الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

التعليم والتذكير

التعليم والتذكير

الاهتداء إلى الحق نعمة جزيلة ، وانشراح الصدر به خير عزيز ، وأول ما يجب على أصحاب الحق - وقد عرفوه - أن يفتحوا عيون الآخرين على ضوئه ، وأن يعرفوا الجاهلين به ، وأن يجعلوه في الحياة واضحـًا كشعاع الشمس ، شائعـًا كأمواج الهواء ، ذاك ما يفرضه الحق على أصحابه . ألا يجعلوه عليهم حكرًا ، وألا يحرموا من نفعه أحدًا ، وألاَّ يدعوا نفسـًا تعيش بعيدة عن هداه ، وليس ذلك - بداهة - عن طريق القسر ، بل عن طريق لفت الأنظار وإيضاح الخلفي وشرح المبهم ، فإن فتك الجهل بالناس ذريع ، وغلبة الأوهام على أفكارهم تذهب بهم ، بددًا في كل فج ، وتخيل إليهم أنهم على صواب ، والواقع أنهم موغلون في الضلال ، والسر هو الجهل ، الجهل بأقسامه كلها ، من بسيط ، إلى مركب ، إلى جهالة الطيش والهوى ، والعالم بحاجة ملحة إلى أن ينشط أهل الإيمان الصحيح لشرح أصوله وإبداء صفحته ، ودحض الشبه المثارة حوله ، واستخراج الجهال من الكهوف المطروحين بها لتمتلئ صدورهم بأنفاس الحقيقة الرحبة .

لقد تدبرت أفكارًا وسيرًا شتى لجمهور من العصاة والأراذل ، فوجدت أن الجهل الفاضح ينسج حولهم غلالة قاتمة ، ويذرهم أشبه بقطعان الدواب في قصور الإدارك ، وعوج العمل ، وشدة الغفلة ، وانظر ما يفعل الله لنبيه إذ بعثه في العرب الأولين : ( لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ * إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ )( يس :6 - 9 ) ، هذه صورة مجتمع محبوس وراء جدران معتمة لا يتسرب منها بصيص نور ، ومن ثم نرى أصحابه صرعى الذهول والجمود ، وعلاجهم - ولو لينقطع العذر - أن تزاح تلك السدود ، وتذوب هاتيك القيود ، ويسلط على عقول هؤلاء وقلوبهم فيض من الوحي ، ينقلهم من حال إلى حال .

إن حاجة البشر إلى العلم الكثير كحاجة الأرض المجدبة إلى الغيث الهاطل ، ولابد أن يُسَخِّرَ الدعاة جميع وسائل التعليم والإيقاظ ، كي ينصفوا الحق ، ويوصلوه إلى الخلق .

وأمر آخر ، إن العالم نفسه قد ينسى ، وتشغله فتن العيش وصوارف اللغو عن القيام بما ينبغي منه ، وهنا يجيء دور التذكير في إبعاد سنة الغفلة عنه ، وكم من مبتعد عن الجادة تكفيه في العودة إليها همسة ناصح أو صيحة زاجر ، فإذا هو راجع إلى رشاده مستقيم على الصراط ، قال تعالى : ( وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ )( الذريات:55 ) .

وعمل الواعظين - في أغلب الأحيان - هو ذلك التذكير النافع ، وهو تذكير لا يستغني عنه الناس يومًا ، إذ طالما يعصف النسيان بأفكارهم، ويبعثهم على السير في الحياة دون وعي أو هدف، أليست تلك طبيعة البشر؟ قال تعالى: ( اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ )( الأنبياء : 1 - 3 ) .

وإسناد اللهو والهوى إلى القلوب يومئ إلى تغلغل الصوارف عن الجد ، واستحواذها على صميم الإنسان ، والنسيان بهذه الصفة مساو للجهل، فإن نتائج " فقدان الذاكرة " هي - نفسها - نتائج عدم العلم ، ولذلك يقول الله جل شأنه: ( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ )( الحشر:19).

وقد تتساءل : كيف ينسى المرء نفسه لأن نسى ربه ؟ أو تقول : إنما نسى ربه لأنه ذكر نفسه ! والجواب أن المنافقين المندفعين وراء شهواتهم المستغرقين في إشباع مطامعهم ورغائبهم لا يذكرون شيئـا من مصالحهم الحقيقية ، ولا يستفتحون طريقـًا يصون لهم معاشـًا أو معادًا .

إنهم يرتعون في الدنايا رتع الدواب في الربيع حتى تهلك بشمـًا واعتلالاً ، والشخص الذي تصرعه أهواؤه لا يدري شيئـًا عن حاضره ولا مستقبله ، ولذلك يعتبر ناسيـًا نفسه ، إنما جاء نسيانه لنفسه من نسيانه لربه ، ولو ذكر حقوق الله وانتصب لأدائها لآتاه الله رشده ، وبصَّره بما ينفعه ، ويرفعه ومَسَّكه بما يضمن العافية له في دينه ودنياه .

التذكير المستمر ضرورة إذن للناس جميعـًا، ما بقوا بشرًا مطبوعين على النسيان ، وما اختلف عليهم الليل والنهار ؛ ذلك أن اختلاف النهار والليل ينسى ، كما قال الشاعر : وتزداد الحاجة إلى التذكير في بيئة عن بيئة ، فالبيئة الساذجة الخشنة ليست خطرًا على العفة كالبيئة المشحونة بالمغريات المستثيرة للكوامن ، ومن ثم فنحن نرى العصر الحاضر يوجب على حملة الإيمان حراسـًا أضعافـًا مضاعفة من اليقظة والحماسة لحماية الدين وأخذ الناس به ، وردهم كلما طاش لب أو أفلت قياد .

الدعوة إلى الحق واجبة في كل حين ، وهي في هذه الأيام أوجب ، والدفاع عن الحياة مطلوب ، وهو عند تحرش الذئاب ، وإحاطة الأخطار أحفز للحس وأدعى للاستعداد والانقضاض ، والسبيل إلى الله مهددة الآن بجحافل من الملحدين والفساق تجر العامة جرًا إلى الجريمة وتصرفهم صرفـًا عن العبادة ، وتزين لهم بألف وسيلة ، أن يهجروا الإيمان والعمل الصالح ، وتلك حال تنفي النوم ، وتقض المضجع ، وهي حال تذكرنا بالخصائص الاصيلة في هذا الدين العظيم ، دين الإسلام ، إنه دين حريص على تجلية الحق ومقاومة الباطل ، يجأر بالدعوة ويصرخ بتوحيد الله ، ويهيب بالناس أن يقبلوا على الصلاة والفلاح بكرة وأصيلا ، دين ، ما إن يرى المنكر حتى يشتبك معه ، وينفر منه ، ويطوي الأفئدة على كرهه ، إنه دين لا يهادن الضلال لحظة . إن استطاع تغييره فعل ، وإلا ترك في القلوب فيه تغييره عند ما تسنح فرصة ، لقد زود الله هذا الدين بأسباب البقاء التي أعوزت ديانات سابقة ، فتلاشت تحت ضغط الوثنيات الجاهلة حينـًا ، أو تحت ضغط الجبروت الحاكم حينـًا آخر ، مصارع الديانات السماوية القديمة - لا مصارع بعض النبيين - هي التي جعلت العناية العليا تزوده بكتاب " لا يغسله الماء تقرؤه نائمـًا ويقظان " بعد أن بادت كتب وطمس التحريف والإفك معالمها ، وبعد أن لانت أحكامها وتعاليمها للوّضاعين وعبّاد الهوى .

وهذه التجارب القديمة نفسها هي التي جعلت الإسلام يغالي بقاعدة الأمر والنهي ، فليس الصلاح أن تعبد الله وتحيا مسالمـًا لمجتمع عاهر ، هذه عبادة مزيفة ، لا تنسب صاحبها إلى تقوى ، العبادة الصحيحة هي التي تدفع صاحبها إلى إنكار المنكر على درجة ماء ، جهد الطاعة ، والإسلام دين يتحرك بالحق ، ولا يسكن به ، إن الحركة سر الحياة ، والركود طريق الموت ، ومن هنا وصفت أمة الإسلام بالخاصة الأولى في دينها ، وهي الغيرة على الحق ، وطبع الحياة الخاصة والعامة به ، قال تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ)( آل عمران:110 ) .

ومهما ساء الأمر وأظلمت الدنيا ( فلا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله).

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة