الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الداعية في مواجهة الآخر.. الانطلاق من النقطة الخطأ

الداعية في مواجهة الآخر.. الانطلاق من النقطة الخطأ

الداعية في مواجهة الآخر.. الانطلاق من النقطة الخطأ

أعادت أحداث الحادي عشر من سبتمبر العلاقة بين الإسلام والغرب إلى نقطة الصفر، حيث الألغام تنتشر تحت أقدام من يحاولون عبور الهوة بين الجانبين، وأزمة الثقة وسوء الفهم والاتهامات المتبادلة تسيطر بصورة خاصة على المربع الغربي، في حين تولى المسلمون دور الدفاع عن دينهم من اتهامات هو بريء منها.
وما يهدف إليه هذا التحقيق هو تقديم تصور سليم للعلاقة بين الداعية المسلم والآخر، ووصف السلبيات في العلاقة الحالية، ورسم المنهج الصحيح الذي يجب اتباعه لتصحيح صورة الإسلام، وإقامة ما يسمى بحوار الأديان والحضارات على أسس سليمة، لا يكفي معها حسن النية وحده، وهو الأمر الذي أدى إلى فشل الحوارات السابقة.

الحوار والتراجع المرفوض
يقول الأستاذ الدكتور طه الدسوقي، أستاذ العقيدة والأديان بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر: إن العالم الإسلامي امتلأ في الفترة الأخيرة بصيحات تردد صداها في كل ركن من أركانه، تتحدث عما يجب على المسلمين أن يفعلوه في علاقاتهم بغيرهم من الشرقيين أو الغربيين، وهذه الصيحات تطالب المسلمين والغربيين جميعًا بنبذ فكرة الصراع بين الأديان والحضارات، وأن يسعوا إلى الحوار في كل المجالات بما فيها الدين.
ويضيف د. الدسوقي: لكن هذه الصيحات تلاحقت بسرعة مذهلة لتكشف عن النوايا وراءها، كما وضعت دعاة هذه الفكرة في العالم الإسلامي على وجه الخصوص في حرج بالغ أمام التاريخ وأمام أممهم، وبناء على هذا الكشف فإن فكرة الحوار فيها مغالطات كثيرة، تبدأ من كلمة الحوار نفسها والذي يجب أن يسلكه الداعية في التوجه نحو الآخر، إذ إنه علينا أن نفهم أنه إذا كان الحوار دائرًا حول ثقافة أو دين أو غيره فلا بد أن يقوم كلا المتحاورين بالتنازل شيئًا ما عن مبادئه وثوابته، أو يلزم ذلك أحدهما على الأقل.

وأمام هذا التراجع، فإن غير المسلمين أعلنوا إعلانًا جازمًا أنهم ليسوا في مجال الحضارات مستعدين أن يتنازلوا عن شيء ولا حتى " قلامة ظفر" على أساس أن حضارتهم وثقافتهم هي الحضارة والثقافة المعصومة من الخطأ، وعلى المسلمين وحدهم أن يتنازلوا عن أشياء كثيرة تتصل بشريعتهم اتصالا مباشرا، حتى لو كان يحكمها نص لا يقبل التأويل.
ويضيف د. الدسوقي: والشيء الغريب أن كثيرًا من المنادين بالحوار أو التوجه نحو الآخر من المسلمين قد تنازلوا متطوعين أو مأجورين؛ فدعوا إلى إحداث تغييرات في الشريعة وفي الفقه الإسلامي، وإعادة صياغة الشريعة والفقه على أسس غربية، من نحو فقه الواقع وفقه المصالح وفقه المقاصد أو أي فقه كان ما دام ذلك يخدم فكرة حوار الأديان !
ويؤكد د. الدسوقي مرة أخرى على أن ظلال كلمة الحوار أو التوجه نحو الآخر يؤكد أنه يجب أن يلزم أحد الطرفين - نحن والآخر- أن يتنازل مقهورًا عما لديه من أسباب الحضارة، وهو ما يفضي إلى سهولة الانقياد والتبعية للآخر من غير شعور بالأنفة أو التمسك بأسباب العزة، والحوار مع الآخر في ظل هذا المفهوم لا يعني إلا أن يتنازل المسلمون قهرًا أو طواعية عما لديهم من الشريعة والشعيرة، ويلتزم فقط بما في الإسلام من أخلاق كالصدق والرحمة والإحسان وغيرها من الصفات الحميدة.

أما في مجال العقائد - والكلام ما يزال للدكتور الدسوقي - فعلى المسلمين أن يضمروا في قلوبهم فكرة التوحيد، وألا يجاهروا بفكرة التنزيه لله تعالى، وألا يعلن المسلمون أن باب النبوة قد أغلق فضلاً عن المجاهرة بدعوى النبوة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، فضلا عن أنه هو خاتم المرسلين.
ويعلق قائلاً : إنه إذا كان هذا هو مفهوم كلمة الحوار بما فيها من تعميم وتدليس وما لها من أبعاد وظلال، فإن المراد من هذه الكلمة ما كتبه بعض المفكرين المسلمين المصريين يطلب الوفاق بين الديانات، ويطلب الوحدة بين أصحابها تحت مظلة " الإبراهيمية " ، فجميع الأنبياء من سلالة إبراهيم، وعلى تابعي الأنبياء أن يتحدوا تحت مظلة الأب الرحيم، ونحن لا يخفى علينا ما في هذه المقولة من مغالطة تضر بالديانات جميعا والضرر الأكبر سيقع على الإسلام.

وبناء على ما سبق يؤكد الدكتور الدسوقي قائلا: إنه بعد أن ظهرت الفلسفات الاجتماعية المختلفة لم يحظ اثنان متحاوران بالاتفاق على مبادئ للحوار أو المواجهة، بل يتربص الكل بالكل، وحدث ما سمي بالحرب الباردة بين الشيوعية ذات الوجه الماركسي والرأسمالية الغربية ذات الفكر الصليبي، وكل يملك عوامل هدمه، أما الإسلام ففيه عناصر بقائه واستمراره، وهذا ما طالب به نيكسون في كتابه "الفرصة السانحة" حيث طالب بسحق كل مناوئ للفكر الغربي الصليبي.
ويقول د. الدسوقي: في اعتقادي أن الغرب (الآخر)، والأمريكان على وجه الخصوص، يرفضون فكرة التبادل والاستفادة من الآخرين، ويعتبرون أن ثقافتهم وحضارتهم هي وحدها التي تملك حق الحياة ولا ينبغي لغيرهم أن تكون له ثقافة أو تقوم لهم قائمة، والتاريخ طبعًا يكذب هذا الادعاء وينفيه كما أن فطرة الإنسان ترفض ذلك وتجافيه.

يقظة ضد المؤتمرات
الأستاذ الدكتور عبد الستار فتح الله سعيد، أستاذ الشريعة بجامعة الأزهر، يؤكد أن دور الداعية في مواجهة الآخر يستدعي يقظة الداعية الشديدة، باعتبار أن حوار الحضارات أو الأديان ومعظم ما يقال عنها مؤامرات يهودية يقصد بها استدراج المسلمين لتمييع مواقفهم الصارمة من انحرافات أصحاب العقائد والكتب السابقة.
ومع تأكيد د. سعيد على دعوة الإسلام للحوار وإرساء قيم مثل حفظ العقل واحترامه واستخدامه من قبل المسلمين حكمًا بين طرائق البشر وأفكارهم ومذاهبهم، إلا أنه يؤكد على وجوب التفرقة بين الحوار الجاد والمواجهة الشريفة التي تستهدف بيان الحقائق وإقامة الحجج والبراهين، وبين الحوارات المفتعلة التي تهدف إلى نتيجة مرسومة سلفًا، وهي زعزعة القاعدة الصلبة، وهي أن الإسلام خاتم للأديان، ومحفوظ الكتاب والسنة، وباعتباره دينا عالميا طبق في الأرض لأكثر من 1400 عام، ولن ولم تقم فيه هيئات كهنوتية تملك تغيير معالمه وحقائقه، وإنما ظلت المرجعية الدائمة لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وفهم العلماء المشهود لهم بالتقوى والصلاح.

ويضيف د. سعيد: إذا كان الغرض من الحوار هو فهم الآخر وأن يفهمونا فهذا أمر طيب، وطالما أوصلنا ذلك إلى التعايش في سلام وإنصاف بين الطرفين، وذلك رغم حكم الإسلام بزيف وخطأ ما عليه أهل الكتاب في العقائد .. رغم ذلك جعل الإسلام لأهل الكتاب منزلة خاصة في التعامل والتعايش ، بل قال الله تعالى في أحد المواضع : " ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن " ، فلم يأمر بالجدل بالحسنى فقط وإنما بالتي هي أحسن إلا مع الظالمين منهم والذين خرجوا عن كل حدود الفعل والفكر.

أيضًا لم يظفر أهل الكتاب في تاريخهم - والحديث ما يزال للدكتور عبد الستار فتح الله سعيد- بمعاملة حسنة إلا في ظل الدولة الإسلامية في مختلف أنحائها، وخاصة أعداء الله اليهود، والتاريخ يشهد بذلك.. لكن هذا الآخر ينظر إلى المسلمين وعلى مر التاريخ نظرة ترصد، وحدثت انتهاكات كثيرة للمسلمين في الدول التي عاشوا فيها كأقليات، والتاريخ القريب يؤكد ذلك في البوسنة والهرسك، وروسيا والهند وغيرها من الدول.
ويؤكد د. سعيد أن الأمة الإسلامية صاحبة رسالة، ولا بد أن يسبقوا الجميع إلى الحوار، ولكن مع الحيطة الشديدة حتى لا نقع في شرك الخديعة، والتي تهدف إلى جر المسلمين إلى التخلي عن ثوابت دينهم وتقبل جزء أو أجزاء من أباطيل غيرهم (الآخر)، فيفقد المسلمون حينئذ تميزهم وتفردهم بالحق في الأرض، وهذا التفرد ليس امتيازًا شخصيًا للمسلمين، وإنما هو الوحي الإلهي الصحيح الذي قام عليه الدليل والبرهان لأكثر من 1400 عام، ولذلك يجب الحذر بشدة.
ويؤكد د. سعيد مرة أخرى على ضرورة أن تكون مواجهة الآخر أو الحوار معه عائدا إلى أمرين مهمين هما:
أولا: المرجعيات الدينية الصحيحة
ثانيا: نوعية الأشخاص المكلفين بالدخول مع الآخر في جدال أو نقاش، حيث يجب أن يكونوا مشهودا لهم بالصلاح والتقوى أولا والاعتزاز بالإسلام ثانيا، فضلا عن الكفاءة.

الحوار حول أسس الإسلام
أما الدكتور عبد العظيم المطعني الأستاذ بجامعة الأزهر فيقول: إن الحوار مع الآخر أو مواجهته .. الحكم حيالها يجب أن يضع في اعتباره التجربة التي مر بها هذا الحوار، وهي تجربة لم تحقق أي نجاح، وهو حركة لكنها تقف في مكانها، وكان هذا شيئًا منتظرًا.
والسبب في فشل الحوار بين الأديان لا يرجع إلى المسلمين، فالإسلام هيأ أتباعه مبدئيًا للمشاركة في الحوار، وقد دعا إليها القرآن منذ 1400 عام عندما قال تعالى : " قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله وألا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون " ، فهذا هو أساس الحوار من جانبنا كمسلمين، وما يترتب على ذلك أن الإسلام يتيح حرية الاعتقاد بألا يجبر أحدًا أن يعتنقه بقوة السلاح، كما يدعو إلى مسالمة جميع من يختلف معنا في العقيدة، وأن نودهم ونبرهم ونحسن إليهم إلا إذا قاتلونا في الدين وأخرجونا من ديارنا أو ساعدوا عدوا علينا، ففي هذه الحالة لا بد من المعاملة بالمثل.
ويضيف د. المطعني أن الإسلام جوز كل ألوان التعامل مع الآخر مثل حله لطعام أهل الكتاب والمصاهرة منهم، ولا يطلب من الإسلام أكثر من ذلك، ومهما عقدوا من لقاءات أو ندوات وطرحوا من أفكار من خلال الحوار أو المواجهة فليس عندنا كمسلمين أكثر من هذا، وعليهم أن يعاملونا بالمثل، فيعترفوا بديننا وبرسولنا وبقرآننا كما نعترف نحن بهم، أما وهم يرفضون كل هذا فلا أمل من الحوار معهم لأنهم يريدون التحاور في أسس الإسلام والتفاوض عليها بدافع عزلنا عن الإسلام، والإسلام فوق هذه التوهمات.

محقق ومتهم
ويقول الأستاذ الدكتور محمد يحيى أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة القاهرة والكاتب الإسلامي المعروف باهتمامه بشأن الحوار مع الآخر: ما يحدث الآن ليس إلا جلسات تعقد بين أشخاص يفترض أنهم يمثلون الأديان - إما الكنيسة وإما الإسلام- ونحن معنيون بمن يقومون بمواجهة الآخر أو التحاور معه، حيث نؤكد أن هؤلاء الأشخاص في الغالب الأعم أشخاص معينون من جهات رسمية، وليست لديهم الحماسة الكافية في الحوار أو النقاش أو مواجهة الآخر، وهذا يحدث مع إمكانية وجود أشخاص من الكنيسة مثلا، لكنهم لا يتمتعون بالاستقلالية التامة عن أية جهات رسمية، وإنما يمثلون مراكز أنشئت في الغرب لهذا الغرض تتمتع بكثير من الخبرة والكفاءة.
ويضيف د. يحيى أن الواقع يؤكد أن تجارب المواجهة مع الآخر والحوار معه تجربة مليئة بالسلبيات ؛ لأنها على سبيل المثال سعت من جانب ممثلي الإسلام إلى الاعتراف بالكنيسة الغربية دون أن يكون هناك اعتراف منها بالإسلام، كما أنها تحولت إلى جلسات توجيه اتهامات إلى الإسلام ودفاع من ممثليه، وأصبحنا أمام جلسة تحقيق ومتهم وتهم!!
والأخطر في الأمر أن المتهم "وهو الإسلام" يتم الدفاع عنه بنوع من الاعتذار ووعد بالإصلاح في المستقبل، وهذا طبعًا ليس حوارًا وليست مواجهة.

الحوار مع النفس أولاً
الدكتورة نادية مصطفى أستاذ العلاقات الدولية بجامعة القاهرة ورئيس مركز الحضارة للدراسات السياسية تنظر للقضية بشكل علمي ، وتقول: في موضوع مواجهة الآخر أو حتى التحاور معه، لا ينبغي التركيز على الأدوات والقنوات والوسائل المطلوب التحاور بها مع الآخر فقط، ولكن على مضمون الخطاب الذي يجب أن تحمله وضوابط الإعداد لهذا الخطاب، وهذا الأخير محكوم بدوره بأزمتنا الفكرية والسياسية والاقتصادية.
وتضيف: إن تداعيات أحداث سبتمبر 2001 بالنسبة لوضع الإسلام والمسلمين تعلن عن تدشين الهيمنة الحضارية علينا والإقصاء الحضاري لنا، وهنا يجب علينا:
1. أن نواجه هذه المرحلة باستراتيجية جديدة لا تقوم فقط على الدفاع عن الإسلام والمسلمين والاعتذار عنه كما حدث في المبادرات والحوارات السابقة مع الغرب، ولكن بالانتقال إلى الهجوم وعدم التعامل كمتهمين، ويتطلب هذا أن يتضمن خطابنا المطالبة بإثبات الفاعل في أحداث 11 سبتمبر وتوجيه الاتهام إلى بدائل أخرى -غير تنظيم القاعدة- مثل اليمين الغربي أو الموساد، وبتعبير آخر يجب ألا نسلك طريقًا حددته الولايات المتحدة للمتهم وللفاعل والتي يحصد المسلمون ثمارها الآن.
2. ثانيا أن ندفع عن أنفسنا كعرب ومسلمين تهمة أننا لا نقبل الآخر، لأن الصراع ليس مع الذات فقط لنقبل الآخر - داخليًا وخارجيًا - ولكن الصراع في مواجهة الآخر ليكف عن رفضنا من ناحية، ولنعرف ما هي حدود وضوابط قبول الآخر أو رفضه.
أمر آخر في غاية الأهمية، وهو تحديد مفهوم الإرهاب والجهاد الإسلامي وبيان ضوابطه للحيلولة دون تحوله إلى إرهاب بالمعنى الشائع، وبيان متى يكون استخدام القوة جهادًا ومتى يكون عنفًا.

وتقول د. نادية: إن الوجه الآخر للعملة هو أن نتجه نحو الذات، فنحن لسنا مطالبين بالهجوم على النظام الدولي فقط لإفرازه الإرهاب، ولكن على النظم الداخلية التي أفرزت أيضًا الإرهاب، إن صح التعبير، ويجب أن نتفهم مسؤولية التغيير في سياساتنا ومجتمعاتنا التي انقطعت تدريجيًا عن المرجعية الإسلامية، بحيث إذا ظهر من يريد العودة لهذه المرجعية والاجتهاد انطلاقًا منها حول المجتمع والسياسة، أو من يرفض المظاهر السلبية لتأثير القيم والسلوكيات الغريبة على مجتمعاتنا لا يصبح بين عشية وضحاها متطرفًا، أو يتحول في نظر المجتمع إلى إرهابي.
كما يجب - كما تقول الدكتورة نادية- التمييز بين مشروعية الشعور بالذات والخصوصية وبين مشروعية رفض الآخر، وليس لأنه (آخر) ولكن لأنه يريد استيعابي وإقصاء خصوصيتي.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة