الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              [ ص: 374 ] المسألة الثانية

              الأمر بالمطلقات يستلزم قصد الشارع إلى إيقاعها كما أن النهي يستلزم قصده لترك إيقاعها .

              وذلك أن معنى الأمر والنهي اقتضاء الفعل واقتضاء الترك ، ومعنى الاقتضاء الطلب والطلب يستلزم مطلوبا والقصد لإيقاع ذلك المطلوب ولا معنى للطلب إلا هذا .

              ووجه ثان أنه لو تصور طلب لا يستلزم القصد لإيقاع المطلوب لأمكن أن يرد أمر مع القصد لعدم إيقاع المأمور به ، وأن يرد نهي مع القصد لإيقاع المنهي عنه ، وبذلك لا يكون الأمر أمرا ولا النهي نهيا ، هذا خلف ، ولصح انقلاب الأمر نهيا ، وبالعكس ولأمكن أن يوجد أمر أو نهي من غير قصد إلى إيقاع فعل ، أو عدمه فيكون المأمور به ، أو المنهي عنه مباحا ، أو مسكوتا عن [ ص: 375 ] حكمه ، وهذا كله محال .

              والثالث أن الأمر والنهي من غير قصد إلى إيقاع المأمور به ، وترك المنهي عنه هو كلام الساهي والنائم والمجنون ، وذلك ليس بأمر ولا نهي باتفاق والأمر في هذا أوضح من أن يستدل عليه .

              فإن قيل : هذا مشكل من أوجه .

              أحدها : أنه يلزم على هذا أن يكون التكليف بما لا يطاق مقصودا إلى إيقاعه ، فإن المحققين اتفقوا على جواز ذلك ، وإن لم يقع ، فإن جوازه يستلزم صحة القصد إلى إيقاعه ، والقصد إلى إيقاع ما لا يمكن إيقاعه عبث ؛ فيلزم أن يكون القصد إلى الأمر بما لا يطاق عبثا ، وتجويز العبث على الله محال ؛ فكل ما يلزم عنه محال ، وذلك استلزام القصد إلى الإيقاع بخلاف ما إذا قلنا إن الأمر لا يستلزم القصد إلى الإيقاع ، فإنه لا يلزم منه محظور عقلي فوجب القول به .

              [ ص: 376 ] والثاني : أن مثل هذا يلزم في السيد إذا أمر عبده بحضرة ملك قد توعد السيد على ضرب عبده زاعما أنه لا يطيعه ، وطلب تمهيد عذره بمشاهدة الملك ، فإنه يأمر العبد ، وهو غير قاصد لإيقاع المأمور به ; لأن القصد هنا يستلزم قصده لإهلاك نفسه ، وذلك لا يصدر من العقلاء فلم يصح أن يكون قاصدا وهو آمر ، وإذا لم يصح لم يلزم أن يكون كل آمر قاصدا للمأمور به ، وكذلك النهي حرفا بحرف ، وهو المطلوب .

              والثالث : أن هذا لازم في أمر التعجيز نحو فليمدد بسبب إلى السماء [ الحج : 15 ] ، وفي أمر التهديد نحو اعملوا ما شئتم [ فصلت : 40 ] ، وما أشبه ذلك ; إذ معلوم أن المعجز والمهدد غير قاصد لإيقاع المأمور به في تلك الصيغة .

              فالجواب عن الأول أن القصد إلى إيقاع ما لا يطاق لا بد منه ولا يلزم من القصد إلى ذلك حصوله ; إذ القصد إلى الأمر بالشيء لا يستلزم إرادة الشيء إلا على قول من يقول : إن الأمر إرادة الفعل ، وهو رأي المعتزلة .

              [ ص: 377 ] وأما الأشاعرة فالأمر عندهم غير مستلزم للإرادة ، وإلا وقعت المأمورات كلها ، وأيضا لو فرض في تكليف ما لا يطاق عدم القصد إلى إيقاعه لم يكن تكليف ما لا يطاق ; لأن حقيقته إلزام فعل ما لا يقدر على فعله ، وإلزام الفعل هو القصد إلى أن يفعل ، أو لازم القصد إلى أن يفعل ، فإذا علم ذلك ، فلا تكليف به فهو طلب للتحصيل لا طلب للحصول ، وبينهما فرق واضح .

              وهكذا القول في جميع الأسئلة ، فإن السيد إذا أمر عبده ، فقد طلب منه أن يحصل ما أمر به ولم يطلب حصول ما أمره به ، وفرق بين طلب التحصيل وطلب الحصول .

              [ ص: 378 ] وأما أمر التعجيز والتهديد فليس في الحقيقة بأمر ، وإن قيل : أنه أمر بالمجاز فعلى ما تقدم ; إذ الأمر ، وإن كان مجازيا فيستلزم قصدا به يكون أمرا فيتصور وجه المجاز ، وإلا فلا يكون أمرا دون قصد إلى إيقاع المأمور به بوجه .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية