الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

تساؤلات الوقت الحائرة

تساؤلات الوقت الحائرة

تساؤلات الوقت الحائرة

فلسطينياً، بدا الأسبوع المنقضي بالنسبة لي أسبوع الحيرة بامتياز.فبعض الذي وقعت عليه كان يصعب تصديقه، في حين أن البعض الآخر بدا مستعصياً على الفهم.

لماذا الزيارة؟
لم أفهم لماذا يزور وفد عربي إسرائيل للحديث في شأن "المبادرة العربية". كما أنني لم أفهم شيئاً من الكلام المتضارب عن الصفة التمثيلية للوفد. ذلك أنك لو سألت أحداً في العالم العربي أو حتى الإسلامي فيما هو ملح في الشأن الفلسطيني الآن، فلن تجد أحداً يتذكر المبادرة العربية سوى اثنين فقط هما وزيرا خارجية مصر والأردن. وعن نفسي أعترف بأن المبادرة سقطت تماماً من ذاكرتي في زحام الأحداث المتلاحقة الراهنة، ولم أتذكرها إلا حين قرأت الخبر في صحف الصباح. وأدهشني أن أجد من لا يزال يتصور أن الزيارة المفترضة يمكن أن تشكل عنصراً مشجعاً لإسرائيل على القبول بالمبادرة التي يرفضها كل الساسة هناك.

ربما لا يكون هناك جديد في هذا الذي ذكرته، لكن الجديد أن الصحف المصرية والعربية ظلت تتحدث طوال الأسبوع عن أن الوفد المسافر سيذهب ممثلاً للجامعة العربية، في حين هللت الصحف الإسرائيلية للحدث، واعتبرته إنجازاً كبيراً سيؤدي إلى رفع علم الجامعة العربية في تل أبيب لأول مرة في تاريخ الدولة العبرية. وفي التعليق على ذلك نشرت صحيفة الشرق الأوسط (عدد 10/7) تصريحاً عجيباً للسيد محمد صبيح الأمين العام المساعد لشئون فلسطين بالجامعة العربية أعرب فيه عن أمله في أن يكون رفع علم الجامعة العربية أثناء الزيارة دلالة على قبول إسرائيل بالمبادرة. أما وجه العجب في الكلام فيكمن في أننا بعدما فقدنا الأمل في أن تعلن إسرائيل عن قبولها للمبادرة، فإن تطلعاتنا تواضعت حتى أصبحنا نتسول أي إشارة إسرائيلية يمكن أن تجعل العالم العربي "يبلع" المسألة ويتوهم أن التسوية السياسية مستمرة، حتى لو تمثلت تلك الإشارة في مجرد رفع علم الجامعة العربية في تل أبيب.

أما المفاجأة في هذا السياق، فكانت في تصريح أمين عام الجامعة السيد عمرو موسى، الذي نشره "الأهرام" على صفحته الأولى في 12/7، وقال فيه كلاماً مغايراً لما صرح به الأمين المساعد، حين نفى أن الوفد الزائر سيذهب إلى تل أبيب ممثلاً للجماعة، ولكن باعتباره مكلفاً من اللجنة الخاصة بمتابعة مبادرة السلام العربية.

زيارة إلى العنوان الغلط

الوفد العربي ذاهب إلى العنوان الغلط لكي يقوم بمهمة مستحيلة، ليس ذاهباً إلى رام الله ليمد جسور الحوار بين الفلسطينيين، وهو واجب الوقت وإنما هو ذاهب إلى تل أبيب لتضييع الوقت. إذ هي مستعدة للكلام في أي شيء باستثناء مستقبل القضية الفلسطينية. حتى وهم الحل رفضته. من ثم فما هو غائم ومرتبك في الساحة العربية محسوم وواضح وضوح الشمس في إسرائيل. آية ذلك أن صحيفة هآارتس نشرت في 24/6 تقريراً عن زيارة ايهود أولمرت لواشنطن، كشف النقاب عن أن رئيس الوزراء الإسرائيلي رفض اقتراحاً تقدمت به وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس يقضي بالتوصل لاتفاقية اطار -مجرد اطار- للحل الدائم دون أن توضع تلك الاتفاقية موضع التنفيذ. وكان من رأيها أن مجرد تحقيق اتفاق مبدئي من ذلك القبيل سيراه أبو مازن وفريقه "أفقاً سياسياً" وأملاً يشجعهم على المضي في تصفية حركات المقاومة، باعتبار أن ذلك الاتفاق الوهمي سيعطي انطباعاً مغشوشاً بأن ثمة أملاً في حل سياسي للقضية.

أضافت الصحيفة أن أولمرت في الظرف الراهن غير مستعد لإحراز أي تقدم في العملية السياسية (التي سيذهب لأجلها الوفد العربي). وهذه الفكرة محل إجماع بين كافة المعلقين السياسيين الإسرائيليين، حتى أن حنان كريستال معلق الشئون العربية في الإذاعة والتليفزيون العبرية ردد أكثر من مرة قوله بأنه "لو قام أبو مازن بتقديم رؤوس قادة حماس والجهاد على طبق من فضة إلى أولمرت، فإن الأخير سيظل عاجزاً عن القيام بأي خطوة باتجاه التسوية السياسية".

جدير بالذكر في هذا الصدد أن الصحف الإسرائيلية نقلت خلاصة حديث أولمرت في اجتماع مجلس الوزراء عقب انفجار الموقف في غزة الذي قال فيه إن لإسرائيل في الوقت الراهن هدفين استراتيجيين يتعين التحرك لتحقيقهما بكل قوة واصرار هما: قيام أبو مازن وأجهزته بلعب دور مركزي للقضاء على المقاومة الفلسطينية بالضفة، بشكل يقلص الحاجة إلى تدخل الجيش الإسرائيلي، أي أن تنوب حكومة رام الله عن الإسرائيليين في تصفية المقاومة بالضفة، أما الأمر الثاني فهو العمل الدؤوب لأجل نزع الشرعية عن حكومة حماس في قطاع غزة.

تصريحات الوزراء الإسرائيليين ألقت مزيداً من الضوء على الكيفية التي يتعاملون بها مع الأزمة، فوزير الاستيعاب والهجرة زئيف بويم قال: إن أبو مازن إذا أراد أن يحصل على عوائد الضرائب المحتجزة في إسرائيل (حوالي 600 مليون دولار) فعليه أن يبادر إلى إعلان حرب لا هوادة فيها ضد جميع حركات المقاومة الفلسطينية، ومن ثم يتعين ربط المساعدات التي تقدم له بمدى قدرته على الوفاء بهذا الشرط، كما دعا وزير الصناعة والتجارة الحاخام أيلي بشاي إلى تحويل عوائد الضرائب إلى أبو مازن على دفعات، بحيث لا يتم تحويل أي دفعة إلا بعد التأكد من أن قواته الأمنية حققت الإنجاز المطلوب منها في مواجهة المقاومة.

لغز القوات الدولية!!
إذا كانت التصريحات الإسرائيلية قد بددت بعض الالتباس في التحركات الراهنة، فإنك ستضطر إلى الاستعانة بها في فهم لغز آخر يتمثل في مشروع أبو مازن لاستقدام قوات دولية في غزة " لتوفير الظروف المناسبة لإجراء انتخابات تشريعية مبكرة"، على حد تعبيره بعد اجتماعه مع الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، وقد كرر الرئيس الفلسطيني هذه الدعوة في أعقاب اجتماعه مع رئيس الوزراء الإيطالي الذي زار رام الله في الأسبوع الماضي.

يستشعر المرء خجلاً مضاعفاً وهو يقرأ هذا الكلام مرة لأن "القضية " اختذلت في هذا المطلب عند أبو مازن. ومرة ثانية -هكذا قلت في مقام آخر- لأنه في حين كان الرجل يتحدث مع ساركوزي حول مشروعه، فإن افيغدور لبيرمان نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي ورئيس حزب "إسرائيل بيتا" كان يواصل لقاءاته في أوربا مع ممثلي حلف الأطلنطي (الناتو) لإقناعهم بالفكرة ذاتها، وذكرت صحيفة "معاريف" في 26/6 أنه كان يقوم بمهمته بتنسيق كامل مع أولمرت، وأن هدف استدعاء القوات الدولية هو الاستعانة بها للقضاء على حماس "لإنها تمثل تهديداً استراتيجياً ليس فقط لإسرائيل وإنما أيضاً للمصالح الغربية في المنطقة، الامر الذي يبرر تدخل حلف الناتو لاسقاط حكومتها. "

لعلمك فإن السيد ليبرمان هذا من غلاة المتطرفين والفاشيين في إسرائيل، وهو من دعا مراراً إلى قصف أسواق غزة ومساجدها بطائرات أف 16، ونادى بطرد الفلسطينيين من الضفة وغزة وتوطينهم في سيناء، وهو من طالب بقصف السد العالي لإغراق المدن المصرية، وتدمير قصر الرئاسة السوري.

هذا الرجل حين فصّل في مهمة القوات الدولية المذكورة قال: إن كتاب تكليفها يشتمل على ما يلي: منع حركات المقاومة من استهداف العمق الإسرائيلي انطلاقاً من قطاع غزة- وقف عمليات تهريب السلاح والوسائل القتالية عبر الحدود بين القطاع ومصر- تفكيك الأجنحة العسكرية لحركات المقاومة الفلسطينية.

هذا التوافق المدهش مع أبو مازن ليس مقصوراً على لبيرمان وحده، ولكننا نلمس نظيراً له في موقف وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي آفي ديختر الذي رفعت ضده في الغرب عشرات الدعاوي بسبب الجرائم التي ارتكبها بحق الشعب الفلسطيني حين كان رئيساً للشاباك، ذلك أن الرجل انضم إلى المعجبين بأبو مازن والمادحين له، إذ وصفه بأنه شريك لإسرائيل في حربها العادلة ضد حماس، بل إن زعيم المستوطنين في الضفة الغربية بنحاس فلنشتاين خرج عن طوره ومضى يكيل المديح "لشجاعة" أبو مازن، لأنه أمر قواته بمطادرة قادة وعناصر حماس، في الوقت الذي كان جيش الاحتلال يطارد فيه نشطاء فتح في نابلس (الإذاعة الإسرائيلية 29/6).
فلسطينياً وعربياً، فإن هذه الصورة يمكن أن ترشح ضمن عجائب هذا الزمان: أن يقف في مربع واحد كل من: أبو مازن مع أولمرت وليبرمان وديختر وفلنشتاين، في حين تقف حكومة حماس وحركتها في المربع الآخر!.

إشارات تبعث على الحيرة
تتعدد الإشارات الأخرى الباعثة على الحيرة والدهشة في المشهد. ولكي لا أطيل فإنني سوف اختصر بعض تلك الإشارات في الملاحظات التالية.
ـ أفهم أن تضيع القضية وسط التجاذب الفلسطيني فيتوقف الحديث عن الاحتلال والتوسع الاستيطاني والسور والعودة.. الخ، وينشغل أبو مازن وجماعته بتحرير غزة من حماس، ولكن المسألة تتجاوز الشأن الفلسطيني بحيث تمس صميم الأمن القومي العربي، فلست أفهم لماذا يستمر الموقف العربي مراقباً ومتفرجاً. ولماذا لا يكون هناك تحرك عربي جاد لمد جسور الحوار الفلسطيني، الأمر الذي يدعوني إلى التساؤل عن دور الموقف الأمريكي، وهل هناك ضوء أخضر للسعي بين الفرقاء اللبنانيين مثلاً، وضوء أحمر يصادر ذلك الجهد في فلسطين.

ـ في حديثه إلى التليفزيون الإيطالي يوم 9/7 قال أبو مازن في تصريحه للأردنيين إنه من خلال حماس دخلت "القاعدة" إلى غزة وأصبحت في حمايتها، إلا أن هنري سيجمان الأستاذ بكلية الدراسات الشرقية بجامعة لندن كتب مقالة في صحيفة الحياة اللندنية في 24/6 كان عنوانها كالتالي: الذين لا يريدون حماس سيحصلون على القاعدة - وفيه بدا الأستاذ البريطاني أكثر استقامة وموضوعية من أبو مازن.

ـ وسط التهليل الإسرائيلي باستقبال الوفد العربي نشرت صحيفة هاآرتس في 6/7 خلاصة تقرير حديث لحركة "السلام الآن" اليسارية كشف عن حقائق مذهلة للتوسعات الاستيطانية التي رعتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، إذ تبين أن أكثر من نصف المستوطنات تم توسيعها وإعادة رسم خرائطها من خلال الاستيلاء على مساحات شاسعة من الأراضي بعد اتفاق أوسلو، الذي يحظر تغيير الوضع القائم على الأرض قبل الاتفاق على التسوية النهائية للقضية - البيانات التي تضمنها التقرير تصدم القارئ وتفجعه لكنها فيما يبدو لا تحول دون إتمام زيارة الوفد العربي.

ـ حتى بعض المسئولين العرب أصبحوا يلحون على ضرورة إطلاق الجندي الإسرائيلي جلعاد شليط بالمجان، في توافق مدهش مع الأمريكيين والأوربيين. الغريب أنهم اسقطوا من الحسبان عشرة آلاف سجين فلسطيني لدى إسرائيل، بعضهم تحت الاعتقال منذ أكثر من 20 عاما.

ـ في 11/7 نشر الأهرام على الصفحة الأولى تصريحاً على لسان وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط، قال فيه أن ما حدث في غزة انقلاب عسكري نفذته حماس، ولكن الرئيس حسني مبارك في حديث للتليفزيون الإسرائيلي يوم 26/6 ذكر أن ما جرى بمثابة أزمة داخلية بين الشركاء الفلسطينيين تحل بالحوار. ورغم أن توصيف الرئيس مبارك أكثر صواباً ودقة، إلا أن كلام وزير الخارجية يثير أكثر من سؤال حول المرجعية التي استند إليها في إطلاق تصريحه.

إن في الفم ماء كثيراً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الشرق القطرية

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة