الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

العقل.. بين الانفلات والانقياد

العقل.. بين الانفلات والانقياد

العقل.. بين الانفلات والانقياد

الحمد لله على نعمه، والصلاة والسلام على أفضل خلقه وخاتم رسله .. وبعد :
فإن أعظم نعم الله على خلقه ومواهبه لهم، ما مَنّ به عليهم من نعمة العقل، إذ هو أُسُّ الفضائل وينبوع الآداب، جعله الله للتكليف أصلاً، وللدنيا عماداً؛ فأوجب الدين بكماله، وجعل الدنيا مدبّرة بأحكامه، وألف به بين الناس على اختلاف مآربهم ومشاربهم .. وعلى قدر عقل المرء تكون عبادته لربه، أما سمعتم قول الفجار: (لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا من أصحاب السعير).

يقول عمر رضي الله عنه: "أصل الرجل عقله، وحسبه دينه، ومروءته خلقه".
وقال بعض الحكماء: "العقل أفضل مرجوّ، والجهل أنكى عدو".
وقال بعض الأدباء: "صديق كل امرئ عقله، وعدوه جهله".
وقال بعض البلغاء : "خير المواهب العقل، وشر المصائب الجهل".
وقال بعض الشعراء:
يزين الفتى في الناس صحة عقلـه.. .. وإن كان محظوراً عليه مكاسبه
يشين الفتى في الناس قلة عقلـه .. .. وإن كرمت أعراقه ومناسـبه
يعيش الفتى بالعقل في الناس إنه.. .. على العقل يجرى علمه وتجاربه
وأفضل قسم الله للمــرء عقلــــه .. .. فليس من الأشياء شيئ يقاربه
إذا أكمل الرحمن للمرء عقلـــه .. .. فقد كملت أخلاقه ومآربه



لقد كرم الإسلام العقل ورفع العقلاء، بل جعل الله العقل شرطاً من شروط التكليف، فمن لا عقل له (كالمعتوه والمجنون) فلا تكليف عليه، لأن الله إذا أخذ ما وهب أسقط ما وجب (رفع القلم عن ثلاث: … وعن المجنون حتى يفيق).

فإذا كانت هذه منزلة العقل في الإسلام فهل معنى هذا أن يكون العقل حاكماً على الشرع؟ وهل معنى ذلك أن نرد أمراً شرعياً لأن عقل فلان من الناس لا يفهمه ولا يستوعبه؟

لماذا نقول هذا الكلام؟!
نقول هذا الكلام لأننا نعيش دعوة عملية لإحياء الفكر الاعتزالى، والدعوة إلى تحكيم العقل في نصوص الشرع ممن يسمون بـ "المفكرين الإسلاميين"، ونعيش في الوقت ذاته لوثة عقلية، وردة علنية عند من يسمون بالمستنيرين الحداثيين من العلمانيين، هذه النبتة الخبيثة التي أحسنت الظن بآرائها، وأسلمت القياد لعقولها، وأساءت الظن بربها وسفهت شرعة نبيها، فلا غرابة بعد كل ذلك أن تفتح لهم الأبواب ليطعنوا في دين الله وأحكامه ظاهرًا تارة وباطنا تارات أخرى، تحت ستار ما يسمى بحرية الفكر والبحث العلمي وغير ذلك من المسميات.

المعنى الحقيقي للإسلام:
والحق أن هؤلاء لم يعرفوا الإسلام أصلا، فضلا عن أن يكونوا من أهله، وممن يتكلمون باسمه، وقد غاب عنهم أو لم يعرفوا أن الإسلام هو الاستسلام التام، والانقياد الكامل والطاعة المطلقة لله ورسوله ـ فيما تحب وتكره، وفيما علمت حكمته أو لم تعلم.

وأهل العلم يقسمون أوامر الشرع وأحكامه إلى قسمين :
أوامر يسمونها معقولة المعنى: وهي التي يمكن بالنظر أن يعرفوا عللها ويستخرجوا ويستنبطوا حكمها.
وأوامر غير معقولة المعنى: أي التي لا يعرفون لها علَّة ولا تظهر لهم من ورائها حكمة وهذه يطلقون عليها لفظ الأحكام التعبدية؛ أي أنها تفعل على سبيل التعبد والاستسلام ولا دخل للعقل فيها.

وهذا القسم من الأحكام لا تكاد توجد فريضة من فرائض الدين إلا وفيها منه نصيب، وله فيها جانب .
فلماذا كان عدد ركعات الصلوات بهذه الأعداد المقررة (4 للظهر والعشاء 3 للمغرب 2 للصبح)؟ أمر تعبدي لا دخل للعقل فيه.

ولماذا كانت الزكاة بهذه المقادير المعلومة، ولم تكن أكثر قليلا أو أقل قليلاً؟ أمر تعبدي لا دخل للعقل فيه.

حرم الله أي نوع من أنواع تقديس الأحجار، وجعل من فعل شيئاً من ذلك إما مبتدعاً في الدين أو خارجاً عن عداد المسلمين، ثم في الحج تذهب فتطوف حول الكعبة المشرف وهي حجارة، وتقبل الحجر الأسعد، بل وتجاهد وتزاحم في الوصول إليه، لماذا ؟
هل لأن حجارة الكعبة أغلى ثمناً أو لأنها أجمل منظراً؟ لا.. ولكن لأن الذي منعك من تعظيم تلك هو الذي أمرك بتقديس هذه، فأنت تعظمها طاعة لله وامتثالاً لأمره. ويرحم الله عمر حين كان يقبل الحجر ويقول: "والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك".
وهذا الذي فعله عمر رضي الله عنه هو التطبيق الحقيقي لمعنى الإسلام، فإن الإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له ولرسوله بالطاعة، والخلوص من الشرك.

إن الله تعالى بهذا النوع من الأوامر يختبر عباده ويبتليهم هل سيتسلمون له ويذعنون لأوامره ويقدمون أمره على كل أمر؟ أم أنهم سيتفلسفون على الله ويعارضون أحكامه ويقدمون ما تستحسنه عقولهم وأهواؤهم على ما استحسنه الله وشرعه لهم؟

السلامة في التسليم:
إن السلامة يا عباد الله في التسليم، ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام، كما قال الإمام الطحاوي رحمه الله.
وبداية الخذلان أن يعارض شرع الرحمن بعقل الإنسان، وبداية الضلال أن تجعل من عقلك حكماً على شريعة ربك، هذه كانت بداية الشرك وهي أصل كل بدعة وضلال .
انظر إلي إبليس وقد أمره الله أن يسجد لآدم فجعل يقيس بعقله، وبدأ يناقش ويعارض ربه كيف تأمرني أن أسجد له وأنا خير منه وأكرم فأنا مخلوق من نار وهو مخلوق من طين؟! فادعى لنفسه الخيرية والفضل، وما درى أن الخيرية في طاعة رب البرية، فقاده عقله إلى العصيان فاستكبر وأبى؛ فكانت العاقبة الطرد من الرحمة والخلود في النيران، (قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ)(الأعراف:13)، (قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) (الأعراف:18)

وهكذا كل من اتخذ من إبليس مثلاً، وجعل منه له قدوة، وقدم فهمه وعقله على النص والشرع تكون عاقبته مثل عاقبه إبليس أو قريباً منها فيكون إما كافراً زنديقاً أو مبتدعاً ضالاً.

فأما الزنادقة الكفار فكأمثال ذلك الشاعر المسمى بخليفة إبليس كما يسميه أئمتنا، كان يناطح الشرع بعقله ويعارض أمر الله بفكره، حتى أخرجه ذلك عن دين الله كما حكم هو على نفسه فقال :
إذا كان لا يحظى برزقك عاقــل .. .. وترزق مجنوناً وترزق أحمقا
فلا عتب يارب السماء على امرئ .. .. رأى منك ما لا يشتهي فتزندقا


فحكم على نفسه بالزندقة التي طفحت بها أشعاره .. ومن أقواله:
وما حجى لأ حجــــار وبيت .. .. كؤوس الخمر تشرب في ذراها
إذا رجع الحليم إلى حجاه .. .. تنكر للشرائـع وازدرهـــا

وقال:
فلا تحسب مقال الرسل حقــا .. .. ولكن قـول زور ســطروه
وكان الناس في عيش رغيــد .. .. فجاءوا بالمحال فكدروه


وكانت الخاتمة الخروج الكامل الصريح عن دين الله حين قال لزوجته:
حياة ثم موت ثم بعث .. .. حديث خرافة يا أم عمرو.

وأمثال هذا الشاعر في القديم كثر وهم في الحديث أكثر، كهؤلاء الذين يخرجون على الناس يحاربون الحجاب والطلاق وتعدد الزوجات والظلم في الميراث ويهاجمون شريعة رب الأرض والسموات. والذين يقولون: إن شريعة الله لا تصلح لهذا الزمان. سبحانك هذا بهتان عظيم "كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً".
وما حال هؤلاء وأمثالهم إلا كما قال القائل :
كناطح صخرة يوما ليوهنها .. .. فلم يضرها وأوهى قرنه الوعـل
ولهم ولأشباههم نقول :
يا ناطح الجبل العالي ليكلمه .. .. أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل

وكما فعل تقديس العقل بهؤلاء فأخرجهم من الدين، كذلك فعل تقديم العقل على النقل في المعتزلة والحهمية وأصحاب المقالات الردية فأخرجهم عن دائرة أهل السنة والجماعة حين تركوا آيات وأحاديث الصفات وركنوا إلى عقولهم العقيمة فحملهم ذلك على أن عطلوا صفات الله، ووصفوه بغير ما وصف به نفسه ووصفه به نبيه صلى الله عليه وسلم.

العقل والنقل
إن العصمة كل العصمة، والنجاة كل النجاة في الرضى بدين الله، والتسليم لحكمة والإذعان التام لأمره، ولذلك كان من أعظم الفوارق بين أهل الإيمان والهدى وأهل الزيغ والردى مسألة العقل هذه.
فأهل الهداية جعلوا الشرع هو الأصل والعقل تابعاً له، وأهل الغواية على العكس من ذلك فجعلوا العقل حاكماً على النقل، فمتى خالف النص أفهامهم ردوا النقل أو تأولوه، فالعقل عندهم هو الأصل والشرع تابع له.. فسلم الله الأولين وأضل الآخرين (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الملك:22)

وقد يظن البعض أن في هذا الكلام حجراً على العقول أو تكبيلاً لها، وأن الإسلام يمنع من التفكير أو يقيد العقول.
اللهم لا.. إن الإسلام لم يمنع العقل حرية الفكر، وإنما ضبطها له؛ حتى لا يزيغ، وحدَّها له حتى لا يصير أضحوكة للبشر وألعوبة للشيطان، في الوقت الذي فتح له باب الفكر والابتكار فيما هو من اختصاصه وأطلق له العنان في مجال البحث العلمي والتقدم التكنولوجي يصنع ويطور تحت ضابط لا ضرر ولا ضرار.

وخلاصة القول أن العقل البشري مع الوحي الرباني كالعين مع الشمس، فكما أن العين لا تعترض على الشمس، وإنما تسير على نورها، فكذلك العقل لا يعترض على النص ولا يعارض مولاه بل يفهم النص ويهتدي بهداه. وصدق الله تعالى إذ يقول: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(النور: 63).

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة