الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

العقلانية.. بين السلفيين والمخالفين

العقلانية.. بين السلفيين والمخالفين

العقلانية.. بين السلفيين والمخالفين

قال صاحب العالِم السلفي له وهو يحاوره: إنكم - معشرَ السلفيين - متهمون بأنكم ليسوا بعقلانيين!
قال العالم السلفي: إذا كان المقصود بالعقلانية قبول مقتضيات العقل، بأن تقبل النتائج التي تؤدي إليها الحجة العقلية الصحيحة، وبأن لا يقبل التناقض وألا تُقبَل دعوى إلا بدليل، وإذا كان المقصود به إعمال العقل والتفكر؛ فنحن أجدر من غيرنا بوصف العقلانية.

قال صاحبه: كيف تكونون أكثر عقلانية من غيركم وفيهم من يقدم العقل على النص؟ أليس مثل هذا أجدرَ بوصف العقلانية منكم؟

قال العالم: بل هذا من قلة عقلهم!

قال صاحبه: كيف؟

قال العالم: أليسوا مسلمين دلّتهم عقولُهم على أن محمداً رسول الله - صلى الله عليه وسلم، وأن الكتاب الذي جاء به هو كلام الله؟

قال صاحبه: بلى!

قال العالم: فقد علموا - إذن - أن ما قاله الله في كتابه أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - هو الحق الذي لا ريب فيه؟

قال صاحبه: أَجَلْ!

قال العالم: فما معنى أن تجعل العقلَ فوق كلام تعلم أنه الحق؟

قال صاحبه: فماذا تقولون أنتم معاشر السلفيين؟

قال العالم: نقول ما قال كثير من أئمتنا: إن ما دل عليه العقل الصريح لا بد أن يكون موافقاً لما جاء به النقل الصحيح، فإذا حدث خلاف بينهما في أمر معين؛ فلا بد أن يكون راجعاً إما إلى: خطأ في نقل النص، أو في فهمه، أو في أن ما نُسِب إلى العقل ليس في الحقيقة بعقل صريح.

قال له صاحبه: إن هؤلاء المسمين بالعقلانيين يقولون: إنكم لا يمكن أن تكونوا عقلانيين، وأنتم تبنون دينكم على التبعية لأناس لا مزية لهم إلا أنهم سلف عاشوا في الماضي؟

قال العالم السلفي: نحن أولاً لا نأخذ ديننا من الرجال سواء كانوا في الماضي أو في الحاضر. إن مصدر الدين عندنا هو كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، لا نقدم عليهما غيرهما، كما أمرنا الله - تعالى - بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: ١].

قال صاحبه: فما صلتكم بأولئك السلف إذن؟

قال العالم السلفي: دعنا أولاً نحدد ماذا نعني بالسلف. السلف عندنا هم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم التابعون لهم، ثم تابعو أولئك التابعين. وصِلَتُنا بهم هي الاقتداء بهم في فهم الدين وتطبيقه لأسباب إذا تدبّرها الإنسان وجدها في غاية العقلانية.

قال صاحبه: ما هذه الأسباب؟

قال العالم: منها:

أولاً: أن الله تعالى قد أثنى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثناء يدل على فقههم للدين وإخلاصهم في العمل به، من ذلك قوله - تعالى -: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْـمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [الفتح: ٨١ - ٩١]

{وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات: ٧].

وثانياً: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم».
والخيرية تتضمن الفقه في الدين وحسن العمل به، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «من يُرِدِ اللهُ به خيراً يفقّهْهُ في الدين».

وثالثاً: أن هذه الأجيال الثلاثة هي الأجيال التي نزل القرآن بلغتها وتكلم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بلسانها؛ فهي أجدر بأن تفقه كلام الله وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غيرها؛ ولأن الصحابة منهم عاصروا نزول الوحي، وشهدوا المناسبات التي تكلم فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فتعلموا منه مباشرة كما تعلم بعضهم من بعض.


ورابعاً: أن الله - تعالى - أمرنا بأن نقتدي بكل من شهِد له بأنه على الحق، كما قال - تعالى -: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: ٠٩].

قال صاحبه: لكن هذا معناه أنكم تجمدون على فهم قديم للدين ولا تسمحون بفهم جديد له ولا اجتهاد فيه؟

قال العالم:

أولاً: إنه لا يضير الفهم الصحيح أن يكون قديماً أو جديداً؛ فنحن ما نزال نحاول فهم الشعر الجاهلي كما فهمه من سبقنا، ولا يزال الغربيون يحاولون فهم فلسفات اليونان كما فُهمت في عصرها.

وثانياً: إن مما نتلقاه من السلف هو ما يمكن أن تسميه بالإدراك الأساس لمعاني النصوص، وهو إدراك ضروري لكل تفكّر في النصوص واجتهاد فيها.

قال صاحبه: ما ذا تعني؟

قال العالم: أعني أنك إذا لم تدرك المعنى الأساس للكلام؛ فكيف تتأمله أو تفكر فيه؟

قال صاحبه: إذن؛ فأنتم تُعمِلون العقل حتى في النصوص؟

قال العالم: أجل! لأن ربنا يأمرنا بأن نتدبر كتابه؛ وهل يكون تدبر إلا بإعمال العقل؟

قال صاحبه: ما الفرق إذن بينكم وبين من يسمَّوْن بالعقلانيين؟

قال العالم: نحن لا نسلِّم بأنهم هم العقلانيون، بل نرى في منهجهم تناقضاً يتنافى مع العقلانية كما ذكرت لك من قبل.

قال صاحبه: فما مجال العقل في الشرع في رأيكم؟

قال العالم: يعمل العقل في مجالات كثيرة بيّنها القرآن الكريم، فمنها إدراك المعنى الأساس، وهو إدراك عقلي يستوي فيه المؤمن والكافر الذي يتكلم اللغة التي نزل بها كتاب الله وتحدث بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال - تعالى -: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: ٥٧] .

إن الإنسان لا يؤمن بكلام أو ينكره، ولا يرويه على حقيقته أو يحرفه؛ إلا بعد أن يعقله.

قال صاحبه: شيء آخر مهم يتهمونكم به ويعدونه أمراً مخالفاً للعقل؛ يقولون: إنه على الرغم من أنكم تقرؤون قول الله - تعالى -: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: ١١]، إلا أنكم في الواقع تشبِّهون الله - تعالى - بمخلوقاته حين تصفونه باستواء حقيقي، ونزول حقيقي، أو تقولون: إن له عيناً حقيقية؟

قال العالم: فماذا يقولون هم؟ أيقولون إن الله - تعالى - يصف نفسه بأوصاف غير حقيقية؟

قال صاحبه: يقولون: إن هذه الصفات لا يتصف بها على حقيقتها إلا المخلوقات، ولذلك فلا بد من تأويلها حين يوصف بها الله، تعالى.

قال العالم: هذا أيضاً من قلة عقلهم وضيق عطنهم، وإلا فأين وجدت في العقل ما يدل على أن الصفات الحقيقية هي صفات المخلوقات؟ بل إن الذي يدل عليه العقل وتدل عليه المشاهدة؛ هو أن للصفات معاني تأخذ كيفيات مختلفة بحسب الموصوف بها؛ فالعين - مثلاً - لها معنى واحد، لكن عين الإنسان غير عين الحمامة، وعين الحمامة غير عين الجمل، وهكذا. فإذا صح هذا في المخلوقات التي بينها شبه، فلماذا لا يصح بالنسبة لله الذي ليس كمثله شيء؟

إننا نعرف معاني صفات مثل: العين، والاستواء، والنزول، والرحمة؛ لكننا لا نعرف الكيفيات التي يتخذها حين يتصف بها الخالق، سبحانه. وهذا هو معنى قول الإمام مالك: الاستواء معلوم والكيف مجهول.

ثم إنك إذا جعلتها قاعدة لك مطّردة؛ أن لا تصف الله - تعالى - بصفة يتصف بعض مخلوقاته بمعنى من معانيها؛ انتهى بك الأمر إلى إنكار وجود الخالق؛ لأنك لن تستطيع حينئذٍ أن تصفه - سبحانه - حتى بأنه موجود ما دمت تصف مخلوقاته بهذه الصفة، ولن ينفعك أن تقول (إنك تلجأ إلى التأويل) لأنك حين تؤول لا بد لك من استعمال صفة الصفات، كل ما هنالك أنك تستبدل بالصفة التي جاءت في كتاب الله صفة أخرى؛ فهل تؤوِّل هذه ثم تؤوِّل التي أوّلت بها.. وهكذا إلى ما لا نهاية؟

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة



الأكثر مشاهدة اليوم

خواطـر دعوية

فأما اليتيم فلا تقهر

إن مظلة العدالة في الإسلام تحمي الضعاف، وتحنو على الصغار وتحفظ حقوقهم وتنظم علاقاتهم فلا يستذل فيها ضعيف لضعفه،...المزيد