الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

وثيقة حيفا.. دعوة لأسرلة مرفوضة إسرائيليا

وثيقة حيفا.. دعوة لأسرلة مرفوضة إسرائيليا

في ذكرى النكبة التاسعة والخمسين، أطلقت مجموعة من المثقفين الفلسطينيين القادمين من الأراضي المحتلة عام 1948 دعوة "وثيقة حيفا" لمصالحة تاريخية "بين الشعب اليهودي الإسرائيلي والشعب العربي الفلسطيني" على الأسس التالية:

1 - "اعتراف دولة إسرائيل بالغبن التاريخي الذي أوقعته بالشعب الفلسطيني جراء قيامها، وبمسؤوليتها عن النكبة".

2 - "تغيير تعريف دولة إسرائيل من دولة يهودية إلى دولة ديمقراطيّة تتأسّس على المساواة القوميّة والمدنيّة بين المجموعتين القوميّتين وإرساء أسس العدالة والمساواة بين كافة مواطنيها وسكّانها"، و"ضمان حق الفلسطينيين بإسرائيل في إدارة ثقافية مستقلة".

3 – اعتراف الفلسطينيين والعرب "بحقّ الشعب اليهوديّ الإسرائيليّ بتقرير مصيره، والعيش مع الشعب الفلسطينيّ وسائر شعوب المنطقة بسلامٍ وكرامةٍ وأمان".

4 – تعاطف الفلسطينيين والعرب مع معاناة اليهود في "المحرقة" النازية، مع الإشارة إلى ضرورة عدم اختزال "قيمة العبر الكونية -الإنسانية والأخلاقية- من هذا الحدث الكارثي، والتي تخص البشرية جمعاء" لشرعنة حق اليهود في إقامة دولتهم على حساب الشعب الفلسطيني.

5 – اعتراف "إسرائيل" "بحقّ شعبنا الفلسطينيّ في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلّة" في الأراضي المحتلة عام 1967، و"كذلك تتطلب المصالحة الاعترافَ بحقّ العودة والعملَ على تطبيقه وَفقًا لقرار الأمم المتّحدة "194" "، وتوقف "إسرائيل عن القيام بدورها الهدام تجاه شعوب المنطقة.. في إطار سياسة هيمنة أميركية تؤازر أنظمة عربية في قمع مواطنيها.. وعرقلة العملية الديمقراطية"، "وإحقاق حقوق الفلسطينيّين في إسرائيل كأقليّة وطن"، وهو ما سيخلق حسب الوثيقة "ظروفًا سياسيّة تمكّن من بناء الثقة والتعاون والاحترام المتبادل بين الدولتين المستقلّتين والديمقراطيّتين: الدولة الفلسطينيّة ودولة إسرائيل. كما نأمل أن يفتح آفاقا جديدة نحو بناء اتفاقيّات ومعاهدات اقتصاديّة وعلميّة وثقافيّة بينهما".

باختصار، تريد الوثيقة من "إسرائيل" أن تعطي العرب في الـ48 حقوق أقلية وطن، أي حقوق شريك كامل في الدولة، على أساس ثنائية القومية، وأن تعترف بحق العودة، وبحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني على الأراضي المحتلة عام 67، وبالمقابل، يعترف مروجو الوثيقة بـ"إسرائيل" وبحق "الشعب اليهودي الإسرائيلي" بتقرير المصير على أرض فلسطين، وبرواية "المحرقة".

ولكن أهم ما تفعله الوثيقة في الواقع هو إصرارها المفرط على عروبة السكان العرب الفلسطينيين في الـ48، مقابل التنازل عن عروبة أرض فلسطين، التي لا تعود فلسطين مطلقاً هنا، بل مجرد "إسرائيل ثنائية القومية".

وأهمية هذه النقطة أن ما يبدو مطلباً نضالياً في الظاهر، يفترض أن يتحقق من خلال الإقناع والوسائل السلمية والبرلمانية فقط طبعاً، يمثل في الواقع أهم تنازل مبدئي في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية منذ نشأت قبل أكثر من قرن.

فما نراه هنا هو اعتراف عقائدي بحق الكيان الصهيوني بالوجود، خاصة إذا اقترن الأمر بالاعتراف بالمحرقة اليهودية، بينما كان كل المعترفين العرب والفلسطينيين بحق "إسرائيل" في الوجود حتى اليوم يغلفون اعترافهم بدواع براغماتية أو ذرائعية، أي بدواع سياسية عرضية، ولكن ليس بأيديولوجيا تبرر حق اليهود في تقرير مصيرهم في فلسطين.

فلم يسبق قط أن تنازل المعترفون بالكيان الصهيوني في السابق عن الحق العربي التاريخي في أرض فلسطين، وهو حق لا يرتبط بالفلسطينيين وحدهم بالمناسبة، بل بالأمة.

فمن البديهي أن الفلسطينيين الذين طردهم الفرنجة من أرضهم منذ نحو قرنين ربما لم يعد كثير من أحفادهم إلى أرض فلسطين لاحقاً، ولكن ذلك لم يسقط حق الأمة في أرض فلسطين.

بينما الاعتراف بحق الخليط العرقي والثقافي المسمى هنا "شعباً يهودياً إسرائيلياً" بتقرير المصير ضمن إطار "إسرائيل ثنائية القومية"، يقود أولاً إلى نفي عروبة فلسطين، وثانياً إلى التخلي عن جوهر القضية منذ بدأت، وهي كما يقول أستاذنا الكبير بهجت أبو غربية: من يملك الأرض؟.. نحن أم هم؟ وثالثاً إلى الاعتراف باليهود (الإسرائيليين منهم فقط؟) كقومية.

والاعتراف رسمياً -دون أن يطلب منا أحد- بقومية يهودية يمثل بحد ذاته هاوية جديدة في الخطاب السياسي الفلسطيني، أو فلنسمها بالأحرى أسرلة الخطاب السياسي الفلسطيني.

ويشار طبعاً إلى أن ما يسمى "وثيقة حيفا" هي الوثيقة الرابعة بنفس الاتجاه المذكور أعلاه، مع إضافة أو حذف هذا البند أو ذاك، واشتراكها جميعاً في المحور المركزي وهو "إسرائيل ثنائية القومية".

وقد سبقتها "وثيقة النقاط العشر" الصادرة عن مركز مساواة، ووثيقة "التصور المستقبلي للعرب الفلسطينيين في إسرائيل" الصادرة عن لجنة المتابعة ولجنة رؤساء السلطات المحلية العربية، ومقترح "الدستور الديمقراطي" الصادر عن مركز عدالة، وجميعها ينحو باتجاه الدعوة إلى المصالحة على أساس "إسرائيل ثنائية القومية".

وتأتي الآن "وثيقة حيفا" عن مركز مدى الكرمل التي يفترض أن العمل بدأ فيها منذ عام 2002.

ولن ندخل هنا في قصة التمويل الأجنبي لمراكز الأبحاث غير الحكومية والدور السياسي الذي تلعبه في فلسطين ودول الطوق بالأخص، ولكن لا بد من الإشارة إلى أن "وثيقة حيفا" المذكورة أعلاه كان من الأجدر بها أن تسمى "وثيقة عمان" حيث نوقشت وأعلنت من عمان، الأردن، حسب بعض الصحف العربية في الـ48، مع أن وسائل الإعلام التي غطت الوثيقة أغفلت هذه النقطة بمعظمها.

وليست مشكلة بالطبع أن تناقش أو تعلن أي وثيقة في عمان، أو أي بقعة من وطننا العربي الكبير، ما دام المضمون ملتزماً بثوابت القضية

ولكن عندما تسمى وثيقة ما "وثيقة حيفا" دون أن تعلن هوية الجهة الراعية للقاء عمان الذي يفترض أنه ضم عشرات المثقفين والساسة الفلسطينيين من الـ48 وغير الـ48 وبعض المثقفين العرب، ودون أن تعلن أسماؤهم أيضاً، ودون أن يُعرف ما إن كانت تلك الجهة الراعية منظمة غير حكومية ممولة أجنبياً مثلاً، أو ماذا بالضبط، فإن الأمر برمته يدعو إلى التساؤل حقاً.

الشيء المؤكد فقط هو أن "وثيقة حيفا" ترتبط بعضو الكنيست الصهيوني السابق عزمي بشارة من جهة الخط السياسي (الدعوة لـ"إسرائيل ثنائية القومية") ومن جهة مركز مدى الكرمل الذي يقول الكاتب نبيل عودة من الناصرة أنه يرتبط ببشارة مع غيره من مراكز الأبحاث الأخرى، على الرغم من وجود بعض الأسماء الأكاديمية المفترض أنها مستقلة ضمن قائمة الموقعين على "وثيقة حيفا" وغيرها من الدعوات ثنائية القومية.

ولكن مشاركة بعض الأسماء المستقلة، إذا افترضنا ذلك صحيحاً، لا يغير في جوهر الأمر كثيراً في النهاية.

ولا يغير في جوهر الأمر كثيراً أيضاً أن يجد الساسة والجمهور "الإسرائيلي" سقف الدعوة الثنائية القومية أعلى بكثير مما يحتمله، وأن يتعامل بغطرسته المعهودة مع أدنى تململ واحتجاج عربي فلسطيني على إملاءاته كخطر أمني (كما سبق أن فعل حتى مع الذين وقعوا على وشرعوا في تنفيذ اتفاقية أوسلو التي لا ترقى إلى الحد الأدنى من أي برنامج تسوية، ناهيك عن برنامج تحرير).

فبيت القصيد يبقى هو ما إن كان برنامج "إسرائيل ثنائية القومية"، مع أو بدون التوابل الأخرى المضافة إليه في "وثيقة حيفا-عمان"، برنامجاً:
1– معبراً بالحد الأدنى عن الهدف الإستراتيجي للنضال الوطني الفلسطيني منذ مائة عام ونيف.

2– منسجماً مع نفسه داخلياً وقابلاً للحياة إذا قيمناه من وجهة نظر واقعية غير مبدئية بناءً على معطيات موازين القوى الإقليمية والدولية.

ولنلاحظ في هذا السياق أن معظم الذين يتحدثون عن النكبة عام 1948 يرفضون التحدث عن احتلال منذ عام 1948 (بل فقط عن نكبة وجرائم ضد الإنسانية لا بد من الاعتراف بهما!).

أما بالنسبة لمبدئية برنامج "إسرائيل الثنائية القومية" وارتباطه بهدف التحرير، فهناك من يسوق الأمر باعتباره نوعاً من الفهلوة وألعاب اليد الخفية التي سيتم تمريرها على الجمهور "الإسرائيلي" الغافل، الذي سيكتشف فقط بعد تحول "إسرائيل" إلى "دولة لكافة مواطنيها" أن "إسرائيل" قد "تم تقويضها فجأةً من الداخل"!.

والحقيقة أن مجرد مناقشة مثل هذه "الإستراتيجية"، كما يحب البعض أن يسميها، يمثل استخفافاً بعقل القارئ. فمن يجري استغفاله هنا هو من يتم إقناعه بالتصفيق لمروجي الاعتراف بحق الشعب اليهودي في تقرير مصيره في "إسرائيل"، وبالمحرقة التي تعبر عن أيديولوجيا الهيمنة اليهودية (ليس فقط في فلسطين بل دولياً)، وبالتخلي عن عروبة أرض فلسطين، مقابل البحث السلمي والبرلماني عن حقوق أقلية قومية عربية في "إسرائيل".

سياسياً، يشكل الحكم الذاتي الثقافي للأقلية العربية أحد صمامات الأمان التي اقترحها مؤتمر هرتسليا للتعامل مع الخطر الديموغرافي الفلسطيني في "إسرائيل".

ومن الواضح أن الصمود اليومي لشعبنا العربي الفلسطيني في الأراضي المحتلة عام 48 في وجه السياسات الصهيونية الحاقدة، لا يمت بصلة لبرنامج أسرلة الهدف الإستراتيجي للعمل الوطني ليصبح "شركاء في إسرائيل"!! لأن مشكلتنا الرئيسية مع "اليهود الإسرائيليين" تبقى الاحتلال لا العنصرية

فبرنامج "ثنائية القومية" يمثل في الواقع إجهاضاً لبرنامج التحرر الوطني بذريعة ممارسة الفهلوة والسحر السياسي على الجمهور "الإسرائيلي"، ودعاته ينشرون بيننا أوهاماً لا برنامجاً سياسياً.

ومن ناحية عملية، براغماتية، من الواضح تماماً أن الجمهور والشخصيات والقوى السياسية "الإسرائيلية" لا تشتري بضاعة "ثنائية القومية" ولا ما هو أقل منها، وأن هذه الدعوة موجهة في الواقع للجمهور العربي، وأن الترويج لها يجري في صفوف المناضلين والمثقفين العرب والفلسطينيين بالتحديد، وأن الأحزاب الصهيونية مثلاً تجمع على رفض "العودة" (أليس هناك فرق بين الحديث عن العودة مقابل الحديث عن حق العودة؟)، ناهيك عن "تقويض إسرائيل من خلال الكنيست"!.

والكيان الصهيوني تأسس بقرار دولي ليحقق غاية جغرافية سياسية لقوى الاستعمار القديم ثم الجديد، ومازال هذا الهدف الإستراتيجي راهناً، وهو السيطرة على الوطن العربي وتجزئته، ولم ينتفِ بعد، فما بالك وميزان القوى الدولية لا يسمح بفرض الشق "الإسرائيلي" من هذا البرنامج؟!.

والحركة الصهيونية العالمية (من نيويورك إلى تل أبيب) إما أن ينفذ هذا البرنامج برضاها، ما دامت أدواته محض برلمانية وسلمية، وإما ألا ينفذ على الإطلاق.

فإذا نفذ برضاها، فإنه لا يمكن أن يكون برنامجاً خطراً عليها. والحال أن الغريق يتعلق بقشة كما يقال، فإنه من المفهوم أن يتمسك البعض بأي بارقة أمل مهما بدت زائفة، ولكن مهما كان ذلك مفهوماً، فإنه لا يشكل تحليلاً إستراتيجياً بأي حال من الأحوال.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

الجزيرة نت

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة