بين عمرة القضاء وغزوة مؤتة أيام قليلة ، ولكنها لم تخل من أحداث مهمّة ومواقف مشهودة في حياة النبي – صلى الله عليه وسلم – خاصة ، وحياة المسلمين عامة.
فبعد عمرة القضاء التي كانت في شهر ذي القعدة من السنة السابعة للهجرة ، وما تحقّق خلالها من معاني العزة والكرامة ، جاءت الأحداث التالية :
 الزواج من أم المؤمنين  ميمونة بنت الحارث   
بمجرّد أن انتهى النبي – صلى الله عليه وسلم – من مناسك الإحرام تقدّم للزواج من  ميمونة بنت الحارث  رضي الله عنها وهو بمكّة ، فأوكلت رضي الله عنها أمر زواجها  للعباس بن عبد المطلب  رضي الله عنه ، وبذلك تكون  ميمونة  رضي الله عنها آخر من تزوّج بهنّ النبي – صلى الله عليه وسلم .
وقد أراد النبي – صلى الله عليه وسلم – من زواجه هذا أن يكون حلقة وصلٍ بينه وبين أهل مكّة ، لكنّهم منعوه من المكوث في الحرم بعد انقضاء المهلة التي اتفقوا عليها وقالوا : "إنه قد انقضى أجلك فاخرج عنا " ، فقال لهم :  ( وما عليكم لو تركتموني ، فأعرست بين أظهركم فصنعت لكم طعاما ، فحضرتموه ؟ )  ، فقالوا له : " لا حاجة لنا في طعامك فاخرج عنا " ، رواه  الحاكم  وصحّحه ووافقه  الذهبي  .
فخرج النبي – صلى الله عليه وسلم من مكّة ، وبنى  بميمونة  رضي الله عنها في موضع يُقال له " سرف " ، وهو ذات الموضع الذي توفّيت فيه ، فرضي الله عنها وأرضاها . 
  لحوق بنت  حمزة بن عبد المطلب  بركب المسلمين 
كان  لحمزة  رضي الله عنه بنت تقيم في مكة يُقال لها  عمارة  ، وعندما أنهى النبي – صلى الله عليه وسلم – عمرته وتوجّه إلى المدينة لحقته  عمارة  وقامت تناديه ، فأدركها ابن عمّها  علي بن أبي طالب  رضي الله عنها وسلّمها  لفاطمة  عليها السلام وقال : " دونك ابنة عمك فاحمليها " ، فاختصم في شأنها  علي وزيد وجعفر  رضي الله عنهم كلّهم يريد رعايتها وتولّي شؤونها ، فقال  علي  : " أنا أحق بها ، وهي ابنة عمي " ، وقال  جعفر  : " ابنة عمي وخالتها تحتي " ، وقال  زيد  : " ابنة أخي " ، فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها وقال :  ( الخالة بمنزلة الأم )  ، ثم أراد تطييب خاطر الثلاثة فقال  لعلي  :  ( أنت مني وأنا منك )  ، وقال  لجعفر  :  ( أشبهت خَلقي وخُلُقي )  ، وقال  لزيد  :   ( أنت أخونا ومولانا )  رواه  البخاري  .
 إسلام  خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة  
من النتائج العظيمة التي أفرزتها عمرة القضاء إسلام ثلاثة من خيرة فتيان قريشٍ وأشرافها ، فقد أسلم  خالد بن الوليد  رضي الله عنه ، القائد المظفّر الذي لم يهزم في معركة طيلة حياته ، وأسلم  عمرو بن العاص  داهية العرب وخيرة فرسانها ، وأسلم معهما أيضاً  عثمان بن طلحة  حارس الكعبة المشرّفة ، فكان ذلك الحدث يوم فرح للمسلمين .
وقد هيّأ الله تعالى أسباب إسلام هؤلاء الثلاثة مبكّراً ، فبعد غزوة الأحزاب جمع  عمرو بن العاص  رضي الله عنه عدداً من أصحابه ، وأشار عليهم بالرحيل إلى  النجاشي  حتى يروا ما يؤول إليه أمر المسلمين ، فإن انتصروا على قريشٍ  عاشوا في الحبشة ما بقي من عمرهم ، وإن هزمتهم قريش عادوا إلى بلادهم ، فاستحسن أصحابه رأيه ، فتجهّزوا للرحيل ولم ينسوا هداياهم إلى ملك الحبشة .
وبينما هم في الغربة إذ قدم  عمرو بن أمية الضمري  رضي الله عنه إلى  النجاشي  يسأل عن  جعفر بن أبي طالب  رضي الله عنه وأصحابه ، فرأى  عمرو بن العاص  رضي الله عنه أنها فرصة سانحة للقضاء عليه ، فدخل على  النجاشي  وسأله أن يمكّنه من قتل  ابن أمية  ، فغضب الملك غضباً شديداً وضرب  ابن العاص  في أنفه حتى كاد أن يكسره ، فقال له : " أيها الملك ، والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه " ، فأجابه الملك : " أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي  موسى  لتقتله ؟ " ، فتعجّب  عمرو  رضي الله عنه وقال : " أيها الملك ، أكذاك هو ؟ " ، فقال له : " ويحك يا  عمرو  ، أطعني واتّبعه ؛ فإنه والله لعلى الحق ، وليظهرنّ على من خالفه كما ظهر  موسى  على فرعون وجنوده " ، عندها شرح الله صدره بالإسلام ، وطلب من  النجاشي  أن يبايعه على الإسلام ، فبايعه .
وكتم  عمرو بن العاص  رضي الله عنه خبر إسلامه عن أصحابه ، وعاد إلى مكّة ، حتى رجع النبي – صلى الله عليه وسلم – من عمرة القضاء ، فخرج رضي الله عنه يريد اللحاق بالنبي عليه الصلاة والسلام وإعلان إسلامه ، وفي طريقه لقي  خالد بن الوليد  و عثمان بن طلحة  رضي الله عنهم واتفقوا على السير سويّاً ، وقد عبّر  خالد  عن قناعته بالإسلام قائلاً : " والله لقد استقام المنسم – يعني تبيّن الطريق - ، وإن الرجل لنبي ، أذهبُ والله أسلم ، فحتى متى ؟ " .
وتسامع الناس في المدينة بقدوم هذا الركب المبارك مسلماً ، فأسرعوا بإخبار النبي – صلى الله عليه وسلم - ، فاستقبلهم ورحّب بهم ، وهنّأهم على الهداية إلى الحق ، وبايعهم على الإسلام ، رواه  أحمد .
ولما جاء دور  عمرو بن العاص  رضي الله عنه للمبايعة تردّد وقبض يده ، فقال له النبي – صلى الله عليه وسلم - :  ( مالك يا  عمرو  ؟ )  ،  فقال له : " أردت أن أشترط " ، فقال :  ( تشترط بماذا ؟ )  ، فقال  عمرو  : " أن يُغفر لي " ، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام :  ( أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله ؟ ، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها ؟ ، وأن الحج يهدم ما كان قبله ؟ )  رواه  مسلم  .
  سرية  غالب بن عبدالله  إلى الكديد 
بعث رسول الله -  صلى الله عليه وسلم -  غالب بن عبد الله الكلبي  رضي الله عنه للإغارة على بني ملوِّح في " الكديد " ، فانطلق رضي الله عنه ومعه بضعة عشر رجلاً ، وفي الطريق لقي المسلمون  الحارث بن مالك الليثي  فأمسكوا به واقتادوه إلى قائدهم ، فقال  الحارث  : " إنما جئت لأسلم " ، فشكّ  غالب  رضي الله عنه في أمره فقال له : " إن كنت إنما جئت مسلماً فلن يضرّك رباط يوم وليلة ، وإن كنت على غير ذلك استوثقنا منك " ، فأوثقوا رباطه ثم جعلوا عليه حارساً ، وأوصى  غالب  رضي الله عنه بالحذر من  الحارث  وقتله إذا ظهرت منه بوادر الخيانة .
ووصلت تلك السريّة إلى " الكديد " وقت الغروب ، وانطلق  جندب بن مكيث  رضي الله عنه يستطلع المكان ، فرآه أحد المشركين وظنّ أنه إحدى الحيوانات ـ فرماه بسهم ، فلم يتحرّك رضي الله عنه حتى لا يكشف أمر أصحابه ، ونزع السهم من جسده ، فرماه المشرك بسهم آخر فأصاب منكبه ، ولكنّه رضي الله عنه احتمل ذلك كلّه ، حتى قال المشرك لمن كان معه : " والله لقد خالطه سهماي ، ولو كان دابة لتحرّك " ، فتركه ومضى .
وعندما اشتدّت ظلمة الليل أغار المسلمون على أعدائهم ، فقتلوا خلقاً كثيراً وغنموا منهم ، ثم عادوا ليأخذوا  الحارث بن مالك الليثي  وحارسه ، وفي تلك الأثناء انطلقت صرخات الاستغاثة ، وامتلأ المكان بقوّات عظيمة لا قبل للمسلمين بها ، واشتدّت المطاردة بين الفريقين ، وعندما اجتاز المسلمون بطن الوادي أرسل الله سيلاً عظيماً قطع الطريق على المشركين فلم يتمكّنوا من اللحاق بهم ، وعادت السريّة مكلّلة بالنصر إلى المدينة سالمة غانمة ، والقصّة رواها الإمام  أحمد  في مسنده .
لقد جاءت تلك الأحداث لتجني ثمار الحاضر وتحمل بشائر المستقبل ، فالغارة التي قام بها المسلمون أسهمت في بسط هيبتهم وتوطيد مكانتهم عند القبائل العربية ، وإسلام قائدين عظيمين من أمثال عمرو بن العاص و خالد بن الوليد رضي الله عنهما كان مكسباً عظيماً للمسلمين خصوصاً بعد وفاة النبي – صلى الله عليه وسلم - ، فكان لهما الأثر البالغ في حركة الفتوحات واتساع رقعة الدولة الإسلاميّة بعد ذلك .
 
				 
				 المقالات
 المقالات 
        						 
						 
						

 
					 
					