الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

تجفيف منابع الإغاثة

تجفيف منابع الإغاثة

تجفيف منابع الإغاثة

في كتابه الكريم، قال سبحانه وتعالى: (ومن أحسن قول ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين)(فصلت:33).

وأن يقول الله سبحانه وتعالى ذلك، فإن معنى هذا أن تتضافر الجهود من أجل نشر الدعوة الإسلامية وفقا لقواعد وشروط الدعوة إلى الله من حيث الجدال بالتي هي أحسن والبعد عن الإكراه في الدين والقسر الفكري، والتزام الحق والصدق واستقامة الأخلاق.


ثم إن المسألة هنا لا تقف عند حد الدعوة بالأقوال واللسان والحروف والكلمات، وإنما التحرك على أرض العمل والواقع والسلوك قرين الدعوة الكلامية، حتى أن "الآخر" عندما يلمس فيك الصدق واستقامة الأخلاق، والحرص على إغاثة الملهوف، وفتح القنوات والسبل أمام الناس كي يزدادوا عملا صالحا وحركة في سبيل خير الأمة والناس أجمعين، ربما يستجيب على الفور لما تعتنقه وتؤمن به وتدعو إليه، دون ما بذل الجهد الشاق من أجل دعوته إلى الدين إذا لم يكن مسلما أو دعوته إلى استقامة الطريق إذا كان قد انحرف.


ومن توفيق الله لأهل دعوته أنْ عرف عدد غير قليل من المسلمين الطريق الصحيح في هذا الاتجاه فتكونت هيئات ومنظمات وجمعيات وروابط من أجل الدعوة إلى الله والعمل الصالح، وتُوج هذا بإنشاء ما عرف بالمجلس العالمي للدعوة والإغاثة، الذي انتشرت مؤسساته وتنظيماته ومؤسساته في مختلف أنحاء العالم، حيث تشير وثائقه إلى أن العمل الخيري الإسلامي قد أنشأ ما يزيد عن عشرين ألف مسجد تقدر بمئات الملايين والدولارات، كما أنشئت عشرات الآلاف من المدارس والمؤسسات التعليمية والتربوية والثقافية والعلاجية، وقدمت المنظمات التعليمية والدعوية عشرات الآلاف من المنح الدراسية للطلبة من مختلف الأقطار والقارات، وفي مختلف فروع الفنون والعلوم تقد بمئات الملايين من الدولارات.


ولأن أمرا مثل هذا من شأنه أن يقوي شوكة الإسلام والمسلمين، وينشر ويذيع الإسلام في ربوع العالم، وجدنا الكارهين لهما يتفننون في وضع العراقيل والعقبات، وبذر الشكوك والألغام. وساعدهم على ذلك مع الأسف الشديد ما حدث في الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 في الولايات المتحدة، إلى الدرجة التي وجدنا في المحصلة النهائية حتى اليوم، لو كان هناك تتبع وفحص وحصر، أن المسلمين دفعوا أضعاف أضعاف ما خسرته الولايات المتحدة نتيجة هذا الحادث.


بل إننى أكاد أحدس أن "الآخر" ربما سعد بما حدث، حتى يمتلك المبرر لشن الحرب على الدعوة والإغاثة باسم الحرب على الإرهاب، وخاصة ما سموه "تجفيف ينابيع الإرهاب" بتتبع الأعمال التي تقوم بتمويل المشروعات الخيرية في مختلف أنحاء العالم، والتعامل معها بأنه "ستار" لتمويل جماعات العنف المسلح وما يسمى بالإرهاب، واتخاذ كافة الوسائل،وسن القوانين لمطاردة هذه الأموال والأعمال!


ولعل ما يؤكد أن " الغيظ " كان موجودا، لكنه كان مكتوما، وأن الخطط كانت شبه جاهزة للانقضاض على الكثير من صور الدعوة والإغاثة، ما نشرته جريدة الهيرالد تربيون الإنجليزية في العدد الصادر منها يوم 21/2/2000، أى قبل حادث 11 سبتمبر، حيث أشار مقال منشور فيها ل " جوديت ميللر " يوضح أن المسؤولين الأمريكيين يحققون منذ سنوات في عمليات الإرهاب الدولى، وأنهم توصلوا إلى خيط مشترك يربط العمليات الإرهابية بالمنظمات الخيرية ومنظمات الإغاثة الإسلامية، حيث زعموا أن هذه المنظمات تشارك في نقل المال والرجال والسلاح عبر الحدود.


ولو سقنا مثالا فسوف نجحد أن مؤسسة مثل مؤسسة الحرمين الخيرية، قد تأسست في المملكة العربية السعودية عام 1988، وعرفت بأنها صاحبة مساهمات رائعة وضخمة في إغاثة المتضررين من الكوارث والمجاعات في أفغانستان وكشمير والشيشان وكوسوفا والبوسنة والهرسك والصومال وغيرها.

فكان أن استأثرت باهتمام العاملين على " تجفيف ينابيع الدعوة الإغاثة " فإذا بها تخضع لمراقبة ومتابعة الحكومة الأمريكية طوال التسعينيات، حتى جاءتها الفرصة عام 2001، فأخذت تسعى وتعمل إلى أن أصدرت الأمم المتحدة مع الأسف الشديد قرارها الدولى بتجميد أرصدة فروع المؤسسة في أندونيسيا وباكستان وكينيا وتنزانيا، ثم اتسعت دائرة المطاردة والتحريم، فإذا بهذا يتكرر حيث أغلقت مكاتبها في أفغانستان وألبانيا وبنجلاديش وأثيوبيا وهولندا، ووصل الأمر إلى حد أن قامت أجهزة الأمن الفيدرالية الأمريكية بمداهمة مكاتب المؤسسة في سبرنج فيلد بولاية أوريجون، ومسجد الحرمين في سبرنج فيلد بولاية ميسورى، ودفع هذا الحكومة السعودية إلى أن تصدر قرارا بإغلاق مكتب المؤسسة الرئيسى في الرياض في 22/7/2004.


المثير للدهشة حقا، وما يرسم علامات استفهام، هو أن المؤسسة استطاعت أن تحصل – بالقانون – على حكم المحكمة الفيدرالية الأمريكية نفسها بالبراءة مما ألصق بها من تهم ظالمة، وكان حكم البراءة شاملا كافة التهم!! لكن المؤسسة لم تستطع أن تتخلص تماما مما لحق بسمعتها من سوء، وما أحيطت به من شكوك.


وتعددت صور الحرب على العمل الخيرى الإسلامي، وخاصة ذلك الذى كان قد بدأ ينتشر في دول أوربا وأمريكا، فمن ذلك: المحاصرة والمراقبة، وشن الحملات لمداهمة مقار المؤسسات والتفتيشس، وإجراء التحقيقات التى قامت على الإهانة والازدراء والإرهاق الشديد حتى تضمن " تطفيش " المتطوعين، مهما انتهت هذه التحقيقات والتفتيشات إلى التبرئة!

وكان من هذا أيضا العبث بالأوراق والأدوات والوثائق أثناء التفتيش، والتوسع في إصدار قرارات مصادرة الأرصدة، واعتقال قادة المنظمات الخيرية الإسلامية والعاملين فيها، وإصدار قوائم متتابعة بأسماء المتبرعين والمانحين من أجل التشهير بهم وإلحاق الأذى بسمعتهم، حتى في بلادهم والنظر إليهم بعين الريبة والشك وكأنهم أعوان سفك الدماء البريئة وتدمير المنشآت ومشاريع الإعمار والتنمية في أنحاء العالم!!


وبتحريض من اللوبى اليهودى في الولايات المتحدة والمتعاطفين معه وجدنا حكومة الولايات المتحدة تصدر قوانين وقرارات مما يستهدف محاصرة العمل الخيرى والدعوى الإسلامى من أجل خنقه أو تعجيزه عن الحركة والعمل، فمن ذلك على سبيل المثال:

- قانون الإرهاب، حيث يقوم على الخلط بين المقاومة المشروعة ضد قوى البغى والاحتلال، وبين الأعمال تلك الأعمال التى تدمر وتخرب، مما يمكن وصفه بالأعمال الإجرامية التى تدينها الشريعة الإسلامية نفسها.

- قانون الجريمة بالانتساب، ويستهدف بث الخوف في قلوب المتبرعين من أهل الخير بحيث لا يقبلون على التعامل مع المؤسسات الخيرية الإسلامية حتى لا يلحقهم سوء السمعة والاتهامات المخيفة حقا.


- تعطيل قانون حرية المعلومات في أمريكا، وذلك بقصد تكبيل حريات المسلمين واعتقالهم دون حسيب أو رقيب، مع فرض التعتيم على المعلومات وإعاقة الحصول عليها وتداولها.

وما يثير الدهشة ويوجع حقا أن بعض الحكومات الإسلامية والعربية، حتى تبعد عن نفسها تهمة الدول الراعية للإرهاب، راحت هى الأخرى تتفنن في وضع القيود والعراقيل وبث الشكوك في العاملين على طريق الدعوة والإغائة، حتى إننى لأذكر أن البعض – منذ عدة سنوات – قد نبه إلى أن إذاعة القرآن الكريم في مصر، تتسلل من خلالها أفكار داعمة للإرهاب، ومن ثم يجب النظر إليها والتعامل معها باعتبارها ينبوعا من الينابيع التى ينبغى أن " تجفف "، وكان رد الفعل السريع والذى – من حسن الحظ لم يستمر إلا قليلا – تبدى في قصر عمل الإذاعة على إذاعة آيات القرآن الكريم، دون حاجة إلى تلك البرامج التى يتحدث من خلالها العديد من عملاء المسلمين ودعاة الإسلام، ومعظمهم من أساتذة الأزهر وبعض الكيات الجامعية الأخرى!


لقد تساءل الناس وقتئذ: وما جدوى هذه الإذاعة إذا اقتصرت على إذاعة أشرطة المقرئين؟ فلنموفر هذا كله، حيث لدى الكثيرين مثل هذه الأشرطة!!

وتعدى ذلك إلى أنشطة أخرى ومجالات متعددة، يلقى فيها الإسلاميون حربا لا هوادة فيها، متعددة الأسلحة، متنوعة الحجج والمبررات، حتى أصبح المسلم القابض على دينه وكأنه بالفعل قابض على قطعة من الجمر!! وأين؟ في بلاد العرب والمسلمين، حتى أن بعضنا أصبح لا يغضب مما يحدث للإسلام والمسلمين في بلدان أوربا وأمريكا سائلا نفسه: إذا كانت بلادنا العربية الإسلامية تفعل كل هذا الذى نعرفه، وما لا نعرفه ربما يكون أكثر، فلماذا نلوم الأجانب؟!

ــــــــــــــــــ

د. سعيد إسماعيل على

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة