لجواز أن ينهض القسم الباقي الخارج عن الأقسام التي ذكرها المعترض بفرض المستدل . وحينئذ ينقطع المعترض ، ولذلك أمثلة :

                أحدها : أن يقول : هذا العدد إما أن يكون مساويا لهذا العدد ، أو أقل منه ، فيقول المستدل : لا هذا ولا هذا ، بل يكون أكثر ، وهو مرادي .

                [ ص: 495 ] الثاني : أن يقول : فعل مأمور به ، فكان مجزئا ، فيقول المعترض : مأمور به على وجه الفرض ، أو على وجه الإباحة ؟ فيقول : لا هذا ولا هذا ، بل على وجه الندب أو الوجوب ، إن كان ممن يفرق بين الواجب والفرض .

                الثالث : أن يقول الحنبلي : لوتر ليس بفرض ، لأنه إما فرض أو نفل ، والأول باطل ، فتعين الثاني ، فيقول الحنفي : لا فرض ولا نفل ، بل واجب .

                الرابع : أن يقول في الحرة البالغة : تلي عقد النكاح ، لأنها عاقلة ، فصح منها التصرف للمصلحة كالرجل ، فيقال له : ما تعني بالعقل ؛ التجربة ، أو كمال الرأي وحسن السيرة ؟ الأول ممنوع ، والثاني مسلم ، فيقول : لا هذا ، ولا هذا ، بل المراد به قوة غريزية ، يتأتى بها درك المصالح والمفاسد .

                الأمر الثالث من شروط صحة التقسيم : " مطابقته لما ذكره " المستدل ، أي : إن المعترض لا يورد في التقسيم زيادة على ما ذكره المستدل في دليله ، فإن زاد في التقسيم على ما ذكره المستدل ، لم يصح ، لأنه حينئذ يكون مناظرا لنفسه لا للمستدل ، حيث ذكر ما لم يذكره المستدل ، وجعل يتكلم عليه ، وإنما وظيفة المعترض هدم ما يبنيه ، لا بناء زيادة عليه .

                مثال ذلك : أن يقول الحنفي في قتل الحر بالعبد : قتل عمد عدوان ، فأوجب القصاص ، قياسا على الحر بالحر ، فيقال له : قتل عمد عدوان في رقيق أو غير رقيق ؟ وكذا إذا قال في مسألة إجبار البكر البالغة : إنها عاقلة بالغة ، فلا تجبر على نكاح الرجل ، فيقال : عاقلة بالغة ، وهي بكر أو [ ص: 496 ] ليست ببكر ؟ فهذا تقسيم مردود ، لأن دليل المستدل لم يتعرض للرقيق في المثال الأول ، ولا للبكر في المثال الثاني ، وجودا ولا عدما ، فذكر المعترض له تقويلا للمستدل ما لم يقل ، أو إعراضا عن مناظرته إلى مناظرة المعترض نفسه كما ذكرنا ، أو جهلا منه بطريق المناظرة . وأيا ما كان يبطل التقسيم .

                وإذا توجه سؤال التقسيم ، فللمستدل في دفعه وجوه :

                أحدها : أن يبين فساده ، بانتفاء شروطه أو بعضها ، فيقول مثلا : لا أسلم أن لفظي يحتمل ما ذكرت من التقسيم ، أو لا أسلم أن تقسيمك حاصر ، بل هناك قسم آخر مرادي ، أو أنك زدت في تقسيمك على ما ذكرت ، فأنت تناظر نفسك ، ولا يلزمني جوابك .

                الثاني : أن يبين ظهوره في بعض الاحتمالات : التقسيم بالوضع ، أو عرف الاستعمال لغة أو عرفا أو شرعا ، أو بقرينة ، وإذا بان ظهوره في بعض الاحتمالات ، وجب تنزيل اللفظ عليه ، وسقط التقسيم .

                مثال الظاهر بالوضع : لفظ المعصية في مسألة صوم يوم النحر ، ظاهر في كونه معصية لعينه ، وكونه لغيره خلاف الظاهر ، فلا يصح التقسيم إليه .

                ومثال الظاهر بالعرف شرعا : ما يذكر من الحقائق الشرعية ، كالوضوء ، والصلاة ، والصوم ونحوه ، وهو ظاهر في المعنى الشرعي دون اللغوي ، فلا يصح التقسيم إليه على ما سبق في موضعه .

                الثالث : أن يبين أن ما قسم المعترض إليه اللفظ متحد ، ولكنه وهم في اعتقاد التعدد ، أو أن الأقسام كلها مرادة له ، بناء على أن لفظه دل عليها بالتواطؤ .

                [ ص: 497 ] وأمثلة هذا تظهر في محل النظر بما يستشعره المستدل ، ويحتمل من شاهد الحال .

                قوله : " وطريق صيانة التقسيم : أن يقول المعترض للمستدل : إن عنيت بما ذكرت كذا وكذا ، فهو محتمل مسلم ، والمطالبة متوجهة ، وإن عنيت غيره ، فهو ممتنع ممنوع " .

                أي أن التقسيم بالشروط المذكورة فيه يعرض له الفساد ، لجواز فوات بعض الأقسام ، فيبطل ، فالطريق إلى صيانته وحفظه عن ذلك ، أن يجعل المعترض تقسيمه دائرا بين قسمين :

                أحدهما : يعم ما سوى القسم الآخر ، فلا يخرج عنه شيء من الأقسام ، فيقول : إن أردت بقولك كذا ، فهو مسلم ، وإن أردت غيره ، فممنوع ، لأن لفظ : غيره ، يتناول ما عدا القسم المصرح به .

                مثاله : أن يقول : هذا العدد إما مساو أو غير مساو فيتناول غير المساوي والأقل والأكثر ، فتنحصر الأقسام ، ويقول : ما تعني بقولك : مأمور به ، أنه واجب أو غيره ؟ ، وصحة صلاة الصبي فرضا أو غيره ؟ وتريد بالعقل : التجربة ، أو غيرها ؟ ومعنى قوله : " فهو محتمل مسلم " ، أي : إن أردت كذا ، فمحتمل تنزيل لفظك عليه ، ومسلم صلاحيته للعلية ، " والمطالبة متوجهة " ، أي : أنا أطالبك بالدليل على كونه علة ، إذ لا يلزم من صلاحيته للعلية كونه علة ، وإن أردت غير ذلك ، " فهو ممتنع ممنوع " ، أي : يمتنع ، ولا يصح حمل لفظك عليه ، وممنوع صلاحيته للعلية ، والله تعالى أعلم .




                الخدمات العلمية