الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              فصل

              فكل ما كان من المعاني العربية التي لا ينبني فهم القرآن إلا عليها ; فهو داخل تحت الظاهر .

              فالمسائل البيانية والمنازع البلاغية لا معدل بها عن ظاهر القرآن ، فإذا فهم الفرق بين ضيق في قوله تعالى : يجعل صدره ضيقا حرجا [ الأنعام : 125 ] وبين ضائق في قوله : وضائق به صدرك [ هود : 12 ] [ ص: 215 ] والفرق بين النداء ب يا أيها الذين آمنوا أو يا أيها الذين كفروا وبين النداء ب يا أيها الناس أو ب يا بني آدم والفرق بين ترك العطف في قوله : إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم [ البقرة : 6 ] والعطف في قوله : ومن الناس من يشتري لهو الحديث [ لقمان : 6 ] وكلاهما قد تقدم عليه وصف المؤمنين والفرق بين تركه أيضا في قوله : ما أنت إلا بشر مثلنا [ الشعراء : 154 ] وبين الآية الأخرى : وما أنت إلا بشر مثلنا [ الشعراء : 186 ] [ ص: 216 ] والفرق بين الرفع في قوله : قال سلام [ هود : 69 ] والنصب فيما قبله من قوله قالوا سلاما [ هود : 069 ] والفرق بين الإتيان بالفعل في التذكر من قوله : إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا [ الأعراف : 201 ] وبين الإتيان باسم الفاعل في الإبصار من قوله : فإذا هم مبصرون [ الأعراف : 201 ] أو فهم الفرق بين إذا وإن في قوله تعالى : فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه [ الأعراف : 131 ] وبين جاءتهم وتصبهم بالماضي مع إذا والمستقبل مع إن [ ص: 217 ] وكذلك قوله وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون [ الروم : 36 ] مع إتيانه بقوله : فرحوا بعد إذا ويقنطون بعد إن ، وأشباه ذلك من الأمور المعتبرة عند متأخري أهل البيان ، فإذا حصل فهم ذلك كله على ترتيبه في اللسان العربي ; فقد حصل فهم ظاهر القرآن .

              ومن هنا حصل إعجاز القرآن عند القائلين بأن إعجازه بالفصاحة ; فقال الله تعالى : وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله الآية [ البقرة : 23 ] . وقال تعالى : أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله [ هود : 13 ] وهو لائق أن يكون الإعجاز بالفصاحة لا بغيرها ; إذ لم يؤتوا على هذا التقدير إلا من باب ما يستطيعون مثله في الجملة ، ولأنهم دعوا وقلوبهم لاهية عن معناه الباطن الذي هو مراد الله من إنزاله ، فإذا عرفوا عجزهم عنه ; عرفوا صدق الآتي به وحصل الإذعان وهو باب التوفيق والفهم لمراد الله تعالى [ ص: 218 ] وكل ما كان من المعاني التي تقتضي تحقيق المخاطب بوصف العبودية ، والإقرار لله بالربوبية ، فذلك هو الباطن المراد والمقصود الذي أنزل القرآن لأجله .

              ويتبين ذلك بالشواهد المذكورة آنفا ، ومن ذلك أنه لما نزل : من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة [ البقرة : 245 ] قال أبو الدحداح : إن الله كريم استقرض منا ما أعطانا هذا معنى الحديث وقالت اليهود : إن الله فقير ونحن أغنياء [ آل عمران : 181 ] ففهم أبي الدحداح هو الفقه ، وهو الباطن المراد ، وفي رواية : قال أبو الدحداح : يستقرضنا وهو غني ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : نعم ليدخلكم الجنة ، وفي الحديث قصة ، وفهم اليهود لم يزد على مجرد القول العربي الظاهر ، ثم حمل استقراض الرب الغني على استقراض العبد الفقير ، عافانا الله من ذلك .

              [ ص: 219 ] [ ص: 220 ] ومن ذلك أن العبادات المأمور بها بل المأمورات والمنهيات كلها إنما طلب بها العبد شكرا لما أنعم الله به عليه ألا ترى قوله : وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون [ النحل : 78 ] وفي الأخرى : قليلا ما تشكرون [ السجدة : 9 ] والشكر ضد الكفر ; فالإيمان وفروعه هو الشكر ، فإذا دخل المكلف تحت أعباء التكليف بهذا القصد ; فهو الذي فهم المراد من الخطاب ، وحصل باطنه على التمام ، وإن هو فهم من ذلك مقتضى عصمة ماله ودمه فقط ; فهذا خارج عن المقصود ، وواقف مع ظاهر الخطاب ; فإن الله قال : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد [ التوبة : 5 ] ثم قال : فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم [ التوبة : 5 ] فالمنافق إنما فهم مجرد ظاهر الأمر من أن الدخول فيما دخل فيه [ ص: 221 ] المسلمون موجب لتخلية سبيلهم فعملوا على الإحراز من عوادي الدنيا ، وتركوا المقصود من ذلك ، وهو الذي بينه القرآن من التعبد لله والوقوف على قدم الخدمة ، فإذا كانت الصلاة تشعر بإلزام الشكر بالخضوع لله والتعظيم لأمره ; فمن دخلها عريا من ذلك كيف يعد ممن فهم باطن القرآن ؟ وكذلك إذا كان له مال حال عليه الحول ; فوجب عليه شكر النعمة ببذل اليسير من الكثير ، عودا عليه بالمزيد ; فوهبه عند رأس الحول فرارا من أدائها لا قصد له إلا ذلك ، كيف يكون شاكرا للنعمة ؟ وكذلك من يضار الزوجة لتنفك له من المهر على غير طيب النفس لا يعد عاملا بقوله تعالى فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به [ البقرة : 229 ] حتى يجري على معنى قوله تعالى : فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا [ النساء : 4 ] وتجري هاهنا مسائل الحيل أمثلة لهذا المعنى ; لأن من فهم باطن ما خوطب به لم يحتل على أحكام الله حتى ينال منها بالتبديل والتغيير ، ومن وقف مع مجرد الظاهر غير ملتفت إلى المعنى المقصود ; اقتحم هذه المتاهات البعيدة .

              وكذلك تجري مسائل المبتدعة أمثلة أيضا ، وهم الذين يتبعون ما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ; كما قال الخوارج لعلي : إنه حكم [ ص: 222 ] الخلق في دين الله ، والله يقول : إن الحكم إلا لله [ الأنعام : 57 ، ويوسف : 40 ، 67 ] وقالوا : إنه محا نفسه من إمارة المؤمنين ; فهو إذا أمير الكافرين [ ص: 223 ] وقالوا لابن عباس : لا تناظروه ; فإنه ممن قال الله فيهم : بل هم قوم خصمون [ الزخرف : 58 ] وكما زعم أهل التشبيه في صفة الباري حين أخذوا بظاهر قوله : تجري بأعيننا [ القمر : 14 ] مما عملت أيدينا [ يس : 71 ] وهو السميع البصير [ الشورى : 11 ] والأرض جميعا قبضته يوم القيامة [ الزمر : 67 ] وحكموا مقتضاه بالقياس على المخلوقين ; فأسرفوا ما شاءوا فلو نظر الخوارج أن الله تعالى قد حكم الخلق في دينه في قوله : يحكم به ذوا عدل منكم [ المائدة : 95 ] وقوله : فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها [ النساء : 35 ] لعلموا أن قوله : إن الحكم إلا لله [ الأنعام : 57 ] غير مناف لما فعله علي ، وأنه من جملة حكم الله ; فإن تحكيم الرجال يرجع به الحكم لله وحده ، فكذلك ما كان مثله مما فعله علي .

              ولو نظروا إلى محو الاسم من أمر لا يقتضي إثباته لضده ; لما قالوا : إنه أمير الكافرين ، وهكذا المشبهة لو حققت معنى قوله : ليس كمثله شيء [ الشورى : 11 ] في الآيات المذكورة لفهموا بواطنها ، وأن الرب منزه عن سمات المخلوقين .

              وعلى الجملة ; فكل من زاغ ومال عن الصراط المستقيم ; فبمقدار ما فاته من باطن القرآن فهما وعلما ، وكل من أصاب الحق وصادف الصواب ; فعلى مقدار ما حصل له من فهم باطنه .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية