فصل
وربما استجاز هذا بعضهم في مواطن يدعي فيها الضرورة ، وإلجاء الحاجة ، بناء على أن
الضرورات تبيح المحظورات فيأخذ عند ذلك بما يوافق الغرض حتى إذا نزلت المسألة على حالة لا ضرورة فيها ، ولا حاجة إلى الأخذ بالقول المرجوح أو الخارج عن المذهب أخذ فيها بالقول المذهبي أو الراجح في المذهب; فهذا أيضا من ذلك الطراز المتقدم; فإن حاصله الأخذ بما يوافق الهوى الحاضر ، ومحال الضرورات معلومة من الشريعة; فإن كانت هذه المسألة
[ ص: 100 ] منها فصاحب المذهب قد تكفل ببيانها أخذا عن صاحب الشرع; فلا حاجة إلى الانتقال عنها ، وإن لم تكن منها فزعم الزاعم أنها منها خطأ فاحش ، ودعوى غير مقبولة .
وقد وقع في " نوازل
ابن رشد " من هذا مسألة نكاح المتعة .
ويذكر عن الإمام
المازري أنه سئل : ما تقول فيما اضطر الناس إليه في هذا الزمان - والضرورات تبيح المحظورات - من معاملة فقراء أهل البدو في سني الجدب; إذ يحتاجون إلى الطعام فيشترونه بالدين إلى الحصاد أو الجذاذ ، فإذا حل الأجل قالوا لغرمائهم : ما عندنا إلا الطعام; فربما صدقوا في ذلك; فيضطر أرباب الديون إلى أخذه منهم خوفا أن يذهب حقهم في أيديهم بأكل أو غيره لفقرهم ولاضطرار من كان من أرباب الديون حضريا إلى الرجوع إلى حاضرته ، ولا حكام بالبادية أيضا ، مع ما في المذهب في ذلك من الرخصة إن لم يكن هنالك شرط ولا عادة ، وإباحة كثير من فقهاء الأمصار لذلك وغيره من بيوع الآجال خلافا للقول بالذرائع .
[ ص: 101 ] فأجاب : إن أردت بما أشرت إليه إباحة أخذ طعام عن ثمن طعام هو جنس مخالف لما اقتضى; فهذا ممنوع في المذهب ، ولا رخصة فيه عند أهل المذهب كما توهمت .
قال : ولست ممن يحمل الناس على غير المعروف المشهور من مذهب
مالك وأصحابه; لأن الورع قل ، بل كاد يعدم ، والتحفظ على الديانات كذلك ، وكثرت الشهوات ، وكثر من يدعي العلم ويتجاسر على الفتوى فيه ، فلو فتح لهم باب في مخالفة المذهب; لاتسع الخرق على الراقع ، وهتكوا حجاب هيبة المذهب ، وهذا من المفسدات التي لا خفاء بها ، ولكن إذا لم يقدر على أخذ الثمن إلا أن يأخذ طعاما; فليأخذه منهم من يبيعه على ملك منفذه إلى الحاضرة ، ويقبض البائع الثمن ، ويفعل ذلك بإشهاد من غير تحيل على إظهار ما يجوز .
فانظر كيف لم يستجز - وهو المتفق على إمامته - الفتوى بغير مشهور المذهب ، ولا بغير ما يعرف منه بناء على قاعدة مصلحية ضرورية; إذ قل الورع والديانة من كثير ممن ينتصب لبث العلم والفتوى كما تقدم تمثيله ، فلو فتح لهم هذا الباب لانحلت عرى المذهب ، بل جميع المذاهب; لأن ما وجب
[ ص: 102 ] للشيء وجب لمثله ، وظهر أن تلك الضرورة التي ادعيت في السؤال ليست بضرورة .