[ ص: 379 ] المسألة الثالثة
الأمر بالمطلق لا يستلزم الأمر بالمقيد ، والدليل على ذلك أمور :
أحدها : أنه لو استلزم الأمر بالمقيد لانتفى أن يكون أمرا بالمطلق .
وقد فرضناه كذلك ، هذا خلف ، فإنه إذا قال الشارع : " أعتق رقبة " فمعناه أعتق ما يطلق عليه هذا الاسم من غير تعيين فلو كان يستلزم الأمر بالمقيد لكان معناه أعتق الرقبة المعينة الفلانية ، فلا يكون أمرا بمطلق ألبتة .
[ ص: 380 ] والثاني : أن الأمر من باب الثبوت ، وثبوت الأعم لا يستلزم ثبوت الأخص فالأمر بالأعم لا يستلزم الأمر بالأخص ، وهذا على اصطلاح بعض الأصوليين الذين اعتبروا الكليات الذهنية في الأمور الشرعية .
والثالث : أنه لو كان أمرا بالمقيد فإما أن يكون معينا ، أو غير معين ، فإن كان معينا لزم تكليف ما لا يطاق وقوعا ، فإنه لم يعين في النص وللزم أن يكون ذلك المعين بالنسبة إلى كل مأمور ، وهذا محال ، وإن كان غير معين فتكليف ما لا يطاق لازم أيضا ; لأنه أمر بمجهول والمجهول لا يتحصل به امتثال ؛ فالتكليف به محال ، وإذا ثبت أن الأمر لا يتعلق بالمقيد لزم أن لا يكون قصد الشارع متعلقا بالمقيد من حيث هو مقيد ، فلا يكون مقصودا له ; لأنا قد فرضنا أن قصده إيقاع المطلق فلو كان له قصد في إيقاع المقيد لم يكن
[ ص: 381 ] قصده إيقاع المطلق ، هذا خلف لا يمكن .
فإن قيل : هذا معارض بأمرين :
أحدهما : أنه لو كان الأمر بالمطلق من حيث هو مطلق لا يستلزم الأمر بالمقيد لكان التكليف به محالا أيضا ; لأن المطلق لا يوجد في الخارج ، وإنما هو موجود في الذهن ، والمكلف به يقتضي أن يوجد في الخارج ; إذ لا يقع به الامتثال إلا عند حصوله في الخارج ، وإذ ذاك يصير مقيدا لا مطلقا ، فلا يكون بإيقاعه ممتثلا والذهني لا يمكن إيقاعه في الخارج ، فلا يكون التكليف به تكليفا بما لا يطاق ، وهو ممتنع ، فلا بد أن يكون الأمر به مستلزما للأمر بالمقيد ، وحينئذ يمكن الأمتثال فوجب المصير إليه ، بل القول به .
والثاني : أن المقيد لو لم يقصد في الأمر بالمطلق لم يختلف الثواب باختلاف الأفراد الواقعة من المكلف ; لأنها من حيث الأمر بالمطلق على تساو ؛ فكان يكون الثواب على تساو أيضا ، وليس كذلك ، بل يقع الثواب على مقادير المقيدات المتضمنة لذلك المطلق فالمأمور بالعتق إذا أعتق أدون الرقاب كان له من الثواب بمقدار ذلك ، وإذا أعتق الأعلى كان ثوابه أعظم .
وقد
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337703سئل - عليه الصلاة والسلام - عن أفضل الرقاب فقال : أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها .
[ ص: 382 ] وأمر بالمغالاة في أثمان القربات كالضحايا ، وبإكمال الصلاة وغيرها من العبادات حتى يكون الأمر فيها أعظم ، ولا خلاف في أن قصد الأعلى في أفراد المطلقات المأمور بها أفضل ، وأكثر ثوابا من غيره ، فإذا كان التفاوت في أفراد المطلقات موجبا للتفاوت في الدرجات ؛ لزم من ذلك كون المقيدات مقصودة للشارع ، وإن حصل الأمر بالمطلقات .
[ ص: 383 ] فالجواب عن الأول أن التكليف بالمطلق عند العرب ليس معناه التكليف بأمر ذهني ، بل معناه التكليف بفرد من الأفراد الموجودة في الخارج ، أو التي يصح وجودها في الخارج مطابقا لمعنى اللفظ [ بحيث ] لو أطلق عليه اللفظ صدق ، وهو الاسم النكرة عند العرب ، فإذا قال : " أعتق رقبة " فالمراد طلب إيقاع العتق بفرد مما يصدق عليه لفظ الرقبة فإنها لم تضع لفظ الرقبة إلا على فرد من الأفراد غير مختص بواحد من الجنس ، هذا هو الذي تعرفه العرب والحاصل أن الأمر به أمر بواحد كما في الخارج ، وللمكلف اختياره في الأفراد الخارجية .
وعن الثاني : أن ذلك التفاوت الذي التفت إليه الشارع إما أن يكون القصد إليه مفهوما من نفس الأمر بالمطلق ، أو من دليل خارجي والأول ممنوع لما تقدم من الأدلة ولذلك لم يقع التفاوت في الوجوب ، أو الندب الذي اقتضاه الأمر بالمطلق ، وإنما وقع التفاوت في أمر آخر خارج عن مقتضى مفهوم
[ ص: 384 ] [ المطلق ] ، وهذا صحيح .
والثاني : مسلم ؛ فإن التفاوت إنما فهم من دليل خارجي كالأدلة الدالة على أن أفضل الرقاب أعلاها ، وأن الصلاة المشتملة على جميع آدابها المطلوبة أفضل من التي نقص منها بعض ذلك ، وكذا سائر المسائل فمن هنالك كان مقصود الشارع ؛ ولذلك كان ندبا لا وجوبا ، وإن كان الأصل واجبا ; لأنه زائد على مفهومه ، فإذا القصد إلى تفضيل بعض الأفراد على بعض يستلزم القصد إلى الأفراد وليس ذلك من جهة الأمر بالمطلق ، بل [ بدليل من ] خارج ؛ فثبت أن القصد إلى المطلق من حيث هو مطلق لا يستلزم القصد إلى المقيد من حيث هو مقيد .
بخلاف الواجب المخير ، فإن أنواعه مقصودة للشارع بالإذن ، فإذا أعتق المكلف رقبة ، أو ضحى بأضحية ، أو صلى صلاة ، ومثلها موافق للمطلق فله أجر ذلك من حيث هو داخل تحت المطلق ؛ إلا أن يكون ثم فضل زائد فيثاب عليه بمقتضى الندب الخارجي ، وهو مطلق أيضا ، وإذا كفر بعتق فله أجر العتق ، أو أطعم فأجر الإطعام ، أو كسا فأجر الكسوة بحسب ما فعل ، لا لأن له أجر كفارة اليمين فقط من غير تقييد بما كفر [ به ] ، فإن تعيين الشارع المخير فيه يقتضي قصده إلى ذلك دون غيره ، وعدم تعيينه في المطلقات يقتضي عدم قصده إلى ذلك .
وقد اندرج هنا أصل آخر ، وهي .