[ ص: 208 ] المسألة الثامنة
من الناس
من زعم أن للقرآن ظاهرا وباطنا ، وربما نقلوا في ذلك بعض الأحاديث والآثار ; فعن
الحسن مما أرسله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
ما أنزل الله آية إلا ولها ظهر وبطن بمعنى ظاهر وباطن ، وكل حرف حد ، وكل حد مطلع .
وفسر بأن الظهر والظاهر هو ظاهر التلاوة ، والباطن هو الفهم عن الله لمراده ; لأن الله تعالى قال :
فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا [ النساء : 78 ] والمعنى : لا يفهمون عن الله مراده من الخطاب ، ولم يرد أنهم لا يفهمون نفس الكلام ، كيف وهو منزل بلسانهم ؟ ولكن لم يحظوا بفهم مراد الله من الكلام ، وكأن هذا هو معنى ما روي عن
علي أنه سئل : هل عندكم كتاب ؟
[ ص: 209 ] فقال : لا إلا كتاب الله ، أو فهم أعطيه رجل مسلم ، أو ما في هذه الصحيفة الحديث ، وإليه يرجع تفسير
الحسن للحديث ; إذ قال : الظهر هو الظاهر والباطن هو السر .
وقال تعالى :
أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا [ النساء : 82 ] فظاهر المعنى شيء ، وهم عارفون به ; لأنهم عرب والمراد شيء آخر ، وهو الذي لا شك فيه أنه من عند الله ، وإذا حصل التدبر لم يوجد في القرآن اختلاف ألبتة ; فهذا الوجه الذي من جهته يفهم الاتفاق وينزاح الاختلاف هو الباطن المشار إليه ، ولما قالوا في الحسنة :
هذه من عند الله [ النساء : 78 ] وفي السيئة : هذا من عند رسول الله ، بين لهم أن كلا من عند الله وأنهم لا يفقهون حديثا ، ولكن بين الوجه الذي يتنزل عليه أن كلا من عند الله بقوله :
ما أصابك من حسنة فمن الله الآية [ النساء : 79 ] . وقال تعالى :
أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها [ محمد : 24 ] فالتدبر إنما يكون لمن التفت إلى المقاصد ، وذلك ظاهر في أنهم أعرضوا عن مقاصد القرآن ; فلم يحصل منهم تدبر ، قال بعضهم الكلام في القرآن على ضربين :
[ ص: 210 ] أحدهما : يكون برواية فليس يعتبر فيها إلا النقل والآخر : يقع بفهم فليس يكون إلا بلسان من الحق إظهار حكمة على لسان العبد وهذا الكلام يشير إلى معنى كلام
علي .
وحاصل هذا الكلام أن المراد بالظاهر هو المفهوم العربي ، والباطن هو مراد الله تعالى من كلامه وخطابه ، فإن كان مراد من أطلق هذه العبارة ما فسر ; فصحيح ولا نزاع فيه ، وإن أرادوا غير ذلك ; فهو إثبات أمر زائد على ما كان معلوما عند الصحابة ومن بعدهم ; فلابد من دليل قطعي يثبت هذه الدعوى لأنها أصل يحكم به على تفسير الكتاب ، فلا يكون ظنيا ، وما استدل به إنما غايته إذا صح سنده أن ينتظم في سلك المراسيل ، وإذا تقرر هذا ; فلنرجع إلى بيانهما على التفسير المذكور بحول الله .
وله أمثلة تبين معناه بإطلاق ; فعن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس قال : كان
عمر يدخلني مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال له
nindex.php?page=showalam&ids=38عبد الرحمن بن عوف : أتدخله ولنا بنون مثله ؟ فقال له
عمر : إنه من حيث تعلم فسألني عن هذه الآية :
إذا جاء نصر الله والفتح [ النصر : 1 ] فقلت : إنما هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه إياه ، وقرأ
[ ص: 211 ] السورة إلى آخرها فقال
عمر : والله ما أعلم منها إلا ما تعلم ، فظاهر هذه السورة أن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسبح بحمد ربه ويستغفره إذا نصره الله وفتح عليه ، وباطنها أن الله نعى إليه نفسه .
ولما نزل قوله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم الآية [ المائدة : 3 ] فرح الصحابة وبكى عمر ، وقال : ما بعد الكمال إلا النقصان مستشعرا نعيه عليه الصلاة والسلام ، فما عاش بعدها إلا إحدى وثمانين يوما [ ص: 212 ] وقال تعالى :
مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا الآية [ العنكبوت : 41 ] قال الكفار : ما بال العنكبوت والذباب يذكر في القرآن ؟ ما هذا الإله ; فنزل
إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها [ البقرة : 26 ] فأخذوا بمجرد الظاهر ، ولم ينظروا في المراد فقال تعالى :
فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم الآية [ البقرة : 26 ] ويشبه ما نحن فيه نظر الكفار للدنيا ، واعتدادهم منها بمجرد الظاهر الذي هو لهو ولعب وظل زائل ، وترك ما هو مقصود منها ، وهو كونها مجازا ومعبرا لا محل سكنى ، وهذا هو باطنها على ما تقدم من التفسير .
ولما قال تعالى :
عليها تسعة عشر [ المدثر : 30 ] نظر الكفار إلى ظاهر العدد ; فقال
أبو جهل فيما روي لا يعجز كل عشرة منكم أن
[ ص: 213 ] يبطشوا برجل منهم فبين الله تعالى باطن الأمر بقوله :
وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة إلى قوله :
وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا [ المدثر : 31 ] وقال :
يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل [ المنافقون : 8 ] فنظروا إلى ظاهر الحياة الدنيا وقال تعالى :
ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين [ المنافقون : 8 ] وقال تعالى :
ومن الناس من يشتري لهو الحديث الآية [ لقمان : 6 ] لما نزل القرآن الذي هو هدى للناس ورحمة للمحسنين ، ناظره الكافر
النضر بن الحارث بأخبار
فارس والجاهلية وبالغناء فهذا هو عدم الاعتبار لباطن ما أنزل الله .
وقال تعالى في المنافقين :
لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله [ الحشر : 13 ] ،
[ ص: 214 ] وهذا عدم فقه منهم ; لأن من علم أن الله هو الذي بيده ملكوت كل شيء ، وأنه هو مصرف الأمور ; فهو الفقيه ، ولذلك قال تعالى :
ذلك بأنهم قوم لا يفقهون [ الحشر : 13 ] وكذلك قوله تعالى :
صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون [ التوبة : 127 ] لأنهم نظر بعضهم إلى بعض : هل يراكم من أحد ؟ ثم انصرفوا فاعلم أن الله تعالى إذا نفى الفقه أو العلم عن قوم ; فذلك لوقوفهم مع ظاهر الأمر ، وعدم اعتبارهم للمراد منه ، وإذا أثبت ذلك ; فهو لفهمهم مراد الله من خطابه ، وهو باطنه .