الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الأمانة

الأمانة


حين تستقيم الفطرة وتسلم من اتباع الهوى تتمثل في صاحبها بخلق الأمانة، وفي تفسير قوله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) [الأحزاب:72].
يقول القرطبي : ( والأمانة تعم جميع وظائف الدين على الصحيح من الأقوال ) كما يقول في تفسير قوله تعالى :( وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ)
[المؤمنون :8] : ( والأمانة والعهد : يجمع كل ما يحمله الإنسان من أمر دينه ودنياه قولا وفعلاً ، وهذا يعم معاشرة الناس ، والمواعيد، وغير ذلك, وغاية ذلك حفظه والقيام به ) .

وحين يعم التعامل بالأمانة يؤدي الذي أؤتمن أمانته ، سواء أؤتمن على قنطار أو دينار ، لأن الله أمر بأداء الأمانات إلى أهلها ، ونهى عن خيانة الله والرسول وخيانة الأمانات ، وجعل من صفات المفلحين أنهم يرعون عهودهم وأماناتهم .
والنفوس البشرية بفطرتها تميل إلى الناصح الأمين ، وتثق بالقوي الأمين، حتى غير المسلمين يؤثرون الأمين ، فقد ورد في قصة أهل نجران لما وافقوا على دفع الجزية أنهم قالوا : ( إنا نعطيك ما سألتنا ، وابعث معناً رجلاً أمينا ، ولا تبعث معنا إلا أميناً . فقال : لأبعثن معكم رجلاً أمينا ، حق أمين ) ، وأرسل معهم أبا عبيدة .

إن من أغلى ما يرزقه الله للعبد ، ولا يحزن بعده على أي عرض من الدنيا ، ما جاء في الحديث : ( أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا : صدق الحديث، وحفظ الأمانة ، وحسن الخلق ، وعفة مطعم ) فالأمانة ركن من هذه الأركان الأخلاقية الأربعة ، التي لا يعدلها شيء في الدنيا ، بل قد تكون سببا في إقبال الدنيا على العبد ، لما يجده الناس فيه .
والأمانة صفة مميزة لأصحاب الرسالات ، فقد كان كل منهم يقول لقومه ( إني لكم رسول أمين ) [ الشعراء : 107، 125 ،143،162، 178] .
وكانت تلك شهادة أعدائهم فيهم ، كما جاء في حوار أبي سفيان وهرقل ، حيث قال هرقل : ( سألتك ماذا يأمركم ؟ فزعمت أنه يأمر بالصلاة ، والصدق، والعفاف ، والوفاء بالعهد ، وأداء الأمانة ـ قال : و هذه صفة نبي ) وفي موضع آخر في صحيح البخاري : ( .. وسألتك هل يغدر ؟ فزعمت أن لا. وكذلك الرسل لا يغدرون ..).
ولئن كانت هذه صفة أصحاب الدعوات فإن أتباعهم كذلك متميزون ، ولذلك اقترن تعريف المؤمن بسلوكه المميز ، حيث قال صلى الله عليه وسلم :
( والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم ) .

وإذا تمكنت صفة الأمانة من صاحبها تعامل بها القريب والبعيد ، والمسلم ، والكافر ، يقول ابن حجر : ( الغدر حرام باتفاق ، سواء كان في حق المسلم أو الذمي ) . وكذلك حال المؤمن حتى مع من عرف بالخيانة ، واشتهر بالغدر كما في الحديث : ( أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك ) . وذلك لأن خطورة السقوط في الخيانة ، وفساد الفطرة بنقص العهد ، أشد من مجرد مقابلة الخائن بمثل فعله ، لأن السقوط مرة قد تستمرئه النفس ، وتواصل في منحدر الخيانة .

ومن الصور العملية للأمانة : أن تنصح من استشارك ، وأن تصدق من وثق برأيك ، فقد جاء في الحديث : ( المستشار مؤتمن ) ( .. ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه ) وماذا يكون قد بقي فيه من الخير من أشار على أخيه بما لا ينفعه ، بل ربما بما يضره ؟ ! ..

والمجاهد في أرض المعركة مأمور بالأمانة ، ومنهي عن الغدر والخيانة والغلول :
( لا تغدروا ولا تغلّوا ولا تمثلوا ... ) والقاعد الذي يخلف المجاهد في أهله بخير قائم بالأمانة ، وإن قصر أو خان وقف له المجاهد يوم القيامة ، يأخذ من حسناته ما شاء : ( .. وما من رجل من القاعدين يخلف رجلا من المجاهدين في أهله فيخونه فيهم إلا وقف يوم القيامة ، فيأخذ من عمله ما شاء .. فما ظنكم ؟ )
أي هل تظنون أنه يبقي له من حسناته شيئاً ؟.

ومن أخطر الأمانات شأنا حفظ أسرار الناس ، وستر عوراتهم وكتمان أحاديث مجالسهم ، فقد ورد في الحديث ( المجالس بالأمانة ) وإن لم يوص المتحدث بكتمان حديثه الخاص إليك يكن لم لك أن تشيعه إلاّ بإذنه وعلمه ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( إذا حدث رجل رجلاً بحديث ثم التفت فهو أمانة) وأقل ما في هذه الأمانة أن ينقله الناقل ـ حين ينقله ـ بنصه ، ولا يحمله ما ليس فيه بتدليس أو تحريف .
ومن الأمانة في العمل إتقانه، وكتمان أسراره ، ولذلك ترجم البخاري في كتاب الأحكام ( باب : يستحب للكاتب أن يكون أمينا عاقلاً ) مشيراً بذلك إلى قول أبي بكر لزيد بن ثابت ـ رضي الله عنهما ـ حين أراد أن يستعمله :
( إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك ) .

ومن مخاطر الأزمان المتأخرة اضطراب الموازين ، وفساد القيم ، إلى الدرجة التي وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : ( سيأتي على الناس سنوات خداعات ،يصدق فيها الكاذب ، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ، ويخون فيها الأمين ، وينطق فيها الرويبضة في أمر العامة ، قيل وما الرويبضة ؟
قال : الرجل التافه ) .
وقد خشي رسول الله صلى الله عليه وسلم من انتشار الخيانة بعد قرون الخير فقال " .. إن بعدكم قوما يخونون ولا يؤتمنون ... ".
ومنذ ذلك الحين استمر مسلسل السقوط إلى أن أصبحنا نرى الأمر يوّسد إلى غير أهله ، ويؤتمن الخائن ، ويخون الأمين . ويغدو الأمناء ـ حقا ـ ندرة يشار إليهم كما جاء في الحديث : ( .. فيصبح الناس يتبايعون ، فلا يكاد أحدهم يؤدي الأمانة ، فيقال : إن في بني فلان رجلا أمينا .. ) .

ومع ندرة الأمناء يستبعدون ويولى غيرهم ، ويكون ذلك سببا في تضييع الأمانات ـ وهو من علامات الساعة ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة . قال أبو هريرة : كيف إضاعتها يا رسول الله ؟ قال : إذا أسند الأمر إلى غير أهله ، فانتظر الساعة " . وفي الفتح : (( قال ابن بطال : معنى
( أسند الأمر إلى غير أهله ) : أن الأئمة قد ائتمنهم الله على عباده وفرض عليهم النصيحة لهم . فينبغي لهم توليه أهل الدين : فإذا قلدوا غير أهل الدين فقد ضيعوا الأمانة التي قلدهم الله تعالى إياها " .
ومن اللمحات الفقهية لتبويب البخاري أنه استشهد بحديث : " فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة " في كتاب العلم . ويعلل ابن حجر إيراده في كتاب العلم فيقول : " .. ومناسبة هذا المتن لكتاب العلم أن إسناد الأمر إلى غير أهله إنما يكون عند غلبة الجهل ، ورفع العلم ، وذلك من جملة الأشراط " .

الوفاء بحقوق الأمانة من صفات المؤمنين ، والإخلال بشيء منها خصلة من النفاق، ولذلك جاء في صفات المنافق أنه ( إذا ائتمن خان ) وقال صلى الله عليه وسلم : ( لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له ) .
صاحب خلق ( الأمانة ) حريص على أداء واجبه ، بعيد عن المكر والخيانة ، حافظ للعهود ، وافٍ بالوعود .
ورسالة عظيمة مثل رسالتنا لا يصلح لحملها والمضي بها إِلاّ الأمناء ، فهل نرشح أنفسنا لذلك ؟ ! .

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة