الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

فلا تعجبك... ولا تعجبك

فلا تعجبك... ولا تعجبك

فلا تعجبك... ولا تعجبك

من الأساليب المعهودة في القرآن الكريم والملحوظة التفنن في تكرار الألفاظ، وذكر الأخبار، وتقرير الأحكام. ففي مجال الألفاظ نقرأ قوله سبحانه: {ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم} (هود:77)، وقوله أيضاً: {ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيء بهم} (العنكبوت:33). وفي مجال الأخبار نقرأ قوله سبحانه على لسان لوط عليه السلام: {قال رب انصرني بما كذبون} (المؤمنون:26)، وقوله كذلك: {قال رب انصرني على القوم المفسدين} (العنكبوت:30)، وفي مجال الأحكام نقرأ قوله تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم} (الأنعام:151)، وقوله سبحانه: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم} (الأسراء:31)، ونحو هذا في القرآن كثير.

ومما هو من قبيل التفنن في الألفاظ قوله سبحانه مخاطباً نبيه بصدد الموقف من أهل النفاق: {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون} (التوبة:55)، وقوله تعالى: {ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون} (التوبة:85).

والحديث عن هاتين الآيتين الكريمتين من جهتين:

الأولى: فائدة التكرار، وبيان فائدة التكرار هنا أنه لما كان الاشتغال بالأموال والأولاد، من أحب الأشياء إلى الناس، اقتضى ذلك التحذير من الأموال والأولاد بين حين وآخر. وهذا شبيه بتكرار رغبة المؤمن بالمغفرة؛ إذ لما كانت رغبته شديدة في ذلك كرر سبحانه قوله: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} في موضعين من سورة النساء، الآيتين (48،166).

ومع أن التكرار في الموضعين الغرض منه التأكيد، غير أن الفرق بينهما، أن التكرار في آيتي التوبة القصد منه التحذير من الانجرار وراء شهوتي المال والبنين، في حين أن التكرار في آيتي النساء القصد منه المبالغة في تفريح المؤمنين بالمغفرة.

إذن، الغرض من التكرار هنا تقرير ما نزل له وتأكيده، وإرادة أن يكون حاضراً في ذهن المخاطب دوماً، لا ينساه ولا يسهو عنه، وأن يعتقد أن العمل به مهم يفتقر إلى فضل عناية به. وأن مما يجب أن يُحذر منه الاشتغال بالأموال والأولاد، لأنهم أشد الأشياء جذباً للقلوب والخواطر، وما كان كذلك يجب التحذير منه مرة بعد أخرى.

الثانية: أوجه الاختلاف بين ألفاظ الآيتين، حيث خالفت الآيتان إحداهما الأخرى من أربعة وجوه:

الأول: أن الآية الأولى جاء العطف في أولها بالفاء {فلا تعجبك}، والأخرى عُطفت بالواو {ولا تعجبك}؛ ووجه ذلك: أن الآية الأولى على صلة بالآية التي قبلها، وهي قوله: {ولا ينفقون إلا وهم كارهون} (التوبة:54)، فبعد أن وصف الله المنافقين بكونهم كارهين للإنفاق، لكونهم معجبين بكثرة تلك الأموال، جاءت الآية التالية ناهية عن ذلك الإعجاب، فكان المناسب الربط بينهما بالفاء التي تفيد التعقيب والترتيب.

أما في الآية الثانية، فجاء العطف بالواو؛ لأنه عطف نهي على نهي، إذ الآية السابقة تنهى عن الصلاة عليهم {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره} (التوبة:84)، وهذه تنهى عن الإعجاب بأموالهم وأولاده، فكان المناسب العطف بالواو التي تفيد مجرد الجمع، ولا تفيد ترتيباً ولا تعقيباً.

الثاني: أن الآية الأولى عُطف فيها الأولاد على الأموال بإعادة حرف النفي (لا)، {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم}، أما الآية الثانية فجاء العطف فيها من غير إعادة حرف النفي، {ولا تعجبك أموالهم وأولادهم}؛ ووجه ذلك: أن ذكر الأولاد في الآية الأولى جاء تبعاً لمجرد التكملة، إذ المقام مقام ذم أموالهم، حيث لم ينتفعوا بها، فلما كان ذكر الأولاد تكملة، كان شبيهاً بالأمر المستقل، فأعيد حرف النفي في عطفه، بخلاف المقام في الآية الثانية، فإن ذكر الأموال والأولاد معاً، مقصود منه تقليل شأنهما في نظر المسلمين؛ لما لهما في كثير من الأحيان من تأثير على سلوك المؤمنين.

وثمة وجه آخر هنا، ذكره بعض المفسرين، وهو أن ذكر (لا) مشعر بالنهي عن الإعجاب بكل من الأموال والأولاد على انفراد، ويتضمن ذلك النهي عن المجموع. وعدم ذكرها مشعر بالنهي عن الإعجاب بالمجموع، ويتضمن ذلك النهي عن الإعجاب بكل واحد على انفراد. فدلت الآيتان - بالمنطوق والمفهوم - على النهي عن الإعجاب بالأموال والأولاد، مجتمعين ومنفردين.

الثالث: أنه سبحانه في الآية الأولى قال: {إنما يريد الله ليعذبهم}، بإثبات (اللام)، وحذف (أن)، بينما قال في الآية الثانية: {إنما يريد الله أن يعذبهم} بإثبات (أن) وحذف اللام؛ ووجه ذلك: أن حذف حرف الجر مع (أن) كثير. وتقدير (أن) بعد اللام كثير. ومن محاسن التأكيد الاختلاف في اللفظ. وقد اجتمع الاستعمالان في قوله تعالى: {يريد الله ليبين لكم} (النساء:26)، وقوله سبحانه: {والله يريد أن يتوب عليكم} (النساء:27).

الرابع: أنه سبحانه قال في الآية الأولى: {في الحياة الدنيا}، فأثبت لفظ { الحياة}، وقال في الآية الثانية: { في الدنيا}، فأسقط لفظ {الحياة}؛ وإثباته في الآية الأولى جاء على الأصل؛ إذ هم أحياء على الحقيقة، يأكلون ويشربون. وحذفه في الآية الثانية؛ تنبيهاً على خسة الدنيا، وأنها لا تستحق أن تسمى حياة، وأن حياتهم كلا حياة، وهذا يشير إلى أنهم بمنـزلة الأموات، ولا سيما حين تَقَدَّمها ذكر موت المنافقين، فناسب أن لا تسمى حياة.

ويمكن أن يقال: إن الآية الأولى ذكرت حالة أموالهم في حياتهم، فكان ثمة حاجة إلى ذكر (الحياة). أما الآية الثانية فقد ذكرت حالة أموالهم بعد مماتهم، لقوله: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا} (التوبة:84)، فقد صاروا إلى حياة أخرى، وانقطعت حياتهم الدنيا، وأصبحت أثراً بعد عين، ومن ثم كان من المناسب عدم ذكرها.

بقي أن يشار إلى لطيفة وردت في الآيتين، تتعلق بتقديم الأموال على الأولاد، {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم}، مع أن الأولاد أعز من الأموال؛ وذلك -كما ذكر الآلوسي- لعموم مساس الحاجة إليها دون الأولاد.

أخيراً، فهذا مجمل ما ذكره المفسرون من أوجه الاختلاف بين ألفاظ الآيتين الكريمتين. ونحن بعد نقول قاله الإمام الرازي ، بعد أن ذكر وجوه الاختلاف بين الآيتين، قال رحمه الله: فهذه وجوه في الفرق بين هذه الألفاظ، والعالم بحقائق القرآن هو الله تعالى.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة