الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

ثمرات تزكية النفوس

ثمرات تزكية النفوس

كانت التزكية هي المقصد الثاني من مقاصد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (الجمعة:2)

وقد بينا في مقال سابق معناها، وحكمها، ومدى الحاجة إليها، وفي هذا المقال نحاول أن نبين بعض عواقب التزكية وثمراتها لنعلم لماذا كانت المقصد الثاني من مقاصد البعثة النبوية.. فمن ذلك:

ـ فلاح الدنيا وسعادتها:
فقد ذكر ربنا تبارك وتعالى في سورة الشمس هذه الحقيقة بعد أن أقسم أحد عشر قسما ثم أتبع ذلك بقوله: " قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها"، وفي سورة الليل قال سبحانه : "قد أفلح من تزكى، وذكر اسم ربه فصلى".

وإذا كان كل الناس يبحثون عن السعادة؛ فالسعادة كلها في اتباع شرع الله والرضا كله في القرب منه كما قال تعالى : (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طـه:123،124)

والتزكية في حقيقتها هي ضبط النفس وتقويمها لتسير على منهاج الشرع فمن فعل ظفر بسعادة الدنيا وهناءتها، واكتمل له ذلك بفوز الآخرة وهو الثمرة الثانية للتزكية.

ونجاة الآخرة:
فالنجاة في الآخرة لأصحاب النفوس الزاكية والقلوب الطاهرة والأعمال الصالحة وكل هذه لا تكون إلا بتزكية النفس وتطهيرها من أدرانها، وإزكاء جذوة همتها .. قال تعالى: (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى، وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى، جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى) (طـه:74 ـ 76).

ـ تطويع النفس للسير في طريق الحق:
فالحرب بين النفس والقلب حرب طاحنة، ولابد من الظفر فيها لأحد الطرفين، فإذا تسلطت النفس على القلب قادته إلى الجحيم وهوت به إلى أسفل سافلين، وإن ظفر القلب بها قادها إلى أعلى عليين ورضا رب العالمين.. ولا تكون النجاة إلا بظفر القلب بالنفس.

يقول ابن القيم رحمه الله: وقد اتفق السالكون على اختلاف طرقهم وتباين سلوكهم على أن النفس قاطعة بين القلب وبين الوصول إلى الرب، وأنه لا يُدخل عليه سبحانه ولا يُوصل إليه إلا بعد إماتتها الظفر بها.
وقال بعض العارفين: انتهى سفر الطالبين إلى الظفر بأنفسهم.
وهو معنى مأخوذ من قوله تعالى: "وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى".
فحقيقة التزكية أنها ترويض للنفس لقبول حكم القلب.

ولا يظنن أحد أن الأمر يسير، بل والله إنه لجهاد عظيم، وسفر طويل، والنفس كالدابة الحرون الشرود النفور، ويحتاج ترويضها إلى حنكة وخبرة وترهيب وترغيب، وهجر وضرب، ومنح ومنع، وتدرج حتى بلوغ المأمول والمهم ألا تغفل عن تربيتها وتزكيتها فإنما كما قال البوصيري:

والنفس كالطفل إن تهمله شب على .. .. حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
فجاهد النفس والشيطان واعصهما .. .. وإن هما محضاك النصح فاتهم.

ــ في التزكية عز النفس:
فالنفس بطبيعتها طموحة إلى الشهوات واللذات، كسولة عن الطاعات وفعل الخيرات، ولكن في قمعها عن رغبتها عزها، ومن تمكينها ما تشتهي ذلها وهوانها، فمن وفق لقيادها نال المنى، ونفسه بنى، ومن أرخى لها العنان ألقت به في سبل الهلاك والردى، ونفسه هدم وما بنى:
فمن هجر اللذات نال المنى ... ومن أكب على اللذات عض على اليد
ففي قمع أهواء النفوس اعتزازها ... وفي نيلها ما تشتهي ذل سرمد
فلا تشتغل إلا بما يكسب العلا ... ولا ترضي للنفس النفيسة بالردي

وإذا أردت أن تعرف الفارق فانظر إلى يوسف وامرأة العزيز، لما سما بنفسه عنها أورثه الله عز الدنيا بملك الأرض، وحسن الذكر، وكمال العاقبة.. وانظر راهب بني إسرائيل لما خانته نفسه، فهوى في الزنا، ثم قتل الولد، ثم قتل أمه، ثم سجد لإبليس، (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ) (الحشر:16،17)

ــ صيانة الدين والصدع بالحق:
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيأتي على الناس زمان يبيع أناس دينهم بعرض من الدنيا قليل.. قال الحسن البصري: "فوالله لقد رأيناهم صوراً ولا عقولاً، وأجساماً ولا أحلاماً، فراش نار وذباب طمع، يغدون بدرهمين ويروحون بدرهمين، يبيع أحدهم دينه بثمن العنز". أخرجه أحمد

وأما أهل التزكية فحفظهم الله بحسن تربيتهم لنفوسهم وتزكيتهم لها كما حدث بين الأمام الزهري وهشام بن عبد الملك: وكان هشام يرى أن الذي تولى كبر الإفك علي بن أبي طالب، فقال يوما لبعض جلسائه من العلماء الطيبين: من الذي تولى كبر الإفك؟ فقال: هو عبد الله بن أبي. قال: كذبت، بل هو علي ــ فقال الرجل: الأمير أعلم بما يقول. فسأل الإمام الزهري: فرد قائلا: "هو عبد الله بن أبي عليه من الله ما يستحق". قال هشام: كذبت. فانتفض الزهري في وجه أمي المؤمنين وقال: أنا أكذب لا أب لك؟ والذي لا إله غيره لو نادى مناد من السماء أن الكذب حلال ما كذبت". والله لقد حدثني سعيد وعروه وعبيدة وعلقمة عن عائشة: بأن الذي تولى كبره هو عبد الله بن أبي. فارتعد هشام وقال: هيجناك يا إمام فسامحنا.
وأهل الحق لهم في ذلك المواقف الفائقة، وإنما يكون الثبات بقدر الإيمان ويكون الإيمان بقدر تزكية النفس.

ــ اطمئنان القلب إلى جميل صنع الرب:
فمن زكى نفسه وربطها بخالقها سكنت إليه عند الملمات، وحسنت به الظن عند المدلهمات وكانت على ثقة بجميل الاختيار وأن الله لا يسلم أوليائه.
واسمع إلى موسى وقد عاين قومُه الهلاك فرأوا البحر أمامهم وفرعون وجنده وراءهم فقالوا: إنا لمدركون... وموسى يمشي بكل ثقة ولا يلتفت ويقول: كلا إن معي ربي سيهدين.
وإبراهيم يلقى في النار وهو يقول: حسبي الله ونعم الوكيل.
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار يطمئن صاحبه وقد وقف الكفار على رأسيهما فما وجف قلبه ولا تحركت سواكنه ولكن قال قولة الواثق: ما ظنك باثنين الله ثالثهما.
ومن سلك الدرب الذي سلكوه وهبه الله من الاطمئنان بقدر قربه منهم وأخذه عنهم.

ـ الاستقامة:
الاستقامة هي روح تحيا بها الأحوال، وزكاة تربو بها الأعمال، فلا زكاة لعمل ولا بقاء لحال بدونها.
وهي غاية ومطلب رباني قال تعالى: "فاستقم كما أمرت و من تاب معك"، وقال: "أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه". وقال صلى الله عليه وسلم لسفيان بن عبد الله كما في صحيح مسلم " قل آمنت بالله ثم استقم".
وفيه عن ثوبان : " استقيموا ولن تحصوا واعلموا خير أعمالكم الصلة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن".
وقد سئل الصديق عن الاستقامة فقال : ألا تشرك بالله شيئا . قال مجاهد : استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى لحقوا بالله.
وسئل عنها عمر فقال: أن تستقيم على الأمر والنهي ولا تروغ روغان الثعالب.
وسئل عنها عثمان فقال: استقاموا: أخلصوا العمل لله.
قال ابن تيمية: استقاموا على محبته وعبوديته، فلم يلتفتوا عنه يمنة ولا يسرة.
فمن زكى نفسه استقام ومن تركها وهواها أخذت به ذات اليمين وذات الشمال فإنما الاستقامة لأهل التزكية.

لما احتضر أبو سفيان بن الحارث قال: "لا تبكوا عليّ فإني لم أتنظف " أتلطخ" بخطيئة منذ أسلمت". وكان بين إسلامه وموته 12 سنة. وكان يصلي من الضحى حتى تكره الصلاة قبيل الظهر، ثم يصلي من الظهر إلى العصر، هكذا كل يوم.
وأما الربيع بن خثيم تلميذ ابن مسعود: فقد قال بعض أصحابه: "صحبت الربيع عشرين سنة فما سمعت منه كلمة تعاب". وقال بعضهم: "فما تكلم إلا بكلمة تصعد".
وبلغ من حفظه للسانه أنه جاءته ابنته يوما فقالت: يا أبت أذهب ألعب؟ فقال: اذهبي فقولي خيرا... وأبى أن يقول العبي.. صيانة للسانه أن ينطق بكلمة اللعب.

وعندما قتل الحسين رضي الله عنه: قال رجل : لئن لم أستخرج اليوم منه كلمة سيئة فلن يكون ذلك أبدا.. فجاءه فقال: يا أبا يزيد قتل ابن فاطمة عليهما السلام!! قال: فاسترجع وتلا قوله تعالى: (قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)(الزمر:46). فقال ما تقول يا أبا يزيد؟ قال: ما أقول؟ إلى الله إيابهم، وعلى الله حسابهم.

وأما عبد الله بن عون: فقال عنه خارجة بن مصعب: صحبت عبد الله بن عون أربعا وعشرين سنة، فما أعلم أن الملائكة كتبت عليه خطيئة.

كان سفيان الثوري يسمي وهيب بن الورد الطبيب: وكان إذا انتهى من مجلس الحديث قال لأصحابه: قوموا إلى الطبيب. يعني وهيبا.

وكان وهيب يقول: إن استطعت ألا يشغلك أحد عن الله فافعل.

ومن أقواله: لا يكن هم أحدكم في كثرة العمل، وليكن همه من إحكامه وتحسينه، فإن العبد قد يصلي وهو يعصي الله في صلاته، وقد يصوم وهو يعصي الله في صيامه.
وهو مصداق قول الصادق الأمين : رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش ورب قائم ليس له من قيامه إلا طول السهر.
ومن جليل كلامه أيضا: لأن أدع الغيبة أحب إليّ من أن تكون لي الدنيا منذ خلقت إلى أن تفنى فأجعلها في سبيل الله..ولأن أغض بصري أحب إليّ من أن تكون لي الدنيا منذ خلقت إلى أن تفنى فأجعلها في سبيل الله، ثم تلا: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم.
وكان يقول: اتق الله أن تسب إبليس في العلانية، وأنت صديقه في السر.

وفي الختام نقول: إن ثمرات التزكية أكثر من هذا وأعظم ولكنها إشارة تدل على ما وراءها، وتوطئة نستحث بها الهمم ، والله من وراء القصد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة



الأكثر مشاهدة اليوم

خواطـر دعوية

المواساة خلق أهل المروءة

"المواساة" خلق نبيل، من مكارم الأخلاق ومحاسن العادات التي دعا إليها الإسلام، وهو من أخلاق المؤمنين، وجميل...المزيد