المسألة الرابعة
وضع الأسباب يستلزم قصد الواضع إلى المسببات أعني الشارع ، والدليل على ذلك أمور :
أحدها : أن العقلاء قاطعون بأن الأسباب لم تكن أسبابا لأنفسها من حيث هي موجودات فقط ، بل من حيث ينشأ عنها أمور أخر ، وإذا كان كذلك ; لزم من القصد إلى وضعها أسبابا القصد إلى ما ينشأ عنها من المسببات .
والثاني : أن
الأحكام الشرعية إنما شرعت لجلب المصالح أو درء المفاسد ، وهي مسبباتها قطعا ، فإذا كنا نعلم أن الأسباب إنما شرعت لأجل
[ ص: 312 ] المسببات لزم من القصد إلى الأسباب القصد إلى المسببات .
والثالث : أن المسببات لو لم تقصد بالأسباب لم يكن وضعها على أنها أسباب لكنها فرضت كذلك ; فهي ولا بد موضوعة على أنها أسباب ، ولا تكون أسبابا إلا لمسببات ، فواضع الأسباب قاصد لوقوع المسببات من جهتها ، وإذا ثبت هذا ، وكانت الأسباب مقصودة الوضع للشارع لزم أن تكون المسببات كذلك .
فإن قيل : فكيف هذا مع ما تقدم من أن المسببات غير مقصودة للشارع من جهة الأمر بالأسباب ؟
فالجواب : من وجهين :
أحدهما : أن القصدين متباينان ، فما تقدم هو بمعنى أن
الشارع لم يقصد في التكليف بالأسباب التكليف بالمسببات ; فإن المسببات غير مقدورة للعباد كما تقدم ، وهنا إنما معنى القصد إليها أن الشرع يقصد وقوع المسببات عن أسبابها ، ولذلك وضعها أسبابا ، وليس في هذا ما يقتضي أنها داخلة تحت خطاب التكليف ، وإنما فيه ما يقتضي القصد إلى مجرد الوقوع خاصة فلا تناقض بين الأصلين .
[ ص: 313 ] والثاني : أنه لو فرض توارد القصدين على شيء واحد لم يكن محالا إذا كانا باعتبارين مختلفين ، كما توارد قصد الأمر والنهي معا على الصلاة في الدار المغصوبة باعتبارين .
والحاصل أن الأصلين غير متدافعين على الإطلاق .