لا تزال هجمات أعداء الإسلام تتوالى في تزايد مستمر ، وبشكل يؤكد عمق الخطر المحدق بالأمة المسلمة ، ولئن كانت رحى الحرب على المسلمين قد استنزفت من دمائهم وأعراضهم الشيء الكثير ، فإن الحروب المعاصرة اتخذت طابعا مغايراً يرتكز على تزوير التاريخ الإسلامي ، وتشويه حقائقه ، والطعن في رجالاته .
وكان في مقدّمة القضايا التي جُعلت غرضا لسهام المشكّكين ، نبينا الأكرم صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة ، وفي هذا الصدد ذكروا مروياتٍ وحرّفوا معناها ومقصدها ؛ ليوهموا ضعاف الإيمان أنه قد صدر ما ينافي كمال الأدب والأخلاق من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وما ذكروه من الروايات تتناول حادثتين : إحداهما حصلت قبل مبعثه صلى الله عليه وسلّم بخمس سنين – كما هو عند كثير من أهل السير - ، والأخرى حصلت بعد ذلك بكثير ، وتحديدا في المرحلة المدنية ، وحاصل تلك الروايات عندهم أنها تشير إلى حصول التعرّي منه صلى الله عليه وسلم .
أما ما يتعلّق بالحادثة الأولى ، فقد روى البخاري و مسلم أن جابر بن عبد الله حدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان ينقل مع قريش الحجارة للكعبة وعليه إزاره ، فقال له العباس عمه : يا ابن أخي ، لو حللت إزارك فجعلت على منكبيك دون الحجارة ، قال : فحله فجعله على منكبيه ، فسقط مغشيا عليه ، فما رؤي بعد ذلك عريانا صلى الله عليه وسلم .
وعند الإمام أحمد بسند قوي عن أبي الطفيل رضي الله عنه ، وفيه : " فبينا النبي صلى الله عليه وسلم يحمل حجارة من أجياد وعليه نمرة ، فضاقت عليه النمرة ، فذهب يضع النمرة على عاتقه فيُرى عورته من صغر النمرة ، فنودي : يا محمد خمّر عورتك ، فلم ير عريانا بعد ذلك .
وبإسناد صحيح عنه : " فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل إذ انكشفت عورته – وفي رواية : سوءته أو نمرته - ، فنودي : يا محمد غط عورتك " ذكرها الإمام الذهبي في " سير أعلام النبلاء " جزء السيرة ، والحافظ المقدسي في " الأحاديث المختارة " ، وأشار إليها الحافظ ابن حجر في " الفتح " .
وفي رواية البزار و الطبري بسند حسن لغيره عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال : لما بنت قريش الكعبة ، انفردت رجلين رجلين ينقلون الحجارة ، فكنت أنا وابن أخي ، فجعلنا نأخذ أزرنا فنضعها على مناكبنا ونجعل عليها الحجارة ، فإذا دنونا من الناس لبسنا أزرنا ، فبينما هو أمامي إذ صُرع ، فسعيت وهو شاخص ببصره إلى السماء قال فقلت لابن أخي : ما شأنك ؟ ، قال : ( نُهيت أن أمشي عريانا ) ، قال : فكتمته حتى أظهر الله نبوته .
وعند تأمّل الروايات سابقة الذكر تظهر لنا الحقائق التالية :
أولا : كان النبي صلى الله عليه وسلم متزراً بنمرة ، والنمرة عند العرب نوع من الكساء يتخذونه إزارا أو رداء ، قال صاحب مختار الصحاح : ((والنَّمِرة أيضا بُردة من صوف تلبسها الأَعراب)) .
ثانيا : كان نقل الحجارة يتم بخروج الرجال مثنى مثنى وليس جماعات ، كما في رواية العباس رضي الله عنه : " لما بنت قريش الكعبة انفردت رجلين رجلين ينقلون الحجارة " ، وبذلك كان نصيب العباس رضي الله عنه أن يكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثالثا : أن العباس رضي الله عنه رأى أن حمل تلك الحجارة دون حائل كان يؤذيهم ، فطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يتقي أذى هذه الحجارة بوضع الإزار على كتفه ، كما في رواية البخاري : " ، فقال له العباس عمه : يا ابن أخي ، لو حللت إزارك فجعلت على منكبيك دون الحجارة " .
رابعا : أن النبي صلى الله عليه وسلم وعمه العباس كانا يعيدان ربط أزرهما إذا دَنَيَا ، وذلك ما أشار إليه قول العباس رضي الله عنه : " فإذا دنونا من الناس لبسنا أزرنا " .
فإذا قمنا باستحضار ما سبق ، فإننا سنتمكّن من تخيّل المشهد كما هو على حقيقته ، حيث قام النبي صلّى الله عليه وسلّم وعمه لينقلا الحجارة مثنى من جبل " أجياد " ، فلما أثّرت الحجارة على عواتقهم اقترح العباس على رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يحلا أزرهما ليضعاها على أكتافهما كي يبعدا عنهما الأذى ، فقام كلٌّ منهما بحل إزاره ليضعه على عاتقة من خلفه ، بحيث ينسدل على جسده من الخلف ويغطّي عورته – كما يدل عليه سياق حديث أبي الطفيل الذي ذكرناه سابقا - ، فإذا دَنَيا من الناس أعادا لبس الأزر ، لكن نمرة النبي صلى الله عليه وسلم كانت أقصر مما هي عند العباس رضي الله عنه ، ومن هنا انكشفت عورته ، فعندها وكّل الله له ملكاً أن يأمره بتغطية عورته ، وكان من جرّاء هذا النداء أن سقط وأُغشي عليه . وما تقدّم يدل على أنه لما وضع نمرته على منكبيه لم تكن عورته حينها باديةً للعيان ، بمعنى أنه لم يسدلها على جانبيه دون أن تُغطّي ظهره وما أسفل منه .
والذي يؤكّد ذلك ، ما جاء في رواية أبي الطفيل رضي الله عنه ، والتي سبق الإشارة إليها : " فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل إذ انكشفت عورته – وفي رواية : سوءته أو نمرته - ، فنودي : يا محمد غط عورتك " ، فقد استعمل الراوي لفظة " إذ " التي تدل على الفجاءة ، ولمزيد من التوضيح نقول : لنتخيّل أن شخصا قد ارتدى قطعة من القماش وجعلها على كتفيه ، فإذا كان مستوياً وبلغت قطعة القماش أنصاف ساقيه ، فإنه إذا حنى ظهره فلاشك أنها سترتفع ، وذلك لاتصالها بالكتفين مباشرة ، وذلك هو عينُ ما حدث للنبي صلى الله عليه وسلم ، وعليه فإن انكشاف العورة كان أمراً عارضاً عن غير قصدٍ ، جاءت العصمة الإلهية لتستره عن أنظار عمّه رضي الله عنه – سوى تلك اللحظة الخاطفة بعد سقوطه صلى الله عليه وسلم – .
وإذا اعترض معترض فقال : " وماذا عن عورته من الأمام ؟ " ، فالجواب على ذلك ميسور ، فإن الروايات السابقة تشير إلى أن وضع النبي صلى الله عليه وسلم للنمرة على تلك الكيفية إنما كان في حالة بعده عن أنظار الناس ، وكذلك كان حال عمّه ، فإذا اقتربا بادرا بلبس الأزر ، ولم يكن العباس رضي الله عنه يرى عورة النبي صلى الله عليه وسلم أثناء ذلك ؛ لأننا إذا استحضرنا أحوال العباس ومكانه من النبي صلى الله عليه وسلم فسنجد أن له ثلاثة أحوال : فإما أن يكون خلف النبي صلى الله عليه وسلم ، وعندها لن يرى عورته ، وإما أن يكون موازياً له ، وهنا كذلك لن يراه ، أو أن يكون أمام النبي صلى الله عليه وسلم ، ولاشك عندها أن الرؤية غير حاصلة ، وقد نصّت رواية البزار و الطبراني سابقة الذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لمّا صُرع كان ماشياً أمام عمّه ، لا معه ولا خلفه .
ونترك الكلام عن هذه الحادثة لننتقل إلى بيان شبهتهم الأخرى ، وهي ما نُسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من تعرّيه عند قدوم زيد بن حارثة رضي الله عنه واستقباله له في بيته ، وعمدتهم في ذلك ما رواه الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت : قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي ، فأتاه فقرع الباب ، فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرياناً يجرّ ثوبه ، والله ما رأيته عريانا قبله ولا بعده ، فاعتنقه وقبّله " وقد جاء في "شرح معاني الآثار " نحواً من هذه الرواية .
بيد أن هذه الرواية ، لا تثبت في ميزان التحقيق ؛ ففي سندها أبي يحيى بن محمد ، قال عنه الذهبي : ضعيف ، وقال عنه الساجي : في حديثه مناكير وأغاليط ، كما أن في الحديث علة أخرى ، وهي إبراهيم بن يحيى بن محمد وهو لين الحديث ، وقال عنه الرازي ضعيف ، والحديث ضعّفه الإمام ابن مفلح في " الآداب الشرعية " ، وأورده العلامة الألباني ضمن " سلسلة الأحاديث الضعيفة " .
ولو افتراضنا صحّة الرواية ، فليس فيها أي مطعن في المصطفى عليه الصلاة والسلام ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلق زيداً عارياً ، بدليل قول عائشة رضي الله عنها : " فقام إليه عرياناً يجرّ ثوبه " ، فلو قابله عارياً لما كان في جرّ ثوبه فائدة ؛ وإنما جرّ ثوبه ليستتر به وهو في طريقه لفتح الباب ، وأما قول عائشة " والله ما رأيته عرياناً قبله ولا بعده " ، فإنه من المعلوم أنها قد رأته كذلك بحكم أنها زوجته ، وإنما المعنى أنها ما رأته عارياً في حالٍ دون كونه مع أهله إلا هذه المرّة ، حيث قام النبي صلى الله عليه وسلم لشدة شوقه للقاء زيد بشدّ إزاره عليه وهو في طريقه إليه ، فأين الطعن في ذلك ؟ .
ولكن لا عجب في ورود الشبهة السابقة ، فإننا نتكلم مع قوم أعماهم الحقد ، واستهواهم التعصّب ، والله متمّ نوره ولو كره الكافرون.