[ ص: 59 ] المسألة الثالثة :
كما أنها في أصولها كذلك ، ولا يصلح فيها غير ذلك ، والدليل عليه أمور : الشريعة كلها ترجع إلى قول واحد في فروعها وإن كثر الخلاف ،
أحدها : أدلة القرآن ، من ذلك قوله تعالى ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا [ النساء : 82 ] فنفى أن يقع فيه الاختلاف البتة ، [ ص: 60 ] ولو كان فيه ما يقتضي قولين مختلفين لم يصدق عليه هذا الكلام على حال .
وفي القرآن : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول الآية [ النساء : 59 ] ، وهذه الآية صريحة في رفع التنازع والاختلاف; فإنه رد المتنازعين إلى الشريعة ، وليس ذلك إلا ليرتفع الاختلاف ، ولا يرتفع الاختلاف إلا بالرجوع إلا شيء واحد; إذ لو كان فيه ما يقتضي الاختلاف لم يكن في الرجوع إليه رفع تنازع ، وهذا باطل .
وقال تعالى : ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات الآية [ آل عمران : 105 ] ، والبينات هي الشريعة ، فلولا أنها لا تقتضي الاختلاف ، ولا تقبله البتة لما قيل لهم : من بعد كذا ، ولكان لهم فيها أبلغ العذر ، وهذا غير صحيح; فالشريعة لا اختلاف فيها .
وقال تعالى : وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله [ الأنعام : 153 ] فبين أن طريق الحق واحد ، وذلك عام في [ ص: 61 ] جملة الشريعة وتفاصيلها .
وقال تعالى : كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه [ البقرة : 213 ] ولا يكون حاكما بينهم إلا مع كونه قولا واحدا فصلا بين المختلفين .
وقال : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا . . . الآية إلى قوله ولا تتفرقوا فيه [ الشورى : 13 ] ثم ذكر بني إسرائيل وحذر الأمة أن يأخذوا بسنتهم فقال : وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم [ الشورى : 14 ] .
وقال تعالى : ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد [ البقرة : 176 ] .
والآيات في والأمر بالرجوع إلى الشريعة كثير كله قاطع في أنها لا اختلاف فيها ، وإنما هي على مأخذ واحد وقول واحد ، قال ذم الاختلاف المزني صاحب : ذم الله الاختلاف ، وأمر عنده بالرجوع إلى الكتاب والسنة ، فلو كان الاختلاف من دينه ما ذمه ، ولو كان التنازع من حكمه ما أمرهم بالرجوع عنده إلى الكتاب والسنة . الشافعي
والثاني : أن عامة أهل الشريعة أثبتوا في القرآن والسنة الناسخ [ ص: 62 ] والمنسوخ على الجملة ، وحذروا من الجهل به والخطأ فيه ، ومعلوم أن الناسخ والمنسوخ إنما هو فيما بين دليلين يتعارضان بحيث لا يصح اجتماعهما بحال ، وإلا لما كان أحدهما ناسخا والآخر منسوخا ، والفرض خلافه; فلو كان الاختلاف من الدين لما كان لإثبات الناسخ والمنسوخ - من غير نص قاطع فيه - فائدة ولكان الكلام في ذلك كلاما فيما لا يجني ثمرة ، إذ كان يصح العمل بكل واحد منهما ابتداء ودواما استنادا إلى أن الاختلاف أصل من أصول الدين ، لكن هذا كله باطل بإجماع; فدل على أن الاختلاف لا أصل له في الشريعة ، وهكذا القول في كل دليل مع معارضه كالعموم والخصوص ، والإطلاق والتقييد ، وما أشبه ذلك فكانت تنخرم هذه الأصول كلها ، وذلك فاسد; فما أدى إليه مثله .
والثالث أنه لأن الدليلين إذا فرضنا تعارضهما وفرضناهما مقصودين معا للشارع; فإما أن يقال : إن المكلف مطلوب بمقتضاهما أو لا ، أو مطلوب بأحدهما دون الآخر ، والجميع غير صحيح; فالأول يقتضي " افعل " ، " لا تفعل " لمكلف واحد [ ص: 63 ] من وجه واحد ، وهو عين التكليف بما لا يطاق ، والثاني باطل; لأنه خلاف الفرض ، وكذلك الثالث; إذ كان الفرض توجه الطلب بهما; فلم يبق إلا الأول فيلزم منه ما تقدم . لو كان في الشريعة مساغ للخلاف لأدى إلى تكليف ما لا يطاق;
لا يقال إن الدليلين بحسب شخصين أو حالين; لأنه خلاف الفرض ، وهو أيضا قول واحد لا قولان; لأنه إذا انصرف كل دليل إلى جهة لم يكن ثم اختلاف ، وهو المطلوب .
والرابع أن الأصوليين اتفقوا على وأنه لا يصح إعمال أحد دليلين متعارضين جزافا من غير [ ص: 64 ] نظر في ترجيحه على الآخر ، والقول بثبوت الخلاف في الشريعة يرفع باب الترجيح جملة; إذ لا فائدة فيه ، ولا حاجة إليه على فرض ثبوت الخلاف أصلا شرعيا لصحة وقوع التعارض في الشريعة لكن ذلك فاسد; فما أدى إليه مثله . إثبات الترجيح بين الأدلة المتعارضة إذا لم يمكن الجمع ،
والخامس : أنه شيء لا يتصور; لأن الدليلين المتعارضين إذا قصدهما الشارع مثلا لم يتحصل مقصوده; لأنه إذا قال في الشيء الواحد : " افعل " " لا تفعل " ; فلا يمكن أن يكون المفهوم منه طلب الفعل لقوله " لا تفعل " ، ولا طلب تركه لقوله " افعل " ، فلا يتحصل للمكلف فهم التكليف ، فلا يتصور توجهه على حال ، والأدلة على ذلك كثيرة لا يحتاج فيها إلى التطويل لفساد الاختلاف في الشريعة .
[ ص: 65 ] فإن قيل : إن كان ثم ما يدل على رفع الاختلاف فثم ما يقتضي وقوعه في الشريعة ، وقد وقع ، والدليل عليه أمور :
- منها : إنزال المتشابهات; فإنها مجال للاختلاف لتباين الأنظار ، واختلاف الآراء والمدارك ، هذا وإن كان التوقف فيها هو المحمود; فإن الاختلاف فيها قد وقع ، ووضع الشارع لها مقصود له ، وإذا كان مقصودا له ، وهو عالم بالمآلات; فقد جعل سبيلا إلى الاختلاف ، فلا يصح أن ينفى عن الشارع رفع مجال الاختلاف جملة .
- ومنها : الأمور الاجتهادية التي جعل الشارع فيها للاختلاف مجالا; فكثيرا ما تتوارد على المسألة الواحدة أدلة قياسية وغير قياسية ، بحيث يظهر بينها التعارض ، ومجال الاجتهاد مما قصده الشارع في وضع الشريعة حين شرع القياس ووضع الظواهر التي يختلف في أمثالها النظار ليجتهدوا فيثابوا على ذلك ، ولذلك نبه في الحديث على هذا المقصد بقوله عليه الصلاة والسلام : [ ص: 66 ] فهذا موضع آخر من وضع الخلاف بسبب وضع محاله . إذا اجتهد الحاكم فأخطأ; فله أجر ، وإن أصاب; فله أجران
- ومنها : أن العلماء الراسخين والأئمة المتقين اختلفوا : والجميع سوغوا هذا الاختلاف ، وهو دليل على أن له مساغا في الشريعة على الجملة . هل كل مجتهد مصيب ، أم المصيب واحد ؟
وأيضا فالقائلون بالتصويب معنى كلامهم أن كل قول صواب ، وأن الاختلاف حق ، وأنه غير منكر ، ولا محظور في الشريعة .
[ ص: 67 ] وأيضا فطائفة من العلماء جوزوا أن يأتي في الشريعة دليلان متعارضان وتجويز ذلك عندهم مستند إلى أصل شرعي في الاختلاف .
وطائفة أيضا رأوا أن حجة; فكل قول صحابي وإن عارضه قول صحابي آخر كل واحد منهما حجة ، وللمكلف في كل واحد منهما متمسك ، وقد نقل هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : " قول الصحابي أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " فأجاز جماعة الأخذ بقول من شاء منهم إذا اختلفوا .
وقال : لقد نفع الله باختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في أعمالهم ، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأى أنه في سعة ، ورأى أن خيرا منه قد عمله . القاسم بن محمد
وعنه أيضا : " أي ذلك أخذت به لم يكن في نفسك منه شيء " [ ص: 68 ] ومثل معناه مروي عن قال : ما يسرني أن لي باختلافهم حمر النعم ، قال عمر بن عبد العزيز ، القاسم : " لقد أعجبني قول : ما أحب أن أصحاب رسول الله لم يختلفوا; لأنه لو كان قولا واحدا كان الناس في ضيق ، وإنهم أئمة يقتدى بهم; فلو أخذ أحد بقول رجل منهم كان في سعة . عمر بن عبد العزيز
وقال بمثل ذلك جماعة من العلماء .
وأيضا; فإن أقوال العلماء بالنسبة إلى العامة كالأدلة بالنسبة إلى المجتهدين ، ويجوز لكل واحد على قول جماعة أن يقلد من العلماء من شاء ، وهو من ذلك في سعة ، وقد قال ابن الطيب وغيره في ; فله [ ص: 69 ] الخيرة في العمل بأيها شاء; لأنهما صارا بالنسبة إليه كخصال الكفارة ، والاختلاف عند العلماء لا ينشأ إلا من تعارض الأدلة; فقد ثبت إذا في الشريعة تعارض الأدلة; إلا أن ما تقدم من الأدلة على منع الاختلاف يحمل على الاختلاف في أصل الدين لا في فروعه ، بدليل وقوعه في الفروع من لدن زمان الصحابة إلى زماننا . الأدلة إذا تعارضت على المجتهد واقتضى كل واحد ضد حكم الآخر ولم يكن ثم ترجيح
فالجواب : أن هذه القواعد المعترض بها يجب أن يحقق النظر فيها بحسب هذه المسألة; فإنها من المواضع المخيلة .
أما مسألة المتشابهات; فلا يصح أن يدعى فيها أنها موضوعة في الشريعة قصد الاختلاف شرعا; لأن هذا قد تقدم في الأدلة السابقة ما يدل على فساده ، وكونها قد وضعت ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة [ الأنفال : 42 ] لا نظر فيه; فقد قال تعالى : ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم [ هود : 118 ] [ ص: 70 ] ففرق بين الوضع القدري الذي لا حجة فيه للعبد - وهو الموضوع على وفق الإرادة التي لا مرد لها - وبين الوضع الشرعي الذي لا يستلزم وفق الإرادة ، وقد قال تعالى : هدى للمتقين [ البقرة : 2 ] وقال : يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا [ البقرة : 26 ] ومر بيانه في كتاب الأوامر; فمسألة المتشابهات من الثاني لا من [ ص: 71 ] الأول ، وإذا كان كذلك لم يدل على وضع الاختلاف شرعا ، بل وضعها للابتلاء فيعمل الراسخون على وفق ما أخبر الله عنهم ، ويقع الزائغون في اتباع أهوائهم ، ومعلوم أن الراسخين هم المصيبون ، وإنما أخبر عنهم أنهم على مذهب واحد في الإيمان بالمتشابهات علموها أو لم يعلموها ، وأن الزائغين هم المخطئون; فليس في المسألة إلا أمر واحد لا أمران ، ولا ثلاثة ، فإذا لم يكن إنزال المتشابه علما للاختلاف ، ولا أصلا فيه .
وأيضا لو كان كذلك لم ينقسم المختلفون فيه إلى مصيب ومخطئ ، بل كان يكون الجميع مصيبين; لأنهم لم يخرجوا عن قصد الواضع للشريعة; لأنه قد تقدم أن الإصابة إنما هي بموافقة قصد الشارع ، وأن الخطأ بمخالفته ، فلما كانوا منقسمين إلى مصيب ومخطئ دل على أن الموضع ليس بموضع اختلاف شرعا .
وأما مواضع الاجتهاد فهي راجعة إلى نمط التشابه; لأنها دائرة بين [ ص: 72 ] طرفي نفي وإثبات شرعيين; فقد يخفى هنالك وجه الصواب من وجه الخطأ .
وعلى كل تقدير إن قيل بأن المصيب واحد; فقد شهد أرباب هذا القول بأن الموضع ليس مجال الاختلاف ، ولا هو حجة من حجج الاختلاف ، بل هو مجال استفراغ الوسع ، وإبلاغ الجهد في طلب مقصد الشارع المتحد; فهذه الطائفة على وفق الأدلة المقررة أولا ، وإن قيل : إن الكل مصيبون; فليس على الإطلاق ، بل بالنسبة إلى كل مجتهد أو من قلده لاتفاقهم على أن كل مجتهد لا يجوز له الرجوع عما أداه إليه اجتهاده ، ولا الفتوى إلا به; لأن الإصابة [ ص: 73 ] عندهم إضافية لا حقيقية ، فلو كان الاختلاف سائغا على الإطلاق; لكان فيه حجة ، وليس كذلك .
فالحاصل أنه لا يسوغ على هذا الرأي إلا قول واحد ، غير أنه إضافي; فلم يثبت به اختلاف مقرر على حال ، وإنما الجميع محومون على قول واحد هو قصد الشارع عند المجتهد ، لا قولان مقرران; فلم يظهر إذا من قصد الشارع وضع أصل للاختلاف ، بل وضع موضع للاجتهاد في التحويم على إصابة قصد الشارع الذي هو واحد ومن هناك لا تجد مجتهدا يثبت لنفسه قولين معا أصلا ، وإنما يثبت قولا واحدا وينفي ما عداه .
وقد مر جواب مسألة التصويب والتخطئة .
وأما تجويز أن يأتي دليلان متعارضان; فإن أراد الذاهبون إلى ذلك التعارض في الظاهر ، وفي أنظار المجتهدين لا في نفس الأمر فالأمر على ما قالوه جائز ولكن لا يقضي ذلك بجواز التعارض في أدلة الشريعة ، وإن أرادوا تجويز [ ص: 74 ] ذلك في نفس الأمر; فهذا لا ينتحله من يفهم الشريعة لورود ما تقدم من الأدلة عليه ، ولا أظن أن أحدا منهم يقوله .
وأما مسألة ، فلا دليل فيه لأمرين : قول الصحابي
أحدهما : أن ذلك من قبيل الظنيات إن سلم صحة الحديث ، على أنه مطعون في سنده ، ومسألتنا قطعية ، ولا يعارض الظن القطع .
والثاني على تسليم ذلك فالمراد أنه حجة على انفراد كل واحد منهم أي أن من استند إلى قول أحدهم; فمصيب من حيث قلد أحد المجتهدين ، لا أن كل واحد منهم حجة في نفس الأمر بالنسبة إلى كل واحد; [ ص: 75 ] فإن هذا مناقض لما تقدم .
وأما قول من قال : إن اختلافهم رحمة وسعة; فقد روى ابن وهب عن مالك أنه قال : ليس في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سعة ، وإنما الحق في واحد ، قيل له : فمن يقول إن كل مجتهد مصيب ؟ فقال : هذا لا يكون ( هكذا لا يكون ) قولان مختلفين صوابين .
ولو سلم; فيحتمل أن يكون من جهة فتح باب الاجتهاد ، وأن مسائل الاجتهاد قد جعل الله فيها سعة بتوسعة مجال الاجتهاد لا غير ذلك ، قال القاضي إسماعيل : إنما التوسعة في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم توسعة في اجتهاد الرأي ، فأما أن يكون توسعة أن يقول الإنسان بقول واحد منهم من غير أن يكون الحق عنده فيه فلا ، ولكن اختلافهم يدل على أنهم اجتهدوا فاختلفوا ، قال : كلام ابن عبد البر إسماعيل هذا حسن جدا .
وأيضا; فإن قول من قال : إن ، يوافق ما تقدم ، وذلك [ ص: 76 ] لأنه قد ثبت أن الشريعة لا اختلاف فيها ، وإنما جاءت حاكمة بين المختلفين ، وقد ذمت المختلفين فيها ، وفي غيرها من متعلقات الدين; فكان ذلك عندهم عاما في الأصول والفروع ، حسبما اقتضته الظواهر المتضافرة والأدلة القاطعة ، فلما جاءتهم مواضع الاشتباه وكلوا ما لم يتعلق به عمل إلى عالمه على مقتضى قوله : اختلافهم رحمة والراسخون في العلم يقولون آمنا به [ آل عمران : 7 ] ولم يكن لهم بد من النظر في متعلقات الأعمال; لأن الشريعة قد كملت ، فلا يمكن خلو الوقائع عن أحكام الشريعة فتحروا أقرب الوجوه عندهم إلى أنه المقصود الشرعي ، والفطر والأنظار تختلف; فوقع الاختلاف من هنا لا من جهة أنه من مقصود الشارع ، فلو فرض أن الصحابة لم ينظروا في هذه المشتبهات الفرعية ولم يتكلموا فيها - وهم القدوة في فهم الشريعة والجري على مقاصدها - لم يكن لمن بعدهم أن يفتح ذلك الباب للأدلة الدالة على ذم الاختلاف ، وأن الشريعة لا اختلاف فيها ، ومواضع الاشتباه مظان الاختلاف في إصابة الحق فيها; فكان المجال يضيق على من بعد الصحابة; فلما اجتهدوا ونشأ من اجتهادهم في تحري الصواب الاختلاف سهل على من بعدهم سلوك الطريق; فلذلك والله أعلم قال : وما يسرني أن لي باختلافهم حمر النعم . وقال : ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا . عمر بن عبد العزيز
وأما فكذلك أيضا لا فرق بين مصادفة المجتهد الدليل ، ومصادفة العامي المفتي; فتعارض الفتويين عليه كتعارض الدليلين على المجتهد ، فكما أن المجتهد لا يجوز في حقه اتباع الدليلين معا ، ولا اتباع أحدهما من غير اجتهاد ، ولا ترجيح ، كذلك لا يجوز [ ص: 77 ] للعامي اتباع المفتيين معا ، ولا أحدهما من غير اجتهاد ولا ترجيح . اختلاف العلماء بالنسبة إلى المقلدين
وقول من قال : إذا تعارضا عليه تخير ، غير صحيح من وجهين :
أحدهما : أن هذا قول بجواز تعارض الدليل في نفس الأمر ، وقد مر ما فيه آنفا .
والثاني : ما تقدم من الأصل الشرعي ، وهو أن فائدة وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه ، وتخييره بين القولين نقض لذلك الأصل ، وهو غير جائز; فإن الشريعة قد ثبت أنها تشتمل على مصلحة جزئية في كل مسألة وعلى مصلحة كلية في الجملة ، أما الجزئية فما يعرب عنها دليل كل حكم وحكمته [ ص: 78 ] وأما الكلية فهي أن يكون المكلف داخلا تحت قانون معين من تكاليف الشرع في جميع تصرفاته; اعتقادا ، وقولا ، وعملا; فلا يكون متبعا لهواه كالبهيمة المسيبة حتى يرتاض بلجام الشرع ، ومتى خيرنا المقلدين في مذاهب الأئمة لينتقوا منها أطيبها عندهم لم يبق لهم مرجع إلا اتباع الشهوات في الاختيار ، وهذا مناقض لمقصد وضع الشريعة ، فلا يصح القول بالتخيير على حال ، وانظر في الكتاب " المستظهري " فثبت أنه لا اختلاف في أصل الشريعة ، ولا هي موضوعة على كون وجود الخلاف فيها أصلا يرجع إليه مقصودا من الشارع ، بل ذلك الخلاف راجع إلى أنظار المكلفين ، وإلى ما يتعلق بهم من الابتلاء ، وصح أن نفي الاختلاف في الشريعة ، وذمه على الإطلاق والعموم في أصولها وفروعها; إذ لو صح فيها وضع فرع واحد على قصد الاختلاف; لصح فيها وجود الاختلاف على الإطلاق; لأنه إذا صح اختلاف ما صح كل الاختلاف ، وذلك معلوم البطلان; فما أدى إليه مثله . للغزالي;
[ ص: 79 ] فصل
وعلى هذا الأصل ينبني قواعد ، منها أنه كما إذا اختلف المجتهدون على قولين; فوردت كذلك على المقلد; فقد يعد بعض الناس القولين بالنسبة إليه مخيرا فيهما كما يخير في خصال الكفارة; فيتبع هواه ، وما يوافق غرضه دون ما يخالفه ، وربما استظهر على ذلك بكلام بعض المفتين المتأخرين ، وقواه بما روي من قوله عليه الصلاة والسلام : " ليس للمقلد أن يتخير في [ ص: 80 ] [ ص: 81 ] الخلاف أصحابي كالنجوم " وقد مر الجواب عنه ، وإن صح; فهو معمول به فيما إذا ذهب المقلد عفوا فاستفتى صحابيا أو غيره فقلده فيما أفتاه به فيما له أو عليه ، وأما إذا تعارض عنده قولا مفتيين; فالحق أن يقال : ليس بداخل تحت ظاهر الحديث; لأن كل واحد منهما متبع لدليل عنده يقتضي ضد ما يقتضيه دليل صاحبه; فهما صاحبا دليلين متضادين ، فاتباع أحدهما بالهوى اتباع للهوى ، وقد مر ما فيه; فليس إلا الترجيح بالأعلمية وغيرها .
وأيضا; فالمجتهدان بالنسبة إلى العامي كالدليلين بالنسبة إلى المجتهد ، فكما يجب على المجتهد الترجيح أو التوقف كذلك المقلد ، ولو جاز تحكيم التشهي والأغراض في مثل هذا; لجاز للحاكم ، وهو باطل بالإجماع .
وأيضا; فإن في مسائل الخلاف ضابطا قرآنيا ينفي اتباع الهوى جملة ، [ ص: 82 ] وهو قوله تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول [ النساء : 59 ] ، وهذا المقلد قد تنازع في مسألته مجتهدان; فوجب ردها إلى الله والرسول ، وهو الرجوع إلى الأدلة الشرعية ، وهو أبعد من متابعة الهوى والشهوة; فاختياره أحد المذهبين بالهوى والشهوة مضاد للرجوع إلى الله والرسول ، وهذه الآية نزلت على سبب فيمن اتبع هواه بالرجوع إلى حكم الطاغوت ، ولذلك أعقبها بقوله : ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك الآية [ النساء : 60 ] .
وبهذا يظهر أن مثل هذه القضية لا تدخل تحت قوله : " أصحابي كالنجوم " .
وأيضا; فإن ذلك يفضي إلى ، وقد حكى تتبع رخص المذاهب من غير استناد إلى دليل شرعي الإجماع على أن ذلك فسق لا يحل . ابن حزم
[ ص: 83 ] وأيضا; فإنه مؤد إلى إسقاط التكليف في كل مسألة مختلف فيها; لأن حاصل الأمر مع القول بالتخيير أن للمكلف أن يفعل إن شاء ويترك إن شاء ، وهو عين إسقاط التكليف ، بخلاف ما إذا تقيد بالترجيح فإنه متبع للدليل; فلا يكون متبعا للهوى ، ولا مسقطا للتكليف .
لا يقال : إذا اختلفا فقلد أحدهما قبل لقاء الآخر جاز; فكذلك بعد لقائه ، والاجتماع طردي; لأنا نقول : كلا ، بل للاجتماع أثر ; لأن كل واحد منهما في الافتراق طريق موصل كما لو وجد دليلا ولم يطلع على معارضه بعد البحث عليه جاز له العمل ، أما إذا اجتمعا واختلفا عليه; فهما كدليلين متعارضين اطلع عليهما المجتهد ، ولقد أشكل القول بالتخيير المنسوب إلى القاضي ابن الطيب ، واعتذر عنه بأنه مقيد لا مطلق ، فلا يخير إلا بشرط أن يكون في تخييره في العمل بأحد الدليلين قاصدا لمقتضى الدليل في العمل المذكور ، لا قاصدا لاتباع هواه فيه ، ولا لمقتضى التخيير على الجملة; فإن التخيير الذي هو معنى الإباحة مفقود هاهنا ، واتباع الهوى ممنوع; فلا بد من هذا القصد .
وفي هذا الاعتذار ما فيه ، وهو تناقض; لأن اتباع أحد الدليلين من غير ترجيح محال ، إذ لا دليل له مع فرض التعارض من غير ترجيح ، فلا يكون هنالك متبعا إلا هواه .