كانت قريش قد صادرت أموال المهاجرين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتربصت للنيل منهم بكل وسيلة، إمعاناً في الصد عن سبيل الله وإيذاء المؤمنين، فأراد المهاجرون إضعافها والضغط عليها من خلال التعرض لقوافلها التجارية التي تمر بالقرب من المدينة في طريقها إلى الشام، وكان المسلمون قد علموا أن قافلة كبيرة يحرسها ثلاثون رجلاً -كانت تحمل أموالاً عظيمة لقريش- في طريقها من الشام إلى مكة، وأنها ستمر بهم، فندب الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه للخروج لأخذها، فخرج ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً، معهم سبعون بعيراً يتعاقبون على ركوبها، لكنهم أرادوا شيئاً، وأراد الله غيره قال سبحانه: {وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين } (الأنفال:7).
ولما بلغ أبا سفيان -الذي كان يقود القافلة القرشية- خبر خروج المسلمين، سلك بها طريق الساحل، وأرسل يطلب النجدة ويستنفر قريش، فخرجت قريش بقضِّها وقضيضها، ولم يتخلف من فرسانها ورجالها إلا القليل، ومن تخلَّف منهم أرسل بدله رجلاً، حتى بلغ جيش قريش ألف مقاتل معهم القيان يضربن بالدفوف ويغنين بهجاء المسلمين، ولما بلغوا الجحفة علموا بنجاة القافلة، فأصروا على المضي ومقاتلة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بطراً ورئاء الناس فقال أبو جهل لعنه الله: "والله لا نرجع حتى نقدم بدْراً فنقيم بها ونطعم من حضرنا، وتخافنا العرب".
وكان المسلمون قد وصلوا إلى بدر وعلموا بنجاة القافلة وقدوم جيش المشركين، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، وكان يهمه معرفة رأي الأنصار على وجه الخصوص؛ لأنهم كانوا قد بايعوه على الدفاع عنه داخل المدينة، ولم يبايعوه على القتال خارجها، فوقف المقداد بن عمرو من المهاجرين وقال: "يا رسول الله! امضِ لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى : {فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون } (المائدة:24) ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد -مكان باليمن- لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه" وقام سعد بن معاذ - زعيم الأوس- فقال: "والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل، قال: فإنا قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة لك، فامضِ يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصَبْرٌ في الحرب، صِدْق عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسِر على بركة الله".
فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم اجتماعهم على القتال بدأ بتنظيم الجيش، فأعطى اللواء الأبيض مصعب بن عمير ، وأعطى رايتين سوداوين لعلي و سعد بن معاذ رضي الله عنهما، وترك المسلمون مياه بدر وراءهم لئلا يستفيدمنها المشركون.
وقبيل المعركة، أشار صلى الله عليه وسلم إلى مكان مصارع جماعة من زعماء قريش، فما تحرك أحدهم عن موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله تعالى في هذه الليلة مطراً طهر به المؤمنين وثبت به الأرض تحت أقدامهم، وجعله وبالاً شديدًا على المشركين.
وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلته تلك، فكان يصلي إلى شجرة، فلم يزل يدعو ربه ويتضرع حتى أصبح، وكان من دعائه: "اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إنك إن تهلك هذه الفئة لا تعبد بعدها في الأرض، فما زال يهتف بربه حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبوبكر ، فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك".
وفي صبيحة يوم السابع عشر من رمضان سنة اثنتين للهجرة، رتب النبي صلى الله عليه وسلم الجيش في صفوف كصفوف الصلاة، وبدأ القتال بين الفريقين بمبارزات فردية ثم كان الهجوم والتحام الصفوف، وأمد الله المسلمين بمدد من الملائكة قال تعالى: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين * وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم } (الأنفال:9-10)ونصر الله رسوله والمؤمنين رغم قلة عددهم وعدتهم. وكانت نتيجة المعركة مقتل عدد من زعماء المشركين منهم عمرو بن هشام (أبو جهل) و أمية بن خلف ، و العاص بن هشام ، وبلغ عدد قتلى المشركين يومئذ سبعين رجلاً، وأُسِرَ منهم سبعون، وفر من تبقى من المشركين تاركين غنائم كثيرة في ميدان المعركة، وأقام صلى الله عليه وسلم ببدر ثلاثة أيام، ودَفن شهداء المسلمين فيها، وهم أربعة عشر شهيداً، وقد تمت مفاداة الأسرى بالمال، فعاتب الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم لقبوله الفداء.
لقد كانت موقعة بدر من المعارك الفاصلة في تاريخ الإسلام، ولذا سماها الله تعالى في كتابه بـ "يوم الفرقان" لأنه فرَّق بها بين الحق والباطل، وكان لها أعظم الأثر في إعلاء شأن الإسلام وإعزاز المسلمين.